رغم التركيز على ما يحدث في غزة، إلا أن
تقرير ديوان
المحاسبة الذي صدر مؤخرا أثار جدلا حول إدارة المال العام والتعامل
مع إيرادات الدولة وكيفية إنفاقها.
التقرير الذي صدر في 681 صفحة، وغطى كافة
المسائل الكلية والفرعية المتعلقة بالإيرادات العامة ومخصصات الاجسام المختلفة
وسياسات وإجراءات الإنفاق العام، كشف عن تطورات مهمة إلا إنها تضاف إلى ركام
الأخطاء والانحرافات والاختلالات التي تواجهها البلاد وتطغى على نهج إدارة المال
العام.
أظهر التقرير أن الإيرادات العامة خلال
العام 2022م بلغت 177 مليار دينار ليبي (سعر صرف الدولار الرسمي يعادل 4.9 دينار،
وفي السوق السوداء نحو 5.4 دينار)، وبفارق يتجاوز 40 مليار دينار عن البيانات التي
أوردها المصرف المركزي ووزارة المالية التابعة لحكومة الوحدة الوطنية، وبزيادة
بنحو 53 مليار دينار ليبي عن إيرادات العام 2021م.
ويكشف التقرير الحقيقة الثابتة منذ عقود وهي
اعتماد الخزانة العامة بشكل كبير جدا على النفط وبنسبة تزيد على الـ98%، حيث لم تتعد
مساهمة الإيردادات السيادية (الضرائب والرسوم وما في حكمها) خلال العام 2022م 1.5%
من الإيردادات الكلية وبقيمة 2.7 مليار دينار.
على جانب النفقات، فقد بلغ إجمالي ما تم
إنفاقه بحسب تقرير الديوان نحو 171 مليار دينار، وبزيادة بلغت 68 مليادر ينار عن نفقات العام الذي سبق،
وحيث بلغ الفائض في الميزانية العامة للعام 2021م نحو 20 مليار دينار، كان الفائض
نحو 6 مليارات دينار فقط خلال العام 2022م.
الأرقام الكلية هذه تعكس اختلالات كبيرة
ترجع إلى عقود عدة خلت إلا إنها تتفاقم بشكل مخيف ودون أن يكون هناك اتجاها للتصدى
لها وسياسات تكبح جماحها، ذلك أن فاتورة الإنفاق في ازدياد مطرد في مقابل تحسن
محدود في الموارد المالية.
حكومة الوحدة الوطنية، كسابقتها حكومة الوفاق، تسير على خط تعظيم الإيرادات ليس عن طريق إيجاد مصادر متنوعة وبديلة عن النفط، بل من خلال المحافظة على سعر صرف للدولار في مستوى مرتفع ليحقق عائد مجزي بالدينار الليبي ليتسنى لها دفعه في قنوات الصرف الاستهلاكي من مرتبات وإنفاق تسيير ودعم، مع تخصيص جزء للتنمية مع غياب التخطيط والتنفيذ الأكمل.
المعادلة المختلة التي صارت عصية على
التفكيك والتصحيح هي الدولة العاجزة والمؤسسات المترهلة التي لا تحسن إلى الهدر
والفساد في مقابل مجتمع استهلاكي يعتمد أكثر من 80% من أفراده على المرتبات
الحكومية والدعم ولا إنتاجية حقيقية له.
الزيادة المأهولة في الإنفاق العام والتي
تجاوزت 68 مليار دينار ليبي (ما يعادل 14 مليار دولار تقريبا) ذهبت في معظمها في
شكل مصروفات لا مردود حقيقي لها، فقد قفزت فاتورة المرتبات بنحو 18 مليار دينار،
وأسأل عن أثر هذه الزيادة في أداء وإنتاجية الموظف الحكومي فلن تجد ما يسرك، وخصص
للجهاز الحكومي نحو 23 مليار دينار في شكل نفقات تسيير وبزيادة عن العام الذي سبق
بنحو 15 مليار دينار، والجهاز الحكومي ما يزال مترهلا ومحدود الفاعلية وغارقا في
الفوضى والفساد، وسجل الدعم زيادة تجاوزت الـ 25 مليار دينار، لكنك تنظر إلى الوضع
الاقتصادي الاجتماعي لليبيين فتجده في مستويات متدنية.
وبالنظر إلى أهمية التنمية والتطوير في
البنى التحتية والخدمات الاقتصادية والاجتماعية، فإن ما تم تخصيصه لهذا البند كان
الأقل من بين الزيادات في البنود الأخرى الاستهلاكية خلال العام 2022م، مع التنبيه
إلى الزيادة في الانفاق التنموي خلال العام محل البحث يرجع في جزء كبير منه إلى ما
تم تخصيصه للمؤسسة الوطنية للنفط.
التفاصيل التي تضمنها التقرير مقلقة جدا،
وهي انعكاس للخلل الهيكيلي المتعلق ببنية الدولة وطبيعة مؤسساتها وتركيبة اقتصادها
الذي ما يزال يعاني من المشاكل التي ورثها عن التحول الاشتراكي مطلع ثمانينيات
القرن الماضي، وراكم عليها مزيدا من الأزمات.
حكومة الوحدة الوطنية، كسابقتها حكومة
الوفاق، تسير على خط تعظيم الإيرادات ليس عن طريق إيجاد مصادر متنوعة وبديلة عن
النفط، بل من خلال المحافظة على سعر صرف للدولار في مستوى مرتفع ليحقق عائدا مجزيا بالدينار الليبي ليتسنى لها دفعه في قنوات الصرف الاستهلاكي من مرتبات وإنفاق
تسيير ودعم، مع تخصيص جزء للتنمية مع غياب التخطيط والتنفيذ الأكمل.
هذا الوضع يعظم من الأزمات الراهنة ويزيد من
الهدر والفساد ويحرم الليبيين من تحسين حقيقي لمستويات عيشهم اقتصاديا واجتماعيا،
كما أنه يعزز من حالة الاستقطاب بين سلطة مركزية (مالية ونقدية) تتحكم في إدارة
المال العام، ومناطق تحملها المسؤولية على الهدر والفساد ولا تجد سبيلا لوقفهما إلا
من خلال طرح مقاربة انفصالية.