قليل بل كثير من الإحباط عاد للتسلل للبيت
الفلسطيني، وكان ذلك بعد بضعة أسابيع كان يتصاعد فيها التصدي الفلسطيني ومعركة في غزة وعرين الأسود والقدس وأزمات متلاحقة للأمن الإسرائيلي داخلية وخارجية، مترافقة مع تصدع داخلي في النظام السياسي الإسرائيلي وحضور فلسطيني منافس بل وأكثر تفوقاً على الصعيد الدولي وفي استطلاعات الرأي الأميركية.
لو كنت إسرائيلياً سأصاب بالإحباط مما حدث ويحدث من صدع وصراع وتهديد للاستقرار القضائي وبنية المجتمع وهوية الدولة والبيئة الإقليمية الآخذة بالتغير، والعلاقات التي تشهد خللاً مع الولايات المتحدة وموازنة الدولة وصعود الحريديم ومستقبل الكتلة الديمغرافية وتداعياتها اللاحقة وغياب الآباء وصعود الهواة على رأس النظام السياسي وجرهم للدولة إلى مساحات مظلمة.
ولكن بالمقابل أي فلسطيني على الجانب الآخر فإن إحباطه أشد كثافة، ليس فقط بسبب استمرار
الاحتلال بقدر الشعور بالتراجع وعدم استقرار ميزان التقدم والخلل في قياساته، فمرة يصعد للأعلى وفي وقت قصير يعود للارتطام بالأرض مخلفاً ما يكفي من الجروح في الرأس. فالحصار يستمر على غزة التي تتحول إلى منطقة معدمة ينهار فيها كل شيء، وفي
الضفة تتراجع السلطة وتتآكل شعبيتها وشرعيتها إذ تقف على وشك الانهيار ولا يعرف أحد ما الذي يحدث غداً حيث يطل مشهد الصراع بين المتنافسين.
في القدس تتجهز خطة التقسيم المكاني وسيطرة إسرائيل على 70 % من أكثر الأماكن قدسية، وفي الأقصى أصبح اقتحام المستوطنين والصلاة فيه رغماً عن الفلسطينيين حدثاً طبيعياً على وقع الصمت العالي للفصائل التي رفعت خطاب الأحلام حد السماء قبل أن تصاب بهذه السكتة ولم تعد تذكر الخبر حتى في وسائل الإعلام.
هل كانت النشوة السابقة بمعركة غزة وعلى وقع عرين الأسود خداعاً للذات أم خطأ في قراءة الواقع ودراسته، أم في معرفة الفلسطيني وتقييمه لذاته ؟...عاطفيون نحن إلى حد الجنون وواقعيون إلى حد الوهم لا تقتلعنا أعتى الرياح ولا تغرقنا أعمق المحيطات ولكن الحقيقة أيضاً أننا نطير على جناح ذبابة ونغرق في قطرة ماء، هذه الحدية القصوى في التعامل مع الأشياء بلا عقل ولا واقعية ونتائجها بكل الحالات وخيمة وتمس بالجانب المعنوي بلا شك.
مع الزمن تبرز ملامح المشروع الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين بشكل أكثر وضوحاً، والمتمثل بالاستيلاء على الضفة وترك غزة للفلسطينيين يقيمون عليها كيانهم، وهذا لم يكن يتحقق لولا صراعهم الذي انتهى بالانقسام قبل ستة عشر عاماً كخطوة أولى لمشروع هادئ وطويل النفس تجاه المجموعة الفلسطينية، مبتدئة السياسة، عاطفية الأداء، قبلية الثقافة.
من كان يتشكك بالمشروع جاءه سموتريتش ليضعه أمامه بالعودة لسيطرة يهوشع القديمة وبرنامجه، من كان يتشكك جاء من يعلن خطة المليون مستوطن في الضفة والمشاريع المتسارعة رغماً عن الموقف الأميركي والدولي، ومن كان يتشكك جاءه الإعلان عن خطة تقسيم الأقصى. وأمام كل هذا تنهار مؤسسة الفلسطينيين أكثر ويزداد التباعد وغياب العقل لدراسة احتمالات المستقبل.
لن يقوم التحالف السموتريتشي بأي جهد لإنهاء السلطة المتعارضة مع صميم مشروعه. فالسلطة تتكفل بكل ما يلزم بأدائها لإضعاف ذاتها ويراهن الاحتلال على غياب الرئيس الذي سيفتح صراعات متوقعاً أنها ستنتهي بتفتت الحالة وتشتت المدن، وقد وفرت إسرائيل البنية التحتية لهذا التفتت بالحواجز وعزل المدن عن بعضها وبهذا تنتهي السلطة بيد الفلسطينيين دون أن تبدو إسرائيل مسؤولة عن ذلك.
حينها لن يبقى أمام الفلسطينيين سوى غزة وسيتحول المشروع الإسرائيلي من رفض الفصل وإقامة الدولة في غزة إلى حاجة فلسطينية للحفاظ على ما تبقى من الكيانية الفلسطينية، وهذا جزء من المدرسة الإسرائيلية التي احترفت تحويل مشروعها إلى «انتصار» فلسطيني، وهكذا لن يكون أمام الفلسطينيين إلا تدارك ما يمكن تداركه، وهذا منطق الأشياء سيفعلون كل ما بوسعهم كي لا يتبددوا وتنتهي آخر رموز الكيانية الفلسطينية.
قد لا يكون هذا هو السيناريو الوحيد لكن هذا السيناريو يبدو الأكثر انسجاماً مع الوقائع التي يتم فرضها والسياسات التي يتم اتخاذها ما الذي يقوم به الفلسطينيون ؟ مصالحة ؟ تلك أصبحت جزءا من الماضي ولا أمل، ترتيب المؤسسة ؟ لا يتم في ظل الانشطار الخطير القائم وفي ظل الأداء البدائي القائم والثقافة القائمة وصراع القوى والأحزاب وسيطرة الأنا الحزبية والشخصية والقبلية، هل هناك من يقوّم المسار ؟ لا أحد توقف للتقييم قبل التقويم، فالعقل غائب في تكتلات سياسية قامت على الولاء والموالين الذين يقدمون المديح بلا أفكار نظراً لفقرهم.
تتجلى الأزمة أكبر لدى مراقبة انشغال الحقل السياسي والثقافي الفلسطيني بماذا تريد إسرائيل دون أن يفكر الفلسطينيون بماذا يريدون، وكيف يريدون ينشغلون، وما هي ممكنات قوتهم وكيف يمكن بناء واقعهم حيث لا يبدو في الأفق سوى حالة استسلام للقدر المرسوم دون مواجهته ربما الدعوة لِـ «اللطف فيه» لا أكثر ...ليس هكذا تدار الشعوب وليس هكذا تواجه مصائرها وخاصة شعباً تحت المعاناة تمكنت إسرائيل بجدارة من ربط قواه السياسية الفاعلة والحاكمة بمنحها المالية والاقتصادية وهذا أخطر ما حصل.
(
الأيام الفلسطينية)