الكتاب: حرب المئة عام على فلسطين ـ قصة
الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 1917 ـ 2017
الكاتب: رشيد الخالدي
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون ـ بيروت
ـ الطبعة الأولى 2017، (358 صفحة من القطع الكبير).
بالنسبة إلى القوة الصاعدة في الولايات
المتحدة الأمريكية، فقد كان الزعماء العرب الذين تم اختيار أغلبهم من قِبل أسيادهم
الأوروبيين؛ بسبب مرونَتهم وليونتهم، فقد أظهروا ضَعفا ممزوجا بانخفاض مذهل في
مستوى الخبرة وعدم الوعي للتغيرات الدولية، وقّع الملك عبد العزيز في العربية
السعودية اتفاقية مستقبلية مهمة مع شركات بترول أمريكية سنة 1933 على حساب المصالح
البترولية البريطانية، واجتمع مع الرئيس المريض فرانكلين روزفلت، في سفينة حربية
أمريكية في ربيع 1945 قبل أسابيع من وفاة الرئيس الأمريكي، وحصل على وعود مؤكدة
مباشرة من الرئيس بأن الولايات المتحدة لن تفعل شيئا يضر بالعرب في فلسطين، وأنها
ستتشاور مع العرب قبل القيام بأي تصرف هناك. تجاوز هاري ترومان الذي جاء بعد
روزفلت جميع هذه الوعود دون اكتراث، ولم يعترض الملك على ذلك ولم يقدم أي محاولة
مؤثرة لصالح الفلسطينيين؛ بسبب اعتماد النظام السعودي اقتصاديا وعسكريا على
الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يفعل ذلك أيضا أي واحد من أولاده الستة الذين
جاؤوا من بعده. الاعتماد على أمريكا بالإضافة إلى جهل أجيال بعد أجيال من الحكام
العرب بأسلوب عمل النظام السياسي الأمريكي والسياسة الدولية، حرم العالم العربي من
أية فرصة لمقاومة التأثير الأمريكي أو لتغيير السياسة الأمريكية.
يقول الأستاذ الخالدي؛ "إن ديفيد بن
غوريون وإسحاق بن زفي، الذي أصبح فيما بعد الرئيس الثاني لإسرائيل، قد قضيا سنوات
عدة في نهاية الحرب العالمية الأولى في العمق من أجل القضية الصهيونية في الولايات
المتحدة الأمريكية، حيث عاشت غولدا مائير منذ طفولتها، (بينما كان والدي هو أول من
فعل ذلك من أفراد العائلة). فهِمت القيادة الصهيونية المجتمع الأوروبي وغيره من
المجتمعات الغربية بشكل عميق متطور، وكان أغلب أفراد هذه القيادة مواطنين أو
مُقيمين فيها، بينما لم يتمتع قادة العرب سوى بفهم محدود لسياسات وثقافات ومجتمعات
الدول الأوروبية، فكيف العرب سوى بفهم القوى العظمى الناشئة! تحدّث والدي عن تفرق
الفلسطينيين والعرب، وكذلك الدكتور حسين ويوسف صايغ ووليد الخالدي، كما وصَفوا
الدسائس والخلافات الداخلية التي كانت كارثية في النهاية بالنسبة لخطة المكتب
العربي في تمثيل الفلسطينيين دوليا، وكذلك بالنسبة لفرصهم في قمة صراع 1947 –
1948، لقد دخلوا هذا الصراع المصيري باستعدادات هزيلة سياسيا وعسكريا، وبقيادة
ممزقة ومتفرقة، كما لم يكن لديهم أي دعم خارجي سوى من دول عربية منقسمة بعمق وغير
مستقرة وخاضعة لتأثير القوى الاستعمارية القديمة، وكان سكانها فقراء وغير متعلّمين
إلى حد كبير، كان هذا بالمقاربة الصارخة مع الدعم الدولي الكبير، وبناء أسس الدولة
القوية الحديثة التي تمتعت به الحركة الصهيونية على مدى عقود"(ص106).
رمَت حكومة كليمنت البريطانية سنة 1947
مشكلة فلسطين في أحضان منظمة الأمم المتحدة الوليدة، أنشأت الأمم المتحدة لجنة خاصة بفلسطين (UNSCOP) لتقديم
اقتراحات بشأن مستقبل البلد، وكانت القوى المسيطرة على الأمم المتحدة هي الولايات
الأمريكية والاتحاد السوفييتي، قد توقّعت الحركة الصهيونية هذه التطورات بدهاء
بفضل جهودها الدبلوماسية نحو هاتَين الدولتين، إلا أن ذلك فاجأ الفلسطينيين والعرب
تماما؛ ظهر توازن القوى العظمى بعد الحرب في أعمال هذه اللجنة وفي تقريرها الذي
صدر مؤيدا تقسيم فلسطين بطريقة كانت في صالح الأقلية اليهودية، فمَنحتْهم 56% من
فلسطين مقارنة بالدولة اليهودية الأصغَر بكثير (17%) التي اقتَرحَتها خطة تقسيم
لجنة بيل (Peel) سنة 1937، كما
ظهر تأثير توازن القوى العظمى الجديد كذلك في الضغط الذي أدّى لإصدار قرار الجمعية
العامة رقم 181، الذي استَند إلى تقرير الأغلبية في اللجنة الخاصة بفلسطين (UNSCOP).
قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم
181 الذي صدر في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، أقرّ تقسيم فلسطين إلى دولة يهودية كبيرة ودولة
عربية أصغر، ووضع مدينة القدس كمنطقة منفصلة دولية، وعكس توازن القوى الدولية
الجديد، أصبح واضحا أن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي اللذين
أيدا القرار قد أديا الدور الحاسم في
التضحية بالفلسطينيين لصالح دولة يهودية، تحلّ محلَّهم وتسيطر على أغلب مناطق
بلادهم، كان قرارُ التقسيم إعلان حرب آخر، منح وثيقة ميلاد لدولة يهودية في أرض
كانت عربية في معظم أرجائها، في مخالفة صريحة لمبدأ تقرير المصير الذي أعلنه ميثاق
تأسيس الأمم المتحدة، وقد تبع ذلك بالضرورة طرد عدد من العرب يكفي لصنع دولة
أغلبية يهودية، ومثلما لم يعتقد بلفور بأن الصهيونية ستؤذي العرب، يبدو أن ترومان
وستالين عندما ضغطا لتمرير قرار التقسيم رقم 181 في الجمعية العمومية لم ينتبها، أو
أن مستشاريهِما لم يَمنَحوا أية أهمية لما يمكن أن يحدّث للفلسطينيين نتيجة
لتصويتهما.
في حرب 1967الخاطفة، حققت "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية نصرا كبيرا على الزعيم الراحل عبد الناصر والحركة القومية العربية. كانت "إسرائيل" هي التي اتخذت المبادرة بتدمير الطائرات المصرية وهي جاثمة في المطارات.
في تلك الأثناء، لم يعد خلق دولة يهودية هدف
بريطانيا؛ فقد استشاطت غضبا بسبب الحملة الصهيونية العتيقة التي أخرجَتها من
فلسطين، كما أنها لم تعد ترغب بإثارة استياء رعاياها العرب فيما تبقى لها من
إمبراطوريتها في الشرق الأوسط، ولذلك فقد امتَنعتْ بريطانيا عن التصويت على قرار
التقسيم. أدرك السياسيون البريطانيون منذ الورقة البيضاء سنة 1939 أن مصالح بلادهم
الرئيسية في الشرق الأوسط هي مع الدول العربية المستقلة، وليست مع المشروع الصهيوني
الذي رَعَتْه بريطانيا على مدى عَقدين من الزمن.
أدّى قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم
المتحدة إلى دعم القوتين الدوليتين الناشئتين في فترة ما بعد الحرب للمؤسسات
الصهيونية العسكرية والمدنية، فاستعدّت للاستيلاء على أكبر جزء ممكن من الأرض،
كانت المأساة الفلسطينية التي تَبِعت ذلك نتيجة ضعفهم وضعف العرب، وكذلك نتيجة قوة
الصهاينة وتأثير أحداث كانت تجري في أماكن بعيدة في لندن وواشنطن وموسكو ونيويورك
وعمّان.
يقول الأستاذ الخالدي: "عندما احتلّت
الهاغانا وغيرها من المليشيات الصهيونية الأحياء العربية للقدس الغربية في نيسان/أبريل
1948، استولَتْ على المركز الرئيسي للصندوق العربي في حي القطمون وأسر مديره يوسف
الصايغ، قبل ذلك بأسابيع قليلة سافر الصايغ إلى عمّان ليطلب المساعدة من الملك عبد
الله، ليمنع السقوط المحتّم للأحياء العربية في القدس الغربية، إلا أن القنصل
الأردني العام في القدس أخبَر الملك هاتفيا في أثناء وجود الصايغ بعدم وجود أي خطر، وصرّح: "مولاي، مَن الذي يخبركَ بهذه القصص، وأن القدس ستسقط بيد الصهاينة؟
هذا غير صحيح!". رفض الملك عبد الله طلب الصايغ نتيجة لذلك، وسقطت الأحياء
العربية الثرية في القدس الغربية، قضى الصايغ بقية فترة الحرب في معسكر لسجناء
الحرب، على الرغم من أنه لم يكن عسكريا"(ص110)..
هزيمة 1967
في حرب 1967الخاطفة، حققت
"إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية نصرا كبيرا على الزعيم الراحل
عبد الناصر والحركة القومية العربية. كانت "إسرائيل" هي التي اتخذت
المبادرة بتدمير الطائرات المصرية وهي جاثمة في المطارات. هكذا بدأت "حرب استباقية"
احتلّت "إسرائيل" في نهايتها أربعة أضعاف مساحة أراضيها، في الضفة
الغربية والقدس الشرقية وسيناء والجولان. وتم تشريد 400 ألف لاجئ فلسطيني جديد، ورفضت "إسرائيل"إعادة الأراضي المحتلة، وأبقت تحت سلطتها شعبا فلسطينيا مقاوما، معتبرة أن اللجوء إلى القوة وحده يحلّ المشاكل؛ وهذا ما أغرقها
في أزمة سياسية وأخلاقية عميقة، ليست فضائح الفساد المتكرر سوى واحدة من ظواهرها.
