أظهر
رئيس النظام
المصري عبد الفتاح
السيسي عدم ثقته بالمدنيين، في أكثر من مناسبة منذ
انقلابه على الرئيس الشرعي محمد
مرسي، الذي توفي بسجون النظام، وذلك في محاولة
لتبرير ما قام به على مدار 10 سنوات من إجراءات لعسكرة الدولة، وفق متحدثين
لـ"عربي21".
"مفاصل
الدولة"
وفي
وقت مبكر من انقلاب السيسي، دشن لسيطرة العسكر على مفاصل الدولة المصرية وأركانها
ومؤسساتها، بل ووضع المدنيين تحت سيطرة العسكريين في تلك الأعمال، التي أصبحت
محاسبتهم على أي جريمة أو خطـأ تتم وفقا للقانون العسكري، وفي أفضل الحالات تحت
قانون الطوارئ وقانون الكيانات الإرهابية.
وبحسب
نص المادة (204) من (دستور 2014)، فإنه تجري محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية،
لكن تلك الصلاحية جرى في عهد السيسي توسيعها، لتضم محاكمة المدنيين عسكريا في أي
واقعة تمس المنشآت المدنية التي تحميها القوات المسلحة، وفقا للقانون رقم (136
لسنة 2014).
وفي
الفترة بين تشرين الأول/ أكتوبر 2014 وآذار/ مارس 2016، تمت محاكمة ما يقارب 7400
مدني أمام المحاكم العسكرية، وفق رصد حقوقي.
بل
إن السيسي منح العسكريين وبعض كبار قادة القوات المسلحة حصانة قانونية تمنع
محاكمتهم أو محاسبتهم إزاء ما ارتكبوه من جرائم بحق المدنيين، وهو ما نص عليه
القانون رقم (161 لسنة 2018)، الذي أصدره السيسي بهدف حماية قادة مذابح فض اعتصام
"رابعة العدوية"، 14 آب/ أغسطس 2013، ومثيلاتها.
ورغم
وقف السيسي للتعيينات الحكومية بكافة الوزارات والقطاعات لمدة 10 سنوات إلا من
بعض المسابقات الخاصة بوزارة التعليم خلال 2022 و2023، فإنه أطلق يد العسكريين
المحالين للتقاعد لتولي كبرى الوظائف المدنية بجميع الوزارات والقطاعات والشركات
والهيئات العامة والإدارات المحلية.
وتابع
السيسي القرار تلو القرار لمنح ضباط الجيش امتيازات غير مسبوقة في تاريخ البلاد، ما
اعتبره مراقبون حالة من شراء الولاءات، لكنه في النهاية على حساب المدنيين.
أخر
تلك القرارات ما نشرته "الجريدة الرسمية" 6 تموز/ يوليو 2023، بشأن قرار
للسيسي، يقضي بمنح درجات الليسانس والبكالوريوس التي تمنحها الجامعات المصرية
لخريجي كليات الأكاديمية العسكرية المصرية، ما يعطيهم ميزة وتفوقا على الأكاديميين
المدنيين.
القرار
منح خريجي "الكلية الحربية" شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية
والاقتصاد والإحصاء، وخريجي "الكلية البحرية" شهادة البكالوريوس في
العلوم السياسية، وخريجي "الكلية الجوية" درجة البكالوريوس في التجارة
وإدارة الأعمال تخصص إدارة الطيران والمطارات.
ووفق
تسريبات وصلت "عربي21" في 2 تموز/ يوليو 2022، فإن السيسي منح ضباط
الجيش والمحالين على المعاش من العسكريين وعائلاتهم حصانة وامتيازات غير مسبوقة، ومخالفة للدستور والقانون.
ومن
الامتيازات التي منحها السيسي للعسكريين أنه منع أي مؤسسة رقابية أو شرطة مدنية أو
أي قضاء مدني التعارض (التعرّض له بأي شكل من المضايقات) مع الضباط والأفراد، ولا
يخول لأي جهة حتى بالأجهزة الرقابية أو شرطة مدنية أو أي قضاء مدني مُخالفة ذلك.
وأيضا:
"لا يحق لأي مؤسسة رقابية أو شرطة مدنية أو أي قضاء مدني تفتيش ممتلكات
السادة الضباط والأفراد، ولا يخول لأي جهة التصديق لهم بفعل السالف ذكره، وفي
مخالفة ذلك يحق لصاحب الصفة العسكرية أن يقاضي المخالف في هذه المؤسسة أو الشرطة
المدنية أو القضاء المدني، والقبض عليه عن طريق الشرطة العسكرية".
وفي
حزيران/ يونيو 2021، طلب السيسي من وزير الدفاع الفريق أول محمد زكي، تعيين ضابط ليكون مسؤولا عن كل مراحل العمل في تطوير الريف المصري ضمن مشروع أطلقه في 2020،
باسم "حياة كريمة".
