نجح "
سفاح الجيزة" في تحقيق الكثير
من الأهداف لصانعيه بالتأكيد، بدايةً، قد أعاد اسم المخرج "
هادي الباجوري"
للواجهة والاهتمام من جديد، وهو الذي لم يقدم شيئًا ناجحًا -ولو من ناحية الزخم على
الأقل- منذ صيف 2019 في فيلم "الضيف" والذي كان مثار جدل بالأساس بسبب كاتبه
"إبراهيم عيسى"، وقد استطاع أن يجعل "أحمد فهمي" نجمًا جماهيريًا
مرة أخرى ولو لشهر بعدما ضاع في منافسة الموسم الرمضاني الأخير بمسلسل "سره الباتع".
ولكن هل حقق للمشاهد فعلًا ما أراد؟ لا يمكن أن تكون إجابة هذا السؤال مغلقة على نعم
أو لا نظرًا لاتساع القاعدة الجماهيرية واختلاف تلقيها للعمل وما نشدته من وراء مشاهدته.
ولكن لبعض الأسباب سأكون من الفريق الذي قال "لا".
اتفرج وأنت ساكت
صبرت طيلة 4 ساعات وهي مدة عرض المسلسل
أشاهد ولا أسأل لأنني أمنت أن بعض المخرجين من الجيل الحديث وهادي الباجوري منهم وإن
كانوا ضعيفي المهارة والإبداع، إلا أنهم أكثر وعيًا بما يبديه الجمهور من اهتمام بأهمية
الحلقة الأخيرة للـ"حبكة" وخاصة لو كان بها التواء "Plot Twist"، وأن الألغاز التي فُرشت على مدار الحلقات
يجب أن تستبين ولو في المشهد الأخير من المسلسل. ولكن المسلسل انتهى ولم أشعر بإجابة
على أسئلتي سوى صوت يزجرني قائلًا "اتفرج وأنت ساكت" وتسرب لنفسي شعور عميق
بالاستحمار الفني.
تظهر خمسة أحداث في المسلسل وتنتهي دون
تفسير إلا أن يكون "جابر\سفاح الجيزة" كلي القدرة والوجود والمعرفة، وأن
يكون ذلك شيئًا مسلما به لدى المشاهدين ولا حاجة للتساؤل، ولكن تلك الصفات ما عرفنا
عنها سوى أنها صفات إلهية لا يتصف بها سفاح ولا حتى الروح الشريرة التي يستخدمها
"ستانيس براثيون" للقضاء على أعدائه في المسلسل الشهير "صراع العروش".
أول الألغاز أن سفاح الجيزة "جابر\حسن\يوسف\محيي"
يسير بثلاث بطاقات للهوية الشخصية، ولكننا لا نعرف كيف استطاع جابر بحذاقته التحصل
على ثلاث بطاقات، فلو كان بطل العمل رجل أعمال أو مجرما فاسدا على صلات بالحكومة، لن
نحتاج لأن نعرف إجابة لمثل هذا السؤال لأننا عرفنا بداهة أنه قادر على ذلك، ولكن شخصية
جابر بأصلها المتواضع ومحدودية علاقاتها الاجتماعية مع أشخاص من دوائر المؤسسات الحكومية كما يظهر في المسلسل ستجعلنا في حاجة لأن نعرف كيف نجحت في الحصول على ثلاث بطاقات
للرقم القومي، ولكن يتخفى هذا الأمر في أحداث المسلسل دون إجابة.
ولكن أمر البطاقات في سياق القصة يهون إذا
قورن بأحداث أكثر رئيسية وتأثيرًا في مجراها، ففي الحلقة الثانية من المسلسل وبعد أن
نجح جابر - "يوسف" في هذا الخط من الأحداث- في التخلص من الحاج صاحب المصنع
وزوجته ليستولي على إدارة المصنع تظهر شخصية الفتاة ابنة الأستاذ "صادق"
رجل الحاج والمصنع منذ زمن طويل لتُرسل رسائل إلى "يوسف" بأنها كشفت خطته
وتهدده بفضحه إذا لم يعطها مبلغًا من المال مقابل سكوتها، وكل هذا يحدث دون أن يكون
هناك أي مقدمة للعلاقة بينهما تجعل تلك الفتاة تشك في أمر يوسف من الأساس وأنه دبر للحادثة كلها
للاستيلاء على المصنع، ولكن مثل هذا الحدث يمر دون مبررات في القصة وكأنه إشباع لرغبة
سادية تعتمل في نفس صناع العمل للاستعراض والإكثار من مشاهد القتل الجديدة المستوردة
للدراما المصرية من أعمال القتلة المتسلسلين في الدراما الأمريكية، فالدراما المصرية
المسكينة لم تعرف في تاريخها سوى الخنق والطعن بالسكين وطلقات المسدس، ولكن جابر يُبهرك
بتنويعات على تلك الطرق التقليدية في القتل.
