الكتاب: "مقاصد اللغة وأثرها في فهم الخطاب
الشرعي"
الكاتب: أحمد كروم
الناشر: دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، عمان 2015
عدد الصّفحات: 382
1
مثلت الخلفيات
الدينية عنصرا متحكّما في الدرس
اللغوي العربي التراثي. وأسهمت مباحث علم أصول الفقه وعلم الكلام إسهاما بيّنا في
تطويره. فعلم البيان مثلا نشأ عند الأصوليين أساسا. وهذا بديهي. فقد كان فهم
القرآن المحور الذي يستقطب مختلف
العلوم. ولذلك توصف الثقافة العربية الإسلامية
بكونها ثقافة النص. ويبدو أنّ الوقت قد حان لتُرجع الدراسات اللغوية اليوم ما
عليها من دين للعلوم الدينية.
فمن شأن تطور اللسانيات أن يسهم في تطوير
العلوم الدينية بعد أن باتت لها أياد على مختلف العلوم الإنسانية العديدة. ويبدو
الباحث أحمد كروم واعيا بذلك تماما. فيشتغل على نظرية الأعمال الكلامية الحديثة
ويحاول أن يوجهها لتحليل الخطاب الديني. يقول "لذلك ومع ظهور الأبحاث
اللسانية والمعرفية الحديثة التي تركز على قصد المتكلم وعلى آليات جديدة لتحليل
الخطاب أصبح الرجوع إلى مقاصد الدراسات النحوية واللغوية ضروريا في تحليل الخطاب
وتفسيره تفسيرا علميا صحيحا وموضوعيا".
2
يكشف الباحث عن خلفيته اللسانية. فهي
تداولية تفيد من نظرية الأعمال اللغوية التي يعدّ الفيلسوف الأمريكي سيرل خاصّة من
أهمّ مؤسسيها، وتفيد بالقدر نفسه ما أخذت عنها اللسانيات العربية وهي تراجع درسها
اللغوي. فيبحث فيما يصطلح عليه بمقاصد اللغة أو بالمنهج القصدي. ويعرّفه بكونه
منهجا لتحليل النصوص والعمل على فهم خطابها، يفترض الترابط بين الفعل والمرجع من
أجل بناء شروط الصدق في الكلام.
ينطلق الباحث من مصادرة مدارها على أنّ لغة
الخطاب تتضمن أفعالا للكلام تحتاج إلى منهج قصدي في تحليلها وتمثل مستويات الحالة
القصدية التي توجه إنجاز الفعل والقصد، وأنّ الأفعال التي تدخل في صنف
التوجيه تتعدد فمنها الأوامر والطلبات
والاقتراحات والنصائح. وحتى يؤصّل هذا المبحث في تراثنا يعود إلى منجز اللغويين
ليشير إلى العلل الطبيعية والضرورية النابعة من الاستعمال اللغوي والتداولي وإلى
وظيفتها، وهي تحقيق الفهم، وضمان نجاح التخاطب، ورد الاعتباط. ويعرّف القصد بكونه
"معيارا يربط الكلام بفاعله ويحدد المعنى المراد والغرض" فالإعراب عن
المقصود "يتحقق في اللغة بالقول والفعل عن طريق التّحقق من منفعة الصواب ودفع
مضرّة الخطأ ".
وضمن عملية التأصيل هذه يقارب أحمد كروم
مصطلح "الفائدة" عند النحويين من جهتين أولهما بيان جهة الكلام وفائدة
القصد أن تتعلق تلك العبارة بالمأمور وتؤثر في كونه أمرا له وثانيتهما تَعلقُ الخطاب
بمنشئه ونسبته إليه في صورته المتحصلة والمعبرة عن علمه أو إرادته. وعليه فالقصد
عنده يفيد القول والفعل حينما يتصلان بالمعاني اللغوية التي استعان بها العلماء في
فهم دلالة الخطاب.
3
لهذه الاعتبارات جميعا تفطن الفقهاء
والعلماء الذين يشتغلون على النص الديني إلى أهمية القصد في الخطاب، فأولوا
عنايتهم بالمقاصد التي ترومها البنية اللغوية، فكانت عنايتهم بموضوعها بارزة منذ
النشأة الأولى للغة العربية. وحاول الباحث أن يتقصّى مدى تحقّقها في التراث
اللغوي. فيجد أنّ دراستها قد تجسّدت في علم المعاني خاصة. فقد أشار إليها النحاة
كثيراً في مباحثهم وتحليلاتهم، ويجد فضلا عن ذلك، أن مباحثها وردت مبثوثة في مباحث
نحوية عديدة كالنداء والعطف والاستغاثة والندبة والترخيم والتعجب والتفضيل والمدح
والذّم وغيرها. وبالقدر نفسه يجد بعض سماتها في ظواهر لغوية كالتقديم والتأخير،
والحذف والتكرار والترادف، أي في تلك المواطن التي يجعل فيها المتكلّم من مقاصده
الكبرى الفهمَ، والإفادةَ وتأمين عن اللّبس.
