تكتسب
الدول الواقعة بين قارات وثقافات مختلفة هوية متعددة تستعصي كثيرا على الفهم
والتحليل. فهي تارة جسرا للتواصل البشري والحضاري وهي فتيل لتوترات ومشاحنات تارة
أخرى؛ الأمر تحكمه البوصلة الحضارية وتدفق الأحداث والحروب. من هذه الدول
تركيا
التي تخوض مرحلة مفصلية في تاريخها الحديث، مع
انتخابات رئاسية وبرلمانية تتزامن
نتائجها النهائية مع ذكرى فتح القسطنطينية التي تحل يوم 30 أيار/ مايو الجاري.
تقع
شخصية الرئيس رجب طيب
أردوغان في قلب هذه الانتخابات وفي قلب الأحداث التي تموج في
هذه البقعة من العالم بين الشرق والغرب، والرجل أقرب لكونه ظاهرة من كونه رئيسا.
والفرق بين الظاهرة والرئيس أن الأولى غير خاضعة لمعايير التحليل لأسباب موضوعية
وليست حزبية، أما الرئيس فهو كأي فرد أو موظف عام يخضع بسهولة لمعايير التحليل
السائدة سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو حتى الشخصي كما سنوضح لاحقا.
وربما يفسر هذا التقلب في التعامل معه في وسائل الإعلام الغربية التي تارة تصفه
بالديكتاتور وتارة بغير ذلك، بعد أن كان قبل سنوات المصلح الأكبر وباني الجسور
الحضارية بين الشرق والغرب.
الرجل أقرب لكونه ظاهرة من كونه رئيسا. والفرق بين الظاهرة والرئيس أن الأولى غير خاضعة لمعايير التحليل لأسباب موضوعية وليست حزبية، أما الرئيس فهو كأي فرد أو موظف عام يخضع بسهولة لمعايير التحليل السائدة سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو حتى الشخصي
وفقا
للمعايير النيوليبرالية فأردوغان يمثلها خير تمثيل، فهو يشجع اقتصاد السوق ويحض
على الاستثمار وبعيد عن دخول الدولة بشكل مباشر في كل القطاعات بشكل يتناقض مع
رؤية اليسار، أي أنه يمثل الأجندة الليبرالية في الاقتصاد، ووفقا للمعاير التقدمية
أو يسار الوسط، فهو يتبنى خطابا تصالحيا مع الأقليات والمهاجرين؛ بعكس خصومه من
اليسار التركي الذين يتبنون أجندة يمينية متشددة تجاه المهاجرين واللاجئين على عكس
اليسار الأوروبي والأمريكي، أي أن أردوغان ليبرالي الاقتصاد، يساري الخطاب
الاجتماعي.
وهو
في ذات الوقت حاكم مستمر في السلطة منذ أكثر من عشرين سنة في مواقع مختلفة من رئيس
وزراء وحتى رئيس جمهورية، وهو تعريف في الأدبيات الغربية يتقاطع مع الحالات
الدكتاتورية في العالم رغم أنه يأتي في كل مرة عن طريق انتخابات حرة لا يشكك أحد
في نزاهتها. ولهذا يحاول كثير من المحللين وضعه في كفه واحدة مع الرئيس الروسي
فلاديمير بوتين، بسبب القرب الجغرافي والمسحة الشرقية الثقافية ومحاولة التعامل
الندي مع الغرب بالإضافة للطول النسبي في البقاء في الحكم. لكن المعضلة تظهر سريعا؛
أن أردوغان ليس بوتين وروسيا ليست تركيا، حتى من ناحية الحفاظ على المصالح الغربية
سواء في ملف اللاجئين أو حتى مواجهة التمدد الروسي في أفريقيا. بعبارة أخرى، فإن
وصف البراغماتية أو التعامل العملي المجرد من الأيدلوجيا والأحكام المسبقة غير كاف
في الحكم على أردوغان ولا على سياساته.
أفضل مثال لها هو المرشح المنافس له، كمال كليتشدار أوغلو، الذي وجد نفسه مضطرا لمحاكاة أساليب أردوغان من أول طريقة الحديث وحتى التقلب في أخذ المواقف الجريئة، فأصبح الأمر مثار سخرية وتندر بسبب الهوّة الواضحة بين مرشح رئاسي وظاهرة فريدة في السياسة
في
علم أصول الفقه هناك قاعدة هامة تصلح للتطبيق في مناح كثيرة في الحياة، وهي أن
الاستثناء لا يؤخذ به ولا يقاس عليه، وهي تنطبق على هذه الظاهرة الأردوغانية،
وأفضل مثال لها هو المرشح المنافس له، كمال
كليتشدار أوغلو، الذي وجد نفسه مضطرا
لمحاكاة أساليب أردوغان من أول طريقة الحديث وحتى التقلب في أخذ المواقف الجريئة،
فأصبح الأمر مثار سخرية وتندر بسبب الهوّة الواضحة بين مرشح رئاسي وظاهرة فريدة في
السياسة.
اقتربت
صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية كثيرا من هذه الظاهرة مؤخرا عندما وصفت أردوغان
بنجم موسيقى الروك. فبالفعل، الناس الذين يذهبون إلى تجمعاته الانتخابية بعشرات
الألوف لا يذهبون لرؤية زعيم يمكن أن يشاهدوه بسهولة على شاشات التلفزيون والهواتف
المحمولة، ولكن يذهبون لسماع طرب نجم موسيقي يخلق حالة فنية في خطاباته، ويستخدم
الكوميديا والدراما والميلودراما ويُبكي ويُضحك الحضور، ويشنّف آذانهم بأبيات
الشعر المختلفة. وبالمناسبة، فإن الشعر والشعراء يحتلون مكانة مميزة في الثقافة
التركية، وهو الوتر الذي يجيد أردوغان العزف عليه دوما في حديثه.
twitter.com/HanyBeshr