ويصل جابر إلى مدى اتساع قدرته على الأحداث
والعباد حين يتجاوز قدرة السلطات والأجهزة الأمنية ذاتها ويقوم باختطاف ابن الضابط
"حازم\ باسم سمرة" ليتحول مسار القصة بشكل غير مبرر إلى مواجهة "بينج
بونج" شخصية بينه وبين الضابط الذي يضع أم جابر تحت سيطرته ولكن ذلك مفهوم بموجب
سلطته كضابط لديه شبكة متشعبة من المعلومات عن أصل وفصل المواطنين، ولكن من أين أتى
جابر بمعلوماته عن أسرة الضابط حازم؟ يمر هذا في القصة أيضًا دون إجابة إلا إذا كانت
الابتسامة الصفراء لجابر -"محي" في هذا الخط من الأحداث- في وجه الضابط حينما
رأى صورة ابنه على مكتبه هي ابتسامة خارقة تكشف عن كافة المعلومات وتلك خاصية لم نعرفها
سوى في فيلم الفانتازيا "اللمبي 8 جيجا".
وإلى جانب تلك الألغاز يظهر خلل في بعض
المشاهد الأخرى، ففي خط أحداث ذكريات "زينة" في أيام أسرها لدى جابر، تتذكر
الكثير من الأحداث الهامشية ولكنها لا تتذكر شيئًا عن قصة قتل جابر لصديقه وزوجته إلا
بعد أن يواجهها الضابط، ولا يدري المشاهد مدى حجم اضطراب ما بعد الصدمة الذي أصابها
ليجعلها تتذكر أشكالا من الطعام وتنسى جرائم قتل وجثث بشر!
ويبدو مشهد المواجهة في النهاية بين
"جابر" و"أمه" وكأنه صُنع من أجل تذكير المشاهد بالأحداث والذكريات
التي صنعت من جابر الشخص الذي هو عليه الآن، وكأن تلك الأحداث لا تعرض في كل حلقة على
شكل "فلاشباك"، وقد فاقت سحر زن "الزن على الودان" بحد ذاته من
فرط تكرارها، ولكن جابر يقف في مشهد حواري أمام أمه في النهاية ليعيد رواية كل تلك
المشاهد شفهيًا في هيستيريا، وستعرض المشاهد بشكل مرئي مرة أخرى ومرة عاشرة في كفر
تام بوظيفة الإيمائية في التمثيل وإشراك المتفرج في الحدث بالتفكر والتأمل والاستنتاج.
فرانكشتاين
على هامش تلك الألغاز التي لا يملك إجابتها
سوى "جابر" وماتت بموته، يمتلئ المسلسل بأخطاء تخص التصوير الساكن والمتحرك
للشخصية بحد ذاتها، فبينما ينتقل المسلسل مكانيًا بين مواقع لا يبدو عليها سوى أنها
تنتمي إلى أحياء الطبقة الوسطى والمُهمشين ومناطق نائية وقبور تؤكد على أصل جابر المتواضع،
نجد أن جابر يتحلى بذوق وطريقة شديدة البرجوازية فيما يخص "الطبخ" حتى أن
بعض المصريين من الشرائح الاجتماعية العليا ربما لا يعرف عنها شيئًا من الأساس. ولكن
بالتأكيد لسبب ما اعتقد صناع العمل أن تلك المشاهد التي يقوم فيها "جابر"
بالطبخ لنفسه أو لـ "زينة" لن تثير سخرية المتُفرج المصري بقدر ما ستشعره
بالألفة -وهو ظن خائب إذا صح- فنحن أمام مشاهد استوردت خصيصًا من ذلك النوع من المسلسلات
الأمريكية التي يحبها وأدمنها في صعود زمن منصات "الستريمنج" من "نتفليكس"
وغيرها والتي توازيها في الوطن العربي منصة "شاهد". وما لا يدركه صناع عمل
"سفاح الجيزة" أننا لسنا في حاجة لنموذج السخرية السائدة التي تقول
"لما أمك تعملك بيتزا في البيت" أي أننا لم نطلب منهم أن يصنعوا لنا
"هانيبال ليكتر" مصريا في ضواحي الجيزة بقدر أن ما أردناه بالفعل هو سفاح
يشبه مجتمعنا كما نراه في شخصية "النص\أبو الليل" التي قدمها محمود المليجي
مثلًا في فيلم "أبو الليل" ولا نريد تكرارًا لشخصيات هوليودية هجينة مثل
تلك التي قدمها "هاني سلامة" في "السفاح" أو "محمد رجب"
في "كلاشنكوف".