4
في قس متقدّم من هذا الأثر يدرس الباحث دور
نظرية الأعمال اللغوية أو مقاصد اللغة وفق اصطلاحه هو، في تفسير القرآن. فيجد أنّ
دراسات عديدة تنخرط اليوم في مناقشة الأفكار التي عرضتها المناهج اللغوية في
التفسير نقاشا عميقا وأنّ محاولات عديدة
باتت تدعو إلى إعادة قراءة النص القرآني وتفسيره في ضوء المنهج القصدي. فيورد
تفصيلات كثيرة في ذلك آثرنا أن نقتصر منها على مبحث الترادف في لفظ القرآن ومواقف
اللغويين القدماء منه. فالاتجاه العام ينزع إلى رفض القول به كما فعل ابن فارس أو
إلى وضع شروط له شأن فخر الدين الرازي. وما تضيفه هذه النظرية إلى المبحث هو
"مقام الاختبار" في الترادف أو "الاختبار التداولي".
تفطن الفقهاء والعلماء الذين يشتغلون على النص الديني إلى أهمية القصد في الخطاب، فأولوا عنايتهم بالمقاصد التي ترومها البنية اللغوية، فكانت عنايتهم بموضوعها بارزة منذ النشأة الأولى للغة العربية.
ينطلق أحمد كروم من فكرة وجود علاقة بين
اللغة والعمل ومن مقتضيات الموقف أو المقام أو حال المخاطب ليختبر قصدية المتكلم.
فهل ثمة ترادف في استعمال الله تعالى في كلامه الحكيم الفعل (يفعل) جوابا على سؤال
زكريا أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ (*)
وَكَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) في الآية 40 من آل عمران وفي استعمال الفعل
(يخلق) جوابا على سؤال مريم (عليها السلام) أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وكذلك
اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) الآية 47 من آل عمران؟
وبناء على الاختبار الذي يجريه الباحث ينتهي
إلى أن التعبير بلفظ (يفعل) في قول زكريا لا يُثير خواطر سيئة لأن زكريا وامرأته
زوجان، فلا شبهة إن حملت المرأة، فزوجها بجانبها وقد كان إخصابها بواسطة تسخير
زوجها لذلك والتسخير والإخصاب من فعل الله. أما في حالة مريم (عليها السلام) فإن
التعبير بلفظ (يفعل) ربما أثار خواطر سيئة. "فاللفظ لهذا غير مناسب ومن هنا
جاء الفعل ( يخلق) ليوحي بطلاقة القدرة وهيمنة الإرادة والمشيئة الإلهية".
وبناء على هذا الاختبار ينتصر إلى الرأي القائل بنفي الترادف بين فعلي (يفعل) في
الآية الأولى و(يخلق) في الآية الثانية.
وإلى ذلك يضيف الاختبار النحوي. ويريد
النحوَ بمفهومه الشامل بما فيه من اختبار الصوت اللغوي والصيغ الصرفية وكيفية نظم
الجملة. وكما فعل في الاختبار التداولي يطبّق هذا الاختبار وغيره على نماذج لحسم
بعض الاتجاهات في التّفسير. وينتهي إلى أنّ "المعنى الذي تحمله آية كريمة لا
يمكن أن تؤديه عبارة أخرى وإن كانت مرادفة لها. ولعلّ المتأمل في مواطن ورود بعض
الكلمات التي يقال بترادفها في القرآن الكريم يلحظ بأنّ هناك فروقا بين تلك
الكلمات، وأنه لا يجوز أن تأخذ إحداها مكان الأخرى وإلاّ لضعف المعنى".
5
ولا تقل الحاجة إلى مقاصد اللغة في دراسة
الحديث النبوي عنها في تفسير القرآن، وذلك لأهميته في العلوم الشرعية أولا ولأنّ
المعرفة به تتوقّف إلى حدّ بعيد على معرفة مقاصد اللغة وعلى دورها في معرفة الواقع
وإدراك القرائن التي يبحث فيها عن الصحة والصواب وعلى دورها في تقويم منهج السنة بالتبعية.
فـ "اللغة ترشد نقاد الحديث إلى مقاصدها في الاشتقاقات والأبنية ومواضع
الكلام الذي يرومه الحديث، وطرق التواصل في مخاطبة الناس".
