سارع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن عقب لقائه نظيره التركي هاكان فيدان في العاصمة التركية أنقرة، إلى المطار دون عقد مؤتمر صحفي مشترك أو إصدار بيان ختامي حول أهم النقاط التي تباحث حولها الجانبين، فيما بدا بأنه انعكاس للتوترات واختلاف وجهات نظر الوزيرين حول تصعيد
الاحتلال الإسرائيلي وعدوانه المتواصل على
غزة.
وقبيل صعوده إلى الطائرة للتوجه إلى اليابان عقب جولة شرق أوسطية خاطفة، قال بلينكن إنه بحث مع نظيره التركي "الأزمة في غزة وإيصال المساعدات ومنع توسع الصراع"، مشيرا إلى "استمرار جهود بلاده من أجل التوصل إلى هدنة إنسانية في غزة مع ارتفاع عدد الضحايا من النساء والأطفال".
ولم يتطرق بلينكن الذي أشارت الصحف التركية المحلية إلى "البرودة الشديدة" التي استقبل بها في ضوء اختيار الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان التواجد في أقصى شمال شرق البلاد؛ في إشارة لعدم اكتراثه بمقدم الوزير الأمريكي، إلى أي تفاصيل أخرى حول لقائه مع فيدان الذي اختار بدوره عدم إصدار أي تصريحات حول المباحثات التي دامت نحو ساعتين ونصف الساعة فقط.
"امتعاض تركي"
الباحث في العلاقات الدولية والشأن التركي، مهند أوغلو، رأى أن البرودة التي استقبل بها بلينكن منذ لحظة وصوله إلى أنقرة تظهر امتعاض
تركيا الشديد من الموقف الأمريكي الداعم بشكل كامل لدولة الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه على قطاع غزة ورفضها التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار.
وأضاف في حديثه لـ"عربي21"، أن الامتعاض التركي لم يقتصر على الموقف الأمريكي فقط بل على بلينكن شخصيا، الذي شدد في أول زيارة له إلى "تل أبيب" عقب اندلاع الصراع على أنه لم يأت إلى "إسرائيل" لكونه وزير خارجية فقط بل لكونه يهوديا أيضا.
وكان أردوغان انتقد تصريح بلينكن بشدة، مشددا على "ضرورة عدم التفرقة بين يهودي أو تركي أو غيره، والتعامل مع الآخر بناء على كونه إنسانا وحسب".
وأشار أوغلو إلى أن اختيار أردوغان التواجد في قرية ريزه في منطقة البحر الأسود رغم قدرته على لقاء بلينكن دليل واضح على عدم وجود رغبة تركية بالتحاور مع الخارجية الأمريكية، موضحا أن أنقرة أرسلت رسالة لا لبث فيها إلى واشنطن برفضها ما تقوم به الولايات المتحدة سواء من رئيسها بايدن أو من خارجيتها ودبلوماسييها، فضلا عن اعتبارها الموقف الأمريكي جزءا من المشكلة وليس الحل.
من جهته، رأى الكاتب والمحلل السياسي د.حسام الدجني، أن الاستقبال الباهت لوزير الخارجية الأمريكي وغياب البعد البروتوكولي عن المباحثات مع نظيره التركي، يعكسان حجم الغضب التركي تجاه الولايات المتحدة في اتجاهين، أولهما التدخل المباشر في الحرب على قطاع غزة، والثاني رفض الضغط على الاحتلال الإسرائيلي لوقف إطلاق النار رغم العدد الكبير من الضحايا.
وأضاف في حديثه لـ"عربي21"، أن تركيا لا تستطيع السكوت عن الجرائم غير المسبوقة في قطاع غزة والمساعي الرامية لتصفية القضية الفلسطينية، مشيرا إلى أن موقع تركيا الإقليمي والإسلامي يضطرها إلى تصدير موقف قوي إزاء الإبادة الجماعية التي يتعرض له الشعب الفلسطيني.
"ضغط تركي يتخطى واشنطن!"
تواصل الولايات المتحدة رفضها دفع دولة الاحتلال الإسرائيلي نحو وقف دائم لإطلاق النار في ظل تصاعد العدوان الوحشي على قطاع غزة، ما أسفر عن ارتقاء عشرات آلاف الشهداء والمصابين.
وكان بلينكن نوه إلى أن بلاده تعمل على التوصل إلى هدنة إنسانية مؤقتة فقط "من أجل اتخاذ خطوات للتخفيف من الضحايا المدنيين وإيصال المساعدات إلى غزة"، بحسب زعمه.
