كيف يقرأ الإسلاميون العرب تجربة حزب العدالة والتنمية التركي وزعيمه
رجب طيب أردوغان؟ وما هي الدروس المستفادة من هذه التجربة عربيا وإسلاميا؟
الدكتور عبد الرزاق مقّري الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم
الجزائرية، يقدم وجهة نظر في تجربة إسلاميي تركيا، وتحديدا الرئيس رجب طيب أردوغان
في السلطة، في دراسة تنشرها "عربي21" على حلقات، بالتزامن مع نشرها على
صفحة الدكتور مقّري الخاصة في "فيسبوك".
جذور العلمانية التركية
تعود جذور الأول إلى التيارات
التغريبية العلمانية المتشددة من الأتراك والأقليات الدينية والمذهبية التي ساهمت
في إلغاء السلطنة والخلافة، والتي اجتمعت في حزب الشعب بقيادة أتاتورك وتشكلت
أجيال من النخب التركية على مذهبهم في المدارس والمؤسسات والبيئة الثقافية
والاجتماعية العلمانية.
ورغم ميل أغلب مكونات هذا التيار إلى اليسار فلا يمكن تصنيفه كذاك
بسبب الميول الليبرالية لكثير من نخبه، لا سيما في الجيش، وخصوصا بعد الانضمام
للحلف الأطلسي وتحويل تركيا الرسمية إلى قلعة من قلاع الرأسمالية العالمية، ورغم هذا التنوع فإن الشيء الذي يجمع مكونات هذا
التيار هو الدفاع عن علمانية متشددة لها حساسية مفرطة تجاه الإسلام.
ويزداد هذا الاجتماع والتكتل كلما وقع تهديد على النموذج العلماني
المتشدد، مثلما ما وقع مع عدنان مندريس وضد أربكان أو ما هو حاصل اليوم ضد
أردوغان، بل إن ثلاثة من الانقلابات الأربعة والمحاولة الخامسة كانت ضد التمدد الإسلامي، إذ انقلاب 1960 ضد عدنان
مندريس كان بسبب اتهامه بتوفير البيئة للعودة للشريعة، وكانت الخلفية السياسية
لانقلاب 1980 هو صعود التيار الإسلامي بزعامة نجم الدين أربكان والتيار القومي
بزعامة أرسلان توركش الذي لم يكن يعادي الإسلام وكانت المسيرة الشعبية الضخمة التي
نظمها أربكان لصالح فلسطين أيام قليلة قبل الانقلاب بمثابة استفتاء على تمسك الشعب بالهوية الإسلامية،
وكان هذا الانقلاب الأكثر دموية والذي لحقته إجراءات قاسية جدا ضد الحجاب والمظاهر
الإسلامية، وكان هذا الانقلاب مسنودا من الولايات الأمريكية المتحدة مثله مثل
انقلاب سنة 1971 الذي كان سببه ارتفاع المد اليساري، وكذلك كان انقلاب عام 1997 ضد
رئيس الوزراء الإسلامي نجم الدين أربكان بسبب اتساع التعاطف الشعبي مع كل ما له
علاقة بالانتماء الإسلامي. ثم كانت محاولة الانقلاب الفاشلة على أردوغان عام 2016.
إن التطرف العلماني التركي المتحالف مع يهود الدونمة والدول الأوروبية الناهضة كان أقوى من تلك الدولة الضعيفة المريضة المترنحة التي ضيّعت معالمها الإسلامية الأصيلة وذهبت أسس وحدتها وافتقدت في مرحلتي ركودها (1683 ـ 1827) وأفولها (1828- 1908) إلى شروط عودة نهضتها.
أما التيار الثاني فهو التيار الذي تعود جذوره إلى الحركات الإصلاحية
التي كانت تريد استعمال الأدوات الغربية في التحديث والإصلاح السياسي دون التنكر للمرجعية
الإسلامية، وكان بإمكان هؤلاء أن يصلوا إلى الملكية الدستورية لتبقى الخلافة جامعة
للمسلمين وتمثل وحدتهم في كل أنحاء العالم ضمن نظام فيدرالي إسلامي أو أن تُسيِّر
الدولَ المنزوية تحت الخلافة حكوماتٌ ذات سيادة، تتعاون بينها لمصالحها وبما يحقق
مصالح الأمة الإسلامية ووحدتها، وهو النموذج الذي حاربته بريطانيا ضد الدولة
العثمانية و ارتضته لنفسها فصار يتْبعُ مملكتَها دولٌ عظمى ذات سيادة إلى يومنا
هذا ضمن نظام الكومنولث. وربما يتحمل السلاطين العثمانيون شيئا من المسؤولية إذ لم
ينتبهوا إلى ضرورة التغيير في الوقت المناسب.