تسهم إذن نظرية الأعمال اللغوية وما أفيد
منها في مراجعة الدرس اللغوي العربي في:
ـ ضبط المجال الدلالي لمعاني النصوص التي جمعت في كتب
النقاد قصد تدقيق المعنى المتبادر من الألفاظ والمصطلحات.
ـ تقويم منهج الحديث بما
يساعد على فهم محتوى السنة.
ـ تحليل النص قصد تعميق
الفهم والاستيعاب
ـ التنظير لقواعد الحديث وتأطير مصطلحاته التي تمت صاغتها
طبقاً لقواعد اللغة ومنطقها الذي يساعد على سرعة الفهم.
6
ويجعل الباحث لمقاصد اللغة دورا في التحقّق
من بناء متن الحديث نفسه. فالنص الحديثي يزخر بسلسلة من الدلالات السياقية داخلية
كانت أم مقامية خارجية، وبالوظائف الحجاجية إقناعا وتأثيرا. وهذا ما يوجب معرفة
مقاصدها بالنسبة إلى المحدث كما أشار إلى ذلك ابن فارس بقوله : «إن علم اللغة
كالواجب على أهل العلم، لئلاّ يحيدوا في تأليفهم أو فتياهم عن سنن الاستواء».
فتفيد هذه النظرية في ضبط أخطاء المحدثين من لحن وتصحيف للحديث وغيرهما. وعامة.
فمقاصد اللغة تسهم، وفق الباحث أحمد كروم، في ضبط الوعي بالحديث النبوي بما هو
وصايا تخاطب الوعي الإنساني، وتحدّد مقومات ضبط المعنى. ولا يتحقّق ذلك إلّا بأخذ
الخصائص المميّزة للحديث بعين الاعتبار. فخاصية المشافهة التي تسم الحديث النبوي
مثلا تقتضي الوعي بمميزات خطاب المشافهة عامة على مستوى البناء والإيقاع والتأثير
وللتلقي مقاماته وظروفه. وينطلق من قول الرسول: "إني محدثكم الحديث، فليحدث
الحاضر منكم الغائب" ليفصّل شروط السماع والوعي والفهم ضمانا للنقل السّليم.
7
التقييد هو بناء المفاهيم على أسبابها.
وتتعدد أنواعه عند أهل العلم حتى بات يطلق على الشكل والتوثيق وحتى قالوا : تقييد
العلم بالكتاب ضبطه. إلى ذلك هو جزء من
المقامات عند البلاغيين التي يجب معرفتها ووعيها في مقاصد الخطاب قصد الاستدلال
بها. يقول السعد التفتازاني في كتابه (مختصر المعاني) : "وأما بلاغة الكلام
فهي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته، ومقتضى الحال مختلف. فإن مقامات الكلام
متفاوتة. فمقام التنكير يباين مقام التعريف، ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد،
ومقام التقديم يباين مقام التأخير، ومقام الذّكر يباين مقام الحذف، ومقام القصر
يباين مقام خلافه، ومقام الفصل يباين مقام الوصل، ومقام الإيجاز يباين مقام
الإطناب والمساواة وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي".
وضمن مبحث القصد اللغوي وضابط التقييد يذكّر
أحمد كروم بأنّ التقييد يعتبر من مقاصد اللغة التي أسهمت في فقه الحديث وضبط
دلالات خطابه، وذلك باعتبار الدور الذي يقوم به مفهوم القيد في العلوم الشرعية
الذي يكون تارة نصاً وتارة دلالة. وقد
ظهرت أهميته في مصطلحات الحديث في المرحلة الأولى قبل التدوين حيث الاعتماد على
الوصف اللغوي للمعهود الشرعي وهو ما أشار إليه الشافعي بقوله: "فإنما خاطب
الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف".
وتتمثّل وظيفته في تقويم المصطلح في إطار
ضبط علاقته مع عدد من السياقات الأخرى التي يدخل مصطلح العلة، في تركيبها ومنها:
الخطأ والثقة والضعف والقدح والصواب والصحة."لذلك، يقول الباحث، تأكد في ذهني
بأن مقاصد اللغة من النظريات التي يمكن استثمارها في الوصول إلى أعماق هذه الطاقات
والوقوف على طبقات المعاني التي تحتاج إلى الفهم والتصحيح، خصوصا وأن قضايا النحو
العربي وظواهره مازال ينظر إليها نظرة إجرائية فقط، دون الاهتمام بأوضاعها
التعليلية والمعنوية التي تحتاج إلى صياغة جديدة في ضوء المقاصد التي تروم الفائدة
من مواضعها داخل السياق".