تتوالى الأزمات
الكاشفة عن تراجع حجم الدور المصري عربيا وأفريقيا وحتى عالميا، منذ تعرض أكبر بلد
عربي من حيث السكان لانقلاب عسكري أطاح بأول تجربة ديمقراطية منتصف العام 2013،
وما تبعه من خضوع القاهرة المهين لقرارات وتوجيهات حكومات واشنطن، وبروكسل، وتل
أبيب، وأبو ظبي، والرياض، وفق مراقبين.
مقال لرئيس
تحرير موقع "ميدل إيست آي" الكاتب البريطاني ديفيد هيرست، عن فقدان مصر
أدوارها في محيطها شرقا حيث حرب غزة، وجنوبا حيث صراع السودان، وغربا حيث الأزمة
في ليبيا، أثار الجدل حول تجريد رئيس النظام عبد الفتاح
السيسي للبد العربي
الأفريقي من مكانته.
مقال هيرست، جاء
في سياق حديثه عن خطط أمريكية إسرائيلية أوروبية كشف عنها الرئيس الأمريكي جو
بايدن مطلع آذار/ مارس الجاري، تقضي بإنشاء الجيش الأمريكي ميناء على ساحل غزة
لنقل المساعدات –بدلا من
معبر رفح البري- إلى القطاع الذي يواجه حرب إبادة جماعية
ترتكبها الآلة العسكرية الإسرائيلية بحق 2.3 مليون فلسطيني منذ 7 تشرين الثاني/
أكتوبر الماضي.
وقال هيرست، إنه
"بإغلاق معبر رفح إلى الأبد -بعد بناء الرصيف- فستحرم مصر من ورقتها
الاستراتيجية الأخيرة: غزة".
وأضاف:
"وبعد أن تخلى عن مكانته كزعيم للعالم العربي، وفقد كل نفوذه على جيرانه،
السودان وليبيا، فإنه لم يتبق للسيسي سوى مهمة واحدة، وهي القيام بدور المتنمر الأوروبي
الكبير ضد اللاجئين".
ويبدو أن الكاتب
البريطاني المهتم بملفات الشرق الأوسط، أراد هنا الإشارة إلى الدعم الكبير الذي
قرره الاتحاد الأوروبي الأحد الماضي، لمصر بنحو 8 مليارات دولار، بهدف دعم نظام
السيسي، في أزماته المالية، مقابل قيامه بدور الشرطي القائم على حراسة الشواطئ
الجنوبية للبحر المتوسط ومنع تدفق اللاجئين والمهاجرين من مصر معبر الكثير من
الأفارقة نحو دول جنوب أوروبا وخاصة اليونان وإيطاليا.
وأكد هيرست، أن
"ذلك هو منطق قلعة أوروبا: ادعم دكتاتورا يثير الفوضى في بلده ويجبر آلاف
المصريين على ركوب قوارب الهجرة، ثم كافئه من خلال تحويل الموجة البشرية من البؤس،
التي أوجدها هو ابتداء، إلى جدول متدفق من الإيرادات التي هو في أمسّ الحاجة إليها".
وفي ذات السياق،
تناقل نشطاء حديثا لعالم الاقتصاد الأمريكي صاحب الكتاب الشهير "اعترافات قاتل
اقتصادي" جون بيركنز، عن تركيع الغرب للدول عبر الأنظمة الدكتاتورية بتقديم
الدعم المالي لها في مشروعات فاشلة تعمق أزمة البلاد، الأمر الذي ينطبق على مصر
السيسي، بشكل واضح.
وأشاروا إلى قول
بيركنز، في مذكراته: "نحن نغري الدكتاتور بأخذ القروض الضخمة، ونعلم أنه
يسرقها، أو يضعها في مشاريع فاشلة، ثم تكبر القروض وفوائدها فلا يستطيع الدفع، ولا
يستطيع غيره الإصلاح مهما فعل، وتصبح تلك الدولة رهنا لنا حتى لو جاء لحكمها بعد
ذلك قائد نظيف وسياسي محنك".
"أزمات وجودية"
ومنذ انقلاب 3
تموز/ يوليو 2013، ولأكثر من 10 سنوات، يسير رئيس النظام عبد الفتاح السيسي، على
ذات السياسات في الإنفاق الباذخ وغير المجدي، الذي أوصله إلى الاستدانة الخارجية،
وتكبيل مصر واقتصادها وشعبها وأجيالها القادمة بأكبر حجم ديون وفوائد في التاريخ،
يربو على الـ200 مليار دولار، وجعلها رهن السيطرة والتدخل الأجنبي في أي وقت، بحسب
مراقبين.
وتؤكد البيانات
الرسمية تضاعف إجمالي الديون الخارجية المستحقة على مصر خلال السنوات العشر
الأخيرة، حيث بلغ إجمالي الدين الخارجي بنهاية الربع الأول من العام الماضي نحو
165.4 مليار دولار.
وخلال السنوات
العشر الماضية من حكم السيسي، خرجت إلى السطح أزمات اعتبرها مراقبون تمثل تهديدا مباشرا
لكيان الدولة المصرية ووجود المصريين، وخاصة الأزمة الداخلية في ليبيا (2014-
2020) والتي انغمست فيها حكومة السيسي، بدعم أحد أطرافها عسكريا وهو قائد الانقلاب
الليبي خليفة حفتر.
وهي الأزمة التي
سبقها بناء إثيوبيا سدا
على النيل الأزرق، يأكل من حصتي مصر والسودان التاريخية من مياه النيل، ليزيد
السيسي "الطين بلة" بتوقيع اتفاق العام 2015، الذي اعترف فيه بحق
إثيوبيا ببناء سد النهضة، فيما عجز حتى الآن عن التوصل إلى اتفاق ملزم لأديس أبابا.
وتعمقت الأزمة مع تفجر حرب أهلية في الجارة الجنوبية لمصر السودان في نيسان/ أبريل الماضي،
بين الجيش السوداني ومليشيات الجنجويد، والتي نتج عنها فرار ملايين السودانيين من
الحرب إلى مصر ودول الجوار.
"الورقة الأخيرة"
لكن يرى متحدثون
لـ"عربي21"، أن الأزمة الأكثر خطورة على الوجود المصري هي الأزمة
الفلسطينية، والحرب الجارية في غزة، وخطط إسرائيل بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء،
وما يقابله من خضوع وخنوع مصري للقرار الإسرائيلي، ومواصلة حصار قطاع غزة، ما أفقد
القاهرة إحدى أهم أدوارها التاريخية.
وهو ما أشار
إليه رئيس تحرير "عربي21"، فراس أبوهلال، في تحليله الذي جاء بعنوان “ميناء غزة تهديد لدور مصر الاستراتيجي.. أين موقف القاهرة؟”، محذرا من إنهاء دور
مصر بالقضية الفلسطينية، من خلال إغلاق البوابة الوحيدة لهذا الدور وهي "معبر رفح"، باعتباره المنفذ الوحيد لقطاع غزة.
وأعرب عن مخاوفه
من استخدام الميناء القبرصي مع غزة مستقبلا لتهجير أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين،
كما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الكنيست.
ولفت أبو هلال،
إلى أن الدور الاستراتيجي المصري بني تاريخيا على ثلاثة أسس، هي: "القوة
الديمغرافية والتاريخية والاقتصادية لمصر، النفوذ في أفريقيا، القضية
الفلسطينية"، مؤكدا أن الأسس الثلاثة "تراجعت".
"خطط مفزعة"
وفي تعليقه على
حديث هيرست والحالة المصرية، قال مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق السفير عبد
الله الأشعل