لقد كان بإمكان السلطان القوي والعبقري
عبد الحميد الثاني أن يساهم في هذا لو لم تحاصره المؤامرات من كل جانب، حتى بين
وزرائه والصدر الأعظم، وقد كانت محاولة المشروطية الأولى (الدستور) سانحة مناسبة
للمرحلة اضطر لتجميدها بسبب الحروب والمخاطر الخارجية العظمى والمؤامرات الداخلية
العميقة، ويمكننا أن نقول أن هذا الرجل العبقري العظيم جاء في زمن المراحل الأخيرة في طور الانهيار وفق النظرة
الخلدونية (الأطوار الخمسة والأجيال الثلاثة)، ولم يصبح ممكنا لأحد أن يصلح الدولة
التي يطلبها طالبون أقوياء وفق ما يبينه ابن خلدون كذلك.
إن التطرف العلماني التركي المتحالف مع
يهود الدونمة والدول الأوروبية الناهضة كان أقوى من تلك الدولة الضعيفة المريضة
المترنحة التي ضيّعت معالمها الإسلامية الأصيلة وذهبت أسس وحدتها وافتقدت في
مرحلتي ركودها (1683 ـ 1827) وأفولها (1828- 1908) إلى شروط عودة نهضتها.
في ظل هذه الظروف العصيبة لم يصبح
النقاش بين المعارضين لحكم السلاطين بمختلف توجهاتهم حول مسألة العلمانية، لقد
أصبحت العلمانية والتحديث على النمط الغربي محل إجماع لديهم، ولكن الاختلاف بات
يتعلق بنوعية التوجهات العلمانية ومكانة الدين في المجتمع التركي ثم جاءت حرب
الاستقلال لتحرير الأراضي التي خسرتها تركيا على إثر هزيمتها في الحرب العالمية
الأولى فتوحدت كل القوى الوطنية تحت قيادة أتاتورك الذي استطاع أن يقود الحركة
التركية الوطنية المتمردة على ما بقي من سلطة الخلافة التي رضخت لقرارات تقسيم الدولة التي فرضها الحلفاء
المنتصرون وفقا لشروط هدنة مودروس سنة 1918 ومعاهدة سيفر عام 1920.
بعد أن نجحت المقاومة التركية أصبح مصطفى كمال أتاتورك زعيما تاريخيا
لا نظير له في التاريخ المعاصر التركي، وبعد استعماله للخطاب الديني في الحرب، ظهر
على حقيقته القومية العلمانية المتطرفة بعد الاستقلال وبات لا أحد يستطيع معارضته،
ورغم دعوته للتعددية الحزبية بقي حزب واحد في الدولة هو حزب الشعب الجمهوري.
بعد وفاة مصطفى كمال أتاتورك بدأت تظهر أحزاب أخرى، كلها قومية
وعلمانية وتمجد أتاتورك ولكنها ليست ضد الدين والعديد من قادتها متدينون، أي أن الأمور رجعت إلى طبيعتها التي كانت عليها
قبل حرب الاستقلال وسقوط الخلافة ببروز التيار الآخر المحافظ عميق الجذور في تركيا
الذي كان يريد إصلاح الخلافة على النمط الغربي وليس تدميرها، وحين تحول الجميع إلى
النظام الجمهوري على إثر حرب الاستقلال لم تكن العلمانية المتشددة المعادية للهوية
الإسلامية قناعة جامعة لديهم. ومن هذا التيار الحزب الديمقراطي وزعيمه الشهيد
عدنان مندريس، وحزب العدالة، وحزب الوطن الأم ورئيسه تورغوت أوزال، وحزب الطريق
القويم، والحزب الديمقراطي التركي المشكل من الحزبين الأخيرين، وهي كلها أحزاب
يمين وسط، ثم حزب الحركة القومية اليميني
المتحالف حاليا مع أردوغان، ويمكن اعتبار الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان من هذا
التيار السياسي العريض، وكذلك حزب التنمية والعدالة وزعيمه أردوغان.
لا شك أن نجاح قائد إسلامي في تشكيل حزب سياسي يضم شخصيات من مختلف التيارات، خصوصا التيار الوطني المحافظ إنجاز كبير، وقد ساعد على هذا الإبداع النادر الخلفية التاريخية للحياة السياسية التركية بوجود تيار قومي متنوع عريق وعريض في تركيا قادر على التعاون بينه يسعى إلى التحديث في الدولة ولكن بالمحافظة على التراث العثماني.