وفي
آب/ أغسطس 2019، في قرار وصفه متابعون بأنه بداية لـ"عسكرة التعليم"،
قررت السلطات تحويل المدارس الفنية الصناعية لمدارس عسكرية، وتطبيق النظام الجديد على
27 مدرسة في 2020.
وككل
الوزرات، يسيطر على وزارة التعليم عدد غير قليل من المستشارين ورؤساء القطاعات من
العسكريين السابقين، فيما دعت الأذرع الإعلامية للنظام لإسناد العملية التعليمية
بالكامل للجيش، خاصة بعد تسريب امتحانات الثانوية العامة.
وتسيطر
الهيئة الهندسية للقوات المسلحة على معظم أعمال هيئة الأبنية التعليمية وترميم
وبناء المدارس، كما تعاقدت وزارة التعليم عام 2017، مع جهاز الخدمة الوطنية التابع
للقوات المسلحة لتوريد التغذية المدرسية للطلاب، كما تم إلزام المدارس بترديد
أغنية خاصة بقوات الصاعقة المصرية بدلا من النشيد الوطني.
"ظهور
محمد علي"
وكان
ظهور المقاول والممثل المعارض محمد علي عبر مقاطع فيديو من إسبانيا عام 2019،
بداية الحديث عن الفساد المالي والإداري لعسكريين مصريين داخل الجيش وخارج الخدمة،
وسطوتهم على المقاولين المدنيين، وعدم منحهم حقوقهم المالية.
ووفق
أحاديث سابقة مع "عربي21"، أكد عدد من المقاولين والمهندسين والموظفين
الحكوميين في مجالس المدن والقرى والمحافظات سلطوية وتحكم العسكريين الذين يجري
تعيينهم في المراكز القيادية، وتعاملهم بشكل عسكري مع المدنيين، وإبعاد كل من يحاول
التدخل في القرار، بجانب انتشار عمليات الرشى والصرف بما يهدر المال العام.
وعن
مزرعة للجيش، قال مساعد أول سابق بالجيش، بحديث سابق مع "عربي21"، إن
"هناك الكثير من المخالفات المالية أراها منذ اليوم الأول لعملي، ولكن لا
يمكنني الحديث أو حتى التلميح، لماذا نفعل كذا ولا نفعل كذا"، موضحا أن
"الإنفاق كبير، والهدر أكبر، والمزرعة ستخسر".
صاحب
شركة تشييد وبناء، أكد لـ"عربي21"، بحديث منشور مطلع حزيران/ يونيو
2023، أنه "للحصول على عمل في أي موقع بالعاصمة الإدارية من التابعة للجيش،
فإنه يجب عليك أن تدفع للضابط المسؤول عن العمل، والذي يوكل في الغالب أحد
المهندسين أو الضباط الصغار في الأمر".
مدير
سابق بالشؤون المالية والإدارية بإحدى مجالس مدن محافظة الشرقية، قال أيضا،
لـ"عربي21"، إن "رئيس المدينة لواء سابق، لديه نهم غير عادي على
ضرب الأسعار والفواتير وزيادة قيمة التكليفات والأعمال، ومن يخالف يكون مصيره
الإهانة، ثم التحقيق والتجريد من المنصب والنفي لوحدة محلية صغيرة كموظف
صغير".
وخرجت
العديد من التسريبات حول جرائم فساد لضباط جيش سابقين جرى تعيينهم في المناصب
المدنية، وبينهم اللواء أركان حرب بحري محمد أحمد إبراهيم يوسف، (77 سنة)، الرئيس
السابق لمجلس إدارة الشركة "القابضة للنقل البحري والبري".
حيث
طلب النائب العام المصري حمادة الصاوي، من "الإنتربول" وضع القيادي
العسكري السابق، على قوائم المطلوبين أمنيا في مصر، في أيار/ مايو الماضي، عقب
إحالة الضابط الكبير للمحاكمة الجنائية؛ بتهم إهدار المال العام بالقضية (رقم 43
لسنة 2023) جنايات أموال عامة عليا.
الفساد
الأخلاقي كان إحدى العناوين الحاضرة في ملف العسكريين بحق مدنيين مصريين، فعلى
طريقة "اعتماد خورشيد"، و"برلنتي عبدالحميد"، وما أثير عن
مذكرات الممثلة الراحلة سعاد حسني في فضح الجرائم الأخلاقية لنظام يوليو 1952؛
اشتكت مصريات من جرائم جنسية ارتكبها ضباط تابعون للنظام.
أشهر
الأسماء هي المصرية دنيا سمير، التي كانت تعمل بمجال السياحة بجنوب سيناء، والتي
خرجت في مقطع فيديو مصور في نيسان/ أبريل 2022، تشكو من ضابط مصري يبتزها جنسيا،
إلى جانب محاولات نسيب السيسي محافظ جنوب سيناء اللواء خالد فودة ابتزازها جنسيا.
"تأثير
سرطاني"
وفي
رؤيته حول الآثار السلبية المترتبة على تغلغل العسكر بقطاعات ومفاصل الدولة وشركات
الحكومة والمحافظات والإدارات المحلية، قال السياسي المصري المعارض الدكتور عمرو
عادل: "عبر التاريخ الحديث لم نر انقلابا عسكريا حقق أي قدر من النجاح".