يقول الأستاذ الخالدي: "عرف الرئيس
ليندن جونسون أنَّ الأمر يختلف عن ذلك، فقد أخبره آبا إيبان الذي كان وزير خارجية
إسرائيل خلال اجتماع عُقد في واشنطن بتاريخ 26 أيار/مايو 1967، أن مصر على وشك القيام
بهجوم، طلب الرئيس من وزير دفاعه روبرت ماكنمارا أن يضع الأمور في نِصابها، بحثَتْ
ثلاث مجموعات استخباراتية منفصلة جيدا في هذه القضية، وقال ماكنمارا: "حسب
أفضل تقديراتنا، لا يوجد احتمال للهجوم". أضاف جونسون: "وقد أجمع رجال
استخباراتنا على ذلك"، وعلى أنه "إذا هاجمت مصر فسنوجِّه لها ضربة ساحقة". كانت واشنطن تعلم أن القوة العسكرية الإسرائيلية في حرب 1967 أقوى بكثير من جيوش الدول العربية مجتمعة كافة، مثلما كان الحال في جميع الصراعات بينهم.
شنّت حركة فتح في الأول من كانون الثاني/يناير 1965 هجوما لتعطيل محطة ضخ للمياه في وسط إسرائيل، كانت هجمة رمزية هدفها الأساسي مثل كثير غيرها، هو إظهار أن الفلسطينيين يستطيعون التصرف بكفاءة حينما لا تستطيع الحكومات العربية ذلك، وكذلك لإحراج تلك الحكومات وإجبارها على التصرف.
أكّدت الوثائق الحكومية التي نُشرت منذ ذلك
الوقت هذه الحقائق، وتوقّعت مصادر عسكرية واستخباراتية أمريكية نصرا ساحقا لإسرائيل في جميع الأحوال، بالنظر إلى تفوق قواتها المسلحة. بعد خمس سنوات من حرب
1967، تشكل دولة صغيرة ضعيفة تهديدا مستمرا بالفَناء، وما زالت تواجه هذا الخطر، ساعدت هذه الأسطورة على تبرير الدعم الكامل لسياسة إسرائيل مهما كانت متطرفة، وعلى الرغم
من دحضها مِرارا حتى من جهة آراء إسرائيلية مسؤولة"(ص 142).
تطوَّر مسار الحرب تماما مثلما توقعت وكالة
المخابرات الأمريكية ووزارة الدفاع، دمَّرت ضربة سريعة قام بها سلاح الجو
الإسرائيلي غالبية الطائرات المصرية والسورية والأردنية على الأرض، منح ذلك
إسرائيل تفوقا جويا تاما، وامتيازا لقواتها البرية في تلك المنطقة الصحراوية في
ذلك الفصل من السنة، وتمكنت أرتال المدرعات الإسرائيلية في ستة أيام من
احتلال
سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية العربية ومرتفعات الجولان.
كانت أسباب انتصار إسرائيل الحاسم في حزيران/يونيو
1967 واضِحة، إلا أن العوامل التي أدت إلى الحرب كانت أقل وضوحا، كان السبب
الرئيسي في ذلك هو تصاعد جماعات الفدائيين الفلسطينيين المسلَّحين. كانت الحكومة
الإسرائيلية قد بدأت بتحويل مياه نهر الأردن إلى وسط البلاد، على الرغم من رفض
الجماهير العربية وضعف الأنظمة العربية، شنّت حركة فتح في الأول من كانون الثاني/يناير 1965
هجوما لتعطيل محطة ضخ للمياه في وسط إسرائيل، كانت هجمة رمزية هدفها الأساسي مثل
كثير غيرها، هو إظهار أن الفلسطينيين يستطيعون التصرف بكفاءة حينما لا تستطيع
الحكومات العربية ذلك، وكذلك لإحراج تلك الحكومات وإجبارها على التصرف. كان
المسؤولون المصريون ينظرون بعين الشك إلى حركة فتح، ويعدّونها مدفعا منفلتا يحرض
إسرائيل بتهور، في وقت كانت فيه مصر مشغولة بتدخل عسكري في حرب أهلية في اليمن وفي
بناء اقتصادها.
حدث ذلك في ذروة ما أطلق عليه الباحث مالكوم
كير "الحرب العربية الباردة"، حينما قادت مصر تحالفا من الأنظمة القومية
العربية المتشددة ضد التحالف المحافظ بقيادة السعودية، كانت نقطة الصراع بينهم في
اليمن، حيث قامت ثورة ضد الملكية سنة 1962، وأدّت إلى حرب أهلية انخرطت فيها قوات
عسكرية مصرية كبيرة.
اقرأ أيضا: تاريخ المقاومة الفلسطينية للاستعمار الصهيوني الاستيطاني.. قراءة في كتاب