دخل
الكنيست الإسرائيلي عطلته الصيفية التي تستمر لمدة شهرين، وقد يعطي هذا متسعا من التقاط الأنفاس في دولة انقسمت منذ مطلع العام إلى فريقين، كل يرى في الآخر شرا مطلقا، وحيث لم تستطع دولة المؤسسات ولا كل الحوارات ولا المناشدات الأمريكية جسر الهوة بين الفريقين، وذلك لأن السياق الطبيعي في الدولة بعد ثلاثة أرباع القرن، وصل لحظة معينة كان لا بد فيها من الصدام.
في هذا الصدام تقول الإحصائيات؛ إن عدد من شاركوا في التظاهرات بلغ مليوني نسمة، وإذا ما استثنينا العرب الذين نأوا بأنفسهم والأطفال وكبار السن في دولة تعاني من شيخوخة الأعمار، يمكن القول إن نصف الكتلة اليهودية يصطف ضد نصفها الآخر.
ولأنّ في هذا الصراع بعدا أيدلوجيا صلبا يقف خلف قناعات الائتلاف، كانت كل حلول الوسط تصطدم. هكذا تفعل الأيديولوجيا؛ لأنها تعتقد أنها تحمل رسالة العقيدة والسماء والحق المطلق.
كان الصدع الحاصل في إسرائيل مثار جدل وتحليلات ومتابعة، بفضول استعجال المآلات غطى مساحة كبيرة من الصحف ووسائل الإعلام لسببين؛ لأن هذه الدولة تعيش في حالة إشكالية مع الفلسطينيين وبعض دول الإقليم، وهي مثار جدل في علاقاتها، وأيضا لأنها دولة مؤسسات تمكنت من احتواء التنوع الثقافي والمعرفي والإثني في مؤسسة واحدة، واستطاعت التغلب على كل التناقضات في ذلك التنوع كبوتقة للصهر، كما أراد بن غوريون، متكئا على
الجيش، ليتفاجأ الجميع أن التناقض هذه المرة كان عصيا على الاحتواء، وقد خرج للشارع وتسرب إلى كل أوردتها وأجهزتها الأمنية وأذرع قوتها.
بعض التحليلات انقسمت بين من يرون أن المؤسسة الإسرائيلية ستتمكن من التغلب على الخلاف الحاصل كعادتها، معتمدا على قوة تلك المؤسسة وتراثها، وبين الذين يعتقدون أن تلك المحطة تكتب بداية نهاية إسرائيل، ليكون السؤال عن موعد النهاية.
وما بين هذا وذاك، بين المدرسة التاريخية في التحليل لقراءة قوة المؤسسة، والمدرسة الحالمة لخصوم إسرائيل، تبدو كلاهما بحاجة لمراجعة تفرضها قواعد التغير الاجتماعية؛ باعتبارها أصعب أنواع التغيرات وأكثرها بطئا، وكذلك قواعد الواقع وما كرسه من وقائع ليس من السهل إنهاؤها أو تجاوزها وإلغاء التاريخ.
التاريخ يسير بدورته الطبيعية، وإسرائيل دولة مثلها مثل كل الدول لسبعة عقود ونصف العقد، عاشت مشدودة الأعصاب والأوتار تنام بعين واحدة.
هذا التوتر كلفها البحث عن خيارات ووسط الأزمة، وكانت تلك الخيارات تضيق مساحة المناورة وتنهك الجسد والعقل معا. هي دولة كبرت ككل الدول وفعلت بها البيولوجيا فعلها. وهنا الحديث عن العامل الديمغرافي وانزياحات المزاج العام من دولة علمانية، إلى دولة يشير المستطلعون فيها إلى أن 47 % يريدونها دولة دينية. أما الديمغرافيا، فتعبر عن نفسها بتلاشي حزب العمل وميرتس كطبقة أشكنازية غربية علمانية لصالح صهيونية دينية قومية تقاتل لمسح هذا التراث، وكان أكثر تعبير لها هو انتهاء الكيبوتس مفرخة العلمانيين وتفريخ المستوطنات.
البعض يعتقد أنه يمكن تشكيل حكومة وحدة جديدة تطرد حزبي بن غفير وسموتريتش وتعيد القطار لسكته، وفي هذا ما يغفل التغيرات الديمغرافية الاجتماعية وتداعياتها السياسية وصعودها الثابت باتجاه واحد.
ففي إسرائيل لم تندمج التكتلات الاجتماعية بعد، وظلت كل فئة تعيش مرحلة الغيتو الخاصة بها من مؤسسات اجتماعية تعليمية، وتنتخب ممثليها في الكنيست.
فقد ظلت شاس تمثل متديني الشرق، وظل ليبرمان يمثل اليهود الروس، وبقي حزب العمل يمثل الطبقة الأشكنازية، التي فعلت الديمغرافيا فعلها بهم، وهكذا باقي الكتل. لذا؛ فإن قراءة سلوك وعادات وثقافة كل كتلة، ربما تدلنا على التغيرات السياسية القادمة في إسرائيل.
وهنا الاعتقاد الآخر بأن هذه الحكومة الأخيرة آخذة في تدمير الاقتصاد ووحدات الجيش وتفتيت المجتمع والعلاقات الخارجية، وتنتهي بالقضاء على إسرائيل، وبين هذا وذاك؛ بين من يعتقد بأن الميكانيزم الداخلي سيعيد تصويب البوصلة، ومن يعتقد أن الظرف الحالي سيدمر كل شيء، فإن القراءة الأكثر منطقية؛ هي أن هناك فعلا يتطور بهدوء داخل الدولة منذ عقود يفعل فعله في التغيرات السياسية، وهذا الفعل يتمثل بانحسار الكتلة الغربية المؤسسة التي جعلتها دولة متقدمة قوية علمية دولة سوبر، وتعيدها إلى الدولة العادية.
هذا التطور صاحَب الدولة منذ تأسيسها ووجد فرصته في ثمانينيات القرن، عندما توفرت للكتلة الدينية الصغيرة فرصة بيضة القبان لتمارس ابتزازها، وسط تعادل الحزبين الكبيرين لتقيم جمهورياتها الخاصة ومدارسها الدينية ومؤسسات الإغاثة المستقلة والمؤسسات الاجتماعية لتنمو وتزدهر، وتعزز ازدهارها بالتشريعات على نمط الإعفاء من الجيش والعائلات كثيرة الأولاد، وموازنات الشبكات التعليمية التي تعيد إنتاج العضو الحزبي الخالص بمهمته الوحيدة، وهي دراسة الدين والإنجاب، وهكذا دارت الدائرة ولا تزال تدفع بنفس الميل.
لن تنتهي إسرائيل كما يحلم خصومها، ولكنها لن تكون الدولة السوبر التي عرفها العالم، هي تنزل من مصاف الدول الغربية نحو الدولة العادية، وربما تفعل الديمغرافيا فعلها لتصبح مثقلة بالهموم والاقتصاد وعبء المتدينين والأساطير والعاطلين عن العمل والبطالة.
قد لا يظهر هذا قريبا، نحن نشهد نذره مع آخر انتخابات، وقد تشهد إسرائيل ردة فعل عنه في انتخابات لاحقة، لكن السياق الطبيعي للمجتمع أكثر عنادا من ردود الفعل.
(عن جريدة الأيام الفلسطينية)