وتدعو تركيا التي سحب سفيرها لدى دولة الاحتلال الإسرائيلي الأسبوع الماضي، إلى وقف إطلاق نار كامل لمنع اتساع رقعة الصراع في المنطقة بأكملها.
وكان أردوغان حذر في تصريحات سابقة من تحول "ما يجري في قطاع غزة إلى قضية بين الصليب والهلال"، مشيرا إلى أنه بلاده لن تتمكن من الوقوف مكتوفة الأيدي في ظل ما يحدث من جرائم في غزة.
في السياق، شدد الدجني ردا على سؤال حول إمكانية تخطي صانع القرار التركي للولايات المتحدة للدفع نحو وقف إطلاق نار في غزة، على أن أنقرة تمتلك القدرة لتكون لاعبا أساسيا في هذا الصدد عبر الدعوة إلى قمة عابرة للقارات تجمع غالبية الدول الـ120 التي طالبت في الجمعية العامة بهدنة مستدامة في غزة.
وكانت 120 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، قد صوتت لصالح مشروع قرار يدعو إلى هدنة إنسانية فورية ومستدامة في قطاع غزة، وهو ما رفضته دولة الاحتلال واتهمت الدول الموافقة على القرار بـ"الدناءة" على لسان وزير خارجيتها.
وأشار الدجني في حديثه لـ"عربي21" أن هذه الخطوة التركية من شأنها أن تربك حسابات الولايات المتحدة ودولة الاحتلال في ما يتعلق بالعدوان المتواصل على قطاع غزة.
في المقابل، استبعد الباحث مهند أوغلو إمكانية أن تتخطى تركيا الولايات المتحدة للضغط باتجاه وقف إطلاق النار الدائم، موضحا أنقرة لن تتجه نحو خلق ضغط دولي مع روسيا أو الصين أو مع غيرهما في ظل غيار الدور الأوروبي بعد حرب أوكرانيا وتحوله بالكامل إلى صالح واشنطن.
وشدد أوغلو على عدم قدرة تركيا على أن تحشد مع روسيا ضد قرار الولايات المتحدة، فضلا عن كون الكلمة الأخيرة في هذا الصراع تعود لواشنطن التي تتحكم حتى في قرار "تل أبيب" النهائي، مشيرا إلى أن أنقرة على علم بذلك وهي تلعب على توازنات القوى من أجل وقف شلال الدم في قطاع غزة.
بدوره، رأى المحلل السياسي جلال سلمي، أن المقاربة التركية للعدوان على قطاع غزة تتمثل في السعي دبلوماسيا لتحقيق وقف إطلاق نار، مع التركيز على "احتراق" رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وتحميله مسؤولية الحرب الوحشية.
وكان أردوغان شن هجوما لاذعا ضد نتنياهو، مشددا على أن هذا الأخير هو المسؤول الأول عن ما يجري في قطاع غزة، وأنه شخص لم يعد في إمكان تركيا التعامل معه.
وذكر سلمي في حديثه لـ "عربي21"، أن أنقرة ستواصل الضغط الدبلوماسي لتحشيد الموقف الدولي والضغط على الولايات المتحدة ومن ورائها دولة الاحتلال، موضحا أن كافة الخيارات المطروحة على طاولة صانع القرار التركي هي دبلوماسية بحتة فقط، بحسب تعبيره.
عدوان متواصل
ولليوم الثاني والثلاثين على التوالي، يواصل الاحتلال عدوانه على غزة؛ في محاولة لإبادة أشكال الحياة كافة في القطاع، وتهجير سكانه قسريا، عبر تعمده استهداف المناطق والأحياء السكنية وقوافل النازحين ومزودي الخدمات الطبية.
وأسفر القصف الإسرائيلي العنيف عن ارتقاء أكثر من 10 آلاف شهيد؛ بينهم 4104 أطفال و2641 سيدة، فضلا عن إصابة أكثر من 25 ألفا آخرين بجروح مختلفة، وفقا لأحدث أرقام وزارة الصحة في غزة.
ويشهد قطاع غزة كارثة إنسانية غير مسبوقة، في ظل تواصل العدوان الإسرائيلي وقطع الكهرباء والماء، فضلا عن النقص الحاد في المستلزمات الطبية وانهيار المنظومة الصحية نتيجة القصف المباشر للمستشفيات ونفاد الوقود.
كما أنه يفتك الجوع جراء الحصار الإسرائيلي الخانق بأهالي القطاع المحاصر، لا سيما في مناطق الشمال، رغم العدد المحدود من شاحنات الإغاثة والإمدادات الإنسانية التي سُمح لها بالدخول إلى جنوب قطاع غزة عبر معبر رفح.