لا يمكن تحليليا قراءة أي مشهد من مشاهد
المنطقة دون اعتبار الحدث الأعظم الذي ميز السنوات الماضية منذ 2011 متمثلا في
ثورات الشعوب. هذا الحدث هو أهم المتغيرات التي أثرت ولا تزال على مسار المنطقة
سياسيا واجتماعيا وفكريا، فكل ما يجري اليوم هو حصيلة موضوعية لهذا الحدث الخطير، مهما حاولت أذرع الإعلام الرسمي تغييبه.
التيارات والأحزاب والنخب والمدارس الفكرية
السياسية كانت في قلب هذا الحدث، دون ذكر الفترة التي سبقت الثورات والفترة التي
نعيشها اليوم. أخطر هذه التيارات التي تحالفت مع الاستبداد ضد مطالب الشعوب وبررت
القمع ودعمت الانقلابات وشاركت فيها، هي دون شك التيارات العروبية القومية التي
أحرقت آخر الرصيد المتبقي لها. لكن تيارين كبيرين آخرين أصابهما شلل كبير خلال
السنوات الأخيرة وتآكلت قواعدهما بشكل ملحوظ، وهو ما يؤشّر على نهاية طور مركزي من
أطوار النخب
العربية.
نهاية التيارات العلمانية
لا نقصد بمصطلح الموت النهاية الوجودية، بل
نعني به نهاية وجودها بالشكل الذي كان لها قبل الثورات بعد أن قدّمت نفسها
ومشارعها الفكرية والسياسية، باعتبارها البديل الممكن أمام التيارات الدينية
والتيارات المحافظة بشكل عام. نشأت هذه التيارات خارج المنطقة العربية وتلقت الدعم
والتمويل في جزء كبير منها من مصادر غربية تقاطعت مصالحها معها بعد فترة الاستقلال
الموهوم في منتصف القرن الماضي. ثم تمكنت من التحكم في مفاصل كثيرة داخل السلطة في
بلدان عربية عديدة تحت مسميات كثيرة مثل اللبرالية والعلمانية والحداثية والتنوير، خاصة في المجال الفكري والثقافي والأكاديمي المعرفي.
تميزت هذه التيارات بحربها الضروس ضد
التيارات الإسلامية، فتحالفت مع القوى القومية واليسارية لتحقيق نفس الهدف، وهو ما
تسبب في حروب سياسية طاحنة بين هذه التيارات أفرغت المنطقة من جهودها في البناء والتنمية.
من جهة أخرى عجزت التيارات العلمانية الليبرالية عن تحقيق الحدّ الأدنى من الوعود
والشعارات التي رفعتها، سواء في مجال الحقوق والحريات أو في مجال العدالة
الاجتماعية، أو حتى في مجال النهضة الاقتصادية.
رغم كل الدعم الذي حظيت به هذه المجموعات، ورغم شبكة التحالفات التي كونتها ومكّنتها من مفاصل مركزية في الدولة والاقتصاد
والمجتمع، إلا أنها انتهت إلى مجاميع للفساد وظهير متين للقمع والاستبداد. لقد
أظهرت الثورات العربية كيف نجحت هذه المكونات في محاربة المسارات الديمقراطية، بعد
أن اصطفت إلى جانب الدولة العميقة وقوى الثورة المضادة ضد مشاريع التحرر ومسارات
التغيير، لا ضد الإخوان أو الإسلاميين كما يزعمون.
لم تكن شعارات التنوير والحداثة والحرية
والانفتاح ومحاربة الظلامية إلا أقنعة باهتة لمشاريع التغريب ومحاربة هوية الأمة
وشعوبها، والتغطية على جرائم الاستبداد وأنظمة الوكالة الاستعمارية بما هي الحرس
الوفي للقوى الخارجية.
هذه النهاية التي توجتها الجماعات العلمانية
بالمشاركة في تخريب كل محاولات الانعتاق من سلاسل العسكر والانقلابات والأنظمة
الشمولية، هي التي تؤشر على نهاية المشروع العلماني والليبرالي في المخيال العربي
اليوم.
انتحار الإسلاميين
على الجبهة المقابلة، كانت مسارات الثورات
كاشفة عن فشل مريع في الأداء السياسي للمجموعات والتيارات الإسلامية، وهي التي كانت
تقف على الجبهة المضادة للتيارات العلمانية اللبرالية. لا نقصد بالتيارات
الإسلامية مجاميع العنف والتكفير والتطرف، التي هي في أصل نشأتها مكونات
استخباراتية تستعمل من طرف بعض الأنظمة الأمنية العربية والقوى الخارجية لتبرير
العنف والقمع. بل نقصد بها التيارات الفكرية والسياسية التي كانت تقدم نفسها على
أنها البديل الممكن للتغيير في المنطقة، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين.
النسق السياسي والحزبي القديم قد انتهى أو هو بصدد الانتهاء؛ فقد كانت الثورات التجربة التي أطاحت بآخر قلاع المعارضة العربية بمختلف أطيافها. لكن هذه النهاية لا تعني اختفاءها وذوبانها، بل تعني أنها أمام خيارين: فإما أن تعيد تشكيل نفسها بواجهة جديدة وخصائص جديدة ومضامين وأدوات جديدة، أو أن تنقرض نهائيا.
سقطت هذه الجماعات في مصيدة السلطة، وكشفت عن
عجز مريع في الأداء السياسي النابع من جهلها العميق بعمق الدولة العميقة وبطبيعة
المجتمعات العربية وردود الفعل الشعبية. كانت سذاجة الأداء السياسي والاقتصادي
والإعلامي أحجار الزاوية في مشروع الفشل هذا، رغم كل التبريرات التي تقدمها والتي
تجمع بين تآمر الخارج وتواطؤ الداخل.
لم تكن المرجعية الدينية والخلفية الإسلامية
كافية لإقناع الجماهير الواقعة تحت إرث الاستبداد والفساد والبطالة وارتفاع
الأسعار والقصف الإعلامي المركّز بالصبر والتريث، بل إن شرائح كبيرة من الشعوب
العربية قد خدعت سريعا بخطاب الثورة المضادة، ورأت أن الثورات لم تحقق لها شيئا، بل
ضاعفت من بؤسها.
على صعيد آخر، عرفت الحركات الإسلامية
انشقاقات كثيرة واختلفت الرؤى والمقاربات داخلها بين فصائل كثيرة، وأخطأت في رسم
شبكة التحالفات السياسية، وعميت عن قدرة الدولة العميقة على الانقلاب على المسارات
الثورية. هكذا سقطت الثورات في الفشل والعنف وخسرت التيارات المحافظة جزءا كبيرا
من قواعدها، وفقدت خاصة كل الثقة التي منحتها إياها سنوات القمع السابقة للثورات.
وبعد؟
من الصعب اليوم التنبؤ بمآلات مختلف
التيارات السياسية العربية، لكن خلاصات مهمة قد تساعد على تكوين تصور موضوعي عن
مستقبل الجماعات السياسية والفكرية العربية.
أول هذه الخلاصات، أن النسق السياسي والحزبي
القديم قد انتهى أو هو بصدد الانتهاء؛ فقد كانت الثورات التجربة التي أطاحت بآخر
قلاع المعارضة العربية بمختلف أطيافها. لكن هذه النهاية لا تعني اختفاءها وذوبانها، بل تعني أنها أمام خيارين: فإما أن تعيد تشكيل نفسها بواجهة جديدة وخصائص جديدة
ومضامين وأدوات جديدة، أو أن تنقرض نهائيا.
ثاني القناعات تتمثل في بداية تشكل طور جديد
من أطوار الفكر السياسي قد يكون بديلا للمدارس السابقة، وتكون نواته القطع مع
المرجعيات الإيديولوجية وبناء أنساق أكثر براغماتية، وأكثر تركيزا على الجانب
الاقتصادي التنموي منها على الجانب السياسي الفكري المعرفي.
ثالث هذه الخلاصات، إنما يترجمها وضع النظام
الرسمي العربي نفسه، وهو النظام الذي لم يتعلم الدرس وأعاد بناء نفسه على نفس الأسس
السابقة للثورات من قمع وفساد ومصادرة للحريات. وهو الأمر الذي يعني أنه يجدد شروط
فنائه وسقوطه بنفسه؛ أي إنه يعيد تشكيل الظروف التي أدت إلى اندلاع الثورات.
نعيش اليوم مرحلة مخاض صامت، يتحرك مضمونه
على إيقاع التراكمات العميقة التي خلفتها الثورات ومن بعدها الانقلابات، وهو المخاض
الذي سيفرز حتما وجها فكريا وسياسيا جديدا للمنطقة برمتها. لن يكون هذا الوجه
منفصلا عن الأحداث الإقليمية والدولية، بل إنه سيتشكل بناء على تأثيرها عليه وقدرته
على الصمود أمامها، مستفيدا من دروس انتكاسة الموجة الثورية السابقة.