رئيس
المكتب السياسي للمجلس الثوري المصري، أضاف لـ"عربي21": "لكن كان
الانقلاب أكثر دموية كلما كانت آثاره السلبية أعلى لأنه ينتج انشقاقا طوليا وعرضيا
بالمجتمع، ولا يكتفي فقط بالوصول إلى رأس السلطة، بل يعمد إلى زيادة حصته داخل
النظام الاجتماعي من المؤيدين له".
ويرى
أنه "نتيجة لذلك يزداد تشوه المجتمع بتصعيد كل المنتفعين والضعفاء على حساب
أصحاب المهارات والقوة، لذلك ينهار المجتمع بالتتابع، ومجتمع مصر يعاني من مشاكل
اجتماعية وسياسية على مدى 200 عام، أضعف كفاءته كمجتمع، وشوه الكثير من قدراته
وتماسكه".
ضابط
الجيش المصري السابق، أوضح أن "من هذه الكوارث الانفصال النفسي والاجتماعي
لضباط ما تسمى المؤسسة العسكرية عن باقي المجتمع، وأصبح هناك عداء نفسي يتم
معالجته بالضغط على العقل الجمعي للمجتمع بمنتهى القوة والعنف باستخدام أدوات
الدولة الإعلامية والتعليمية لمحاولة فرض الوهم على أنه الحقيقة".
"(الجيش
من الشعب)، و(الجيش والشعب يد واحدة)، و(الجيش مؤسسة وطنية)، كلها "أكلاشيهات"
تسقط أمام فعل واحد من النظام العسكري، لكنها ما زالت مستمرة إلى حد
ما؛ فالخوف من المجتمع المدني وضعف الكفاءة والإحساس بالتميز الزائف من المؤسسة
العسكرية ومنتسبيها أدى في النهاية لسيطرة تامة من العساكر على كل قطاعات
الدولة".
ويعتقد
عادل أنه "لو كان يمتلك العدد الكافي لسيطر على النقابات المهنية والعمالية
بأكملها"، ملمحا إلى أنه "ومع الفساد وضعف الكفاءة والإحساس بالتميز
الزائف أصبحت المؤسسات المصرية تحت سيطرة العساكر القضاء والسلطة التنفيذية
والمحليات وغيرها، ومن يدخل من المجتمع المدني لهذه الدائرة، فلأنه تحت السيطرة
ويتميز بضعف الكفاءة والموهبة".
وفي
نهاية حديثه، يرى أن "هذه المظاهر لن تتوقف حتى تودي بالبلاد إلى الهاوية،
فهذه طبيعة الأمور؛ انهيار اقتصادي واجتماعي، وإغلاق المجال العام، وتشريد وقتل وسجن
وإضعاف مستمر للمجتمع بكل قطاعاته، في تأثير سرطاني ينتشر في كل شيء".
"دولة
عسكرية بامتياز"
وفي
وقت مبكر جدا من تولي السيسي السلطة في مصر، تحدث الخبير العسكري والاستراتيجي
الراحل اللواء عادل سليمان، عن ملف عسكرة الدولة أو تقلد عسكريين متقاعدين وظائف
مدنية، وانتشارهم في مؤسسات الدولة المختلفة، السياسية والاقتصادية والإدارية
والإعلامية، بل والثقافية وحتى الدينية.
وفي
10 تموز/ يوليو 2014، قال: نحن لسنا أمام دولة عميقة، ولا شمولية، ولا ديكتاتورية،
ولا سلطوية، وليست دولة يحكمها العسكر، ولكن، دولة عسكرية بامتياز".
ووفق
مقال للأكاديمي المصري خليل العناني، 26 كانون الأول/ ديسمبر 2021، فإن "مصر
فيها أكبر عدد من المحافظين من القيادات السابقة في الجيش والشرطة (20 لواء سابقا
من أصل 27 محافظا، حسب آخر إحصائية عام 2019) معظمهم من الجيش"، معتبرا أنها
أكبر عملية عسكرة للدولة ومحافظاتها منذ انقلاب 1952".
وأشار
إلى أن "مصر الدولة الوحيدة التي زادت فيها مرتبات ضباط الجيش والشرطة
وعلاواتهم حوالي 15 مرة خلال آخر 10 سنوات"، لافتا إلى أن ذلك "بهدف
استرضاء الضباط وضمان ولائهم"، لكنه في المقابل تظل رواتب ومعاشات المدنيين
أقل بكثير من العسكريين.
وقال
إن "الحقيقة الواضحة تماما أن العسكر في مصر يتحكمون بشكل كامل في الحياة
السياسية (برلمان وانتخابات وأحزاب ومجتمع مدني، إلخ) والإعلام (قنوات فضائية،
صحف، وجرائد، ومواقع إلكترونية) الفن (تلفزيون وسينما وإبداع ونشر)".