على هذا الأساس حينما يؤكد أردوغان وقادة حزب العدالة والديمقراطية مرات
ومرات بأن حزبهم حزب علماني يجب على قادة التيار الإسلامي في العالم العربي أن
يأخذوا هذه التصريحات على محمل الجد، بل إن حزب العدالة والتنمية هو حزب قومي تركي
محافظ أكثر منه حزب إسلامي. ولا يلغي هذه الحقيقة أن أردوغان نفسه والعديد من
القادة الذين معه من التيار الإسلامي حقيقة، فالحزب حينما تأسس لم يتأسس من
الإسلاميين فقط بل من بين مؤسسيه سياسيون من الأحزاب القومية المحافظة من اليمين
الوسط واليمين من أبرزهم وزيرة الداخلية الأسبق ميرال أكشنار التي استقالت من
العدالة والتنمية في فترة التأسيس لتلتحق بحزب الحركة القومية، والذي أخرجت منه
لاحقاً لتؤسس الحزب الجيد الذي تحالف مع كمال كليتشدار أوغلو ضمن تحالف الأمة (أو
تحالف الشعب)، ومن بين أعضائه كذلك ابنا مؤسس حزب الحركة القومية ألب أرسلان
توركش، مع وجود عدد قليل من أعضائه من التيار اليساري، وأما الأكراد فعددهم كبير،
بعضهم من التيار الإسلامي، وبعضهم من التيار العلماني على نحو ما كانت عليه
الأحزاب الليبيرالية الأقل تمسكا بالتتريك في زمن السلطنة التي كان يفضلها
الناشطون العلمانيون الأكراد. وفي المحصلة ربما الكثير لا يعلم بأنه بالرغم من أن
قيادة حزب العدالة والتنمية ذات جذور إسلامية فإن نسبة الأعضاء الإسلاميين في
الحزب هي النسبة الأقل، وقد يفسر هذا الحقيقة المتناقضة التي لا يفهمها كثير من
الإسلاميين العرب من أن حزبا إسلاميا يصرح قادته بأن حزبهم علماني حتى وإن كانوا
كأشخاص من خلفية إسلامية.
لا شك أن نجاح قائد إسلامي في تشكيل حزب سياسي يضم شخصيات من مختلف
التيارات، خصوصا التيار الوطني المحافظ إنجاز كبير، وقد ساعد على هذا الإبداع
النادر الخلفية التاريخية للحياة السياسية التركية بوجود تيار قومي متنوع عريق
وعريض في تركيا قادر على التعاون بينه يسعى إلى التحديث في الدولة ولكن بالمحافظة
على التراث العثماني.
ويتمثل هذا التيار
اليوم في التوجه ذي الخلفية الإسلامية بزعامة أردوغان وهو الأميل إلى النزعة
الإسلامية العثمانية وفق مفهوم “العثمانية
الجديدة”، وفي التوجه المحافظ الأميل إلى
البعد القومي الذي لا يعادي التراث العثماني، وكلاهما يتبنى العلمانية المعتدلة في الدولة التي لا تتحسس من وجود التدين
في الشأن العام، وكلاهما يشعر بأن العلمانية المتشددة المتغربة خطر على تركيا. غير
أن التحالف بينهما سيبقى مهددا بسبب الطموحات السياسية وفي حالة غياب القادة
الكبار أصحاب الفكر والرؤى المتسامية عن الأبعاد التنظيمية الضيقة والمصالح
السياسية الشخصية الآنية.
وبالعودة إلى البدء ، وبناء على هشاشة التحالفات لو يبقى هذا
الاستقطاب النصفي بين الطرفين قد يتحول في أي لحظة من اللحظات لصالح التيار
العلماني التغريبي المتشدد فتحل الكارثة على تركيا، بالعودة بها إلى الفساد والفشل
والاضطرابات السياسية والاجتماعية وفقدان السيادة وفق ما وصلت إليه الدولة التركية قبل ظهور حزب العدالة والتنمية، بل سيُهدد
الاستقرار الاجتماعي في البلد كله إذ لا يمكن لنصف الشعب التركي على الأقل أن يقبل بالعودة إلى سنوات
القهر العلماني. وقد يكون التحول من داخل حزب العدالة والتنمية ذاته بعد أردوغان،
والنقاش الداخلي القائم بعد الانتخابات حول نسب الفائدة هو نقاش أيديولوجي قبل أن
يكون نقاشا في المقاربات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فما هو الحل لتستمر
نهضة تركيا في إطار هويتها الإسلامية ولتبقى قائدة ومشاركة في العبور إلى النهضة
الحضارية للأمة؟ هذا الذي سنحاول الجواب عنه في نهاية أجزاء هذه الدراسة بحول الله
تعالى.
اقرأ أيضا: كيف يقرأ الإسلاميون العرب الانتخابات التركية وتجربة أردوغان؟ رأي من الجزائر (1)
اقرأ أيضا: كيف يقرأ الإسلاميون العرب الانتخابات التركية وتجربة أردوغان؟ رأي من الجزائر (2)