وبينما يركز المسلسل أيضًا على الزمن وينتقل
بين العديد من الأزمنة منذ عام 2013 إلى عام 2018 لا نجد من هذا التركيز سوى التاريخ
الذي يُكتب على "الفريم" لا أكثر، فيجب على المشاهد أن يتواطأ في قبول
كم من الأخطاء في تكوين مشهد واحد فقط مثل وجود موبايل بثلاث كاميرات عام 2014 في
الوقت الذي كان فيه سامسونج جالاكسي نوت 10 هو صيحة العام وبكاميرا واحدة بينما تعبر
سيارة تويوتا "C-HR" في المشهد والتي لم يكن لها وجود أيضًا في
نفس العام.
ربما يحتاج صانع العمل المصري إلى تواطؤ
المُتفرج في كثير من الأحيان ويتطوع المُتفرج بتواطئه في قبول الكثير من الأشياء، ففي
ظل الأجواء السياسية الخانقة وسيطرة الأجهزة الأمنية على كل المجالات بما فيها السينما
والدراما سواء بالرقابة أو بتملك شركات الإنتاج لا يطالب المُتفرج المصري الصناع بصناعة
عمل يمس الأجهزة الأمنية ولو بالتلميح مثلًا، ولذلك كان من السهل أن نتقبل فكرة أن
الضابط "حازم" لا يُسخر عسكري المتُابعة الخاص به للسواقة بالمدام والأولاد
ويصبح هذا أحد الأسباب التي دفعت المدام كما يدعي ابن الضابط "حازم" إلى
الموت من تعاستها بسبب إفراط حضرة الضابط في نُبله وعدم إساءة استخدامه للسلطة كعادة
وشيم وأخلاقيات ضباط الجمهورية الجديدة كلهم.
وفي المقابل لا يطلب المُتفرج الكثير إذا
اعتنى صناع العمل بالتفاصيل العامة والزمنية التي لا تخص السلطة ولا يحزنون ولكنها
تخص تسلسل الأحداث ومنطقيتها. وكأنه يغيب عن أذهانهم الأسطورة المُفضلة للمصريين عن
ساعة "أحمد مظهر" التي تسببت في استبعاد "صلاح الدين" من جوائز
الأوسكار. وهذا يعني أننا جمهور يُبدي اهتمامًا فعليًا بالتفاصيل وحتى قبل ظهور "السوشيال
ميديا" التي أصبح يتعامل مع جماهيرها بعض الصناع وكأنهم قلة مُندسة تتصيد الأخطاء
لا أكثر وتصف تلك المشاكل جنبًا إلى جنب، نجد أننا أمام مسلسل "فرانكشتايني"
من فرط ما هو هجين ومليء بالأخطاء و"الكروتة" والاستسهال، فلا يوجد شيء في
المسلسل أكثر مصرية وأصالة من "بدرية السيد" وأغانيها على خلفية الأحداث
والتي تعطي جوًا جنائزيًا خانقًا ومُقبضًا وهو اختيار يستحق صناع العمل عليه التحية
بإحياء إرث واحدة من أهم مُطربي "الناس" لا التلفاز أو الإذاعة.
رغم الأخطاء يحتوي المسلسل على تجارب تمثيلية
قوية وإن كانت السُخرية من أداء "داليا شوقي" قد غطت على أي حديث عن التمثيل
في المسلسل، ولكن "حنان يوسف" في دور أم السفاح وباسم سمرة في دور
"الضابط" الجديد على مسيرته استحقا الثناء وكانا من النقاط المضيئة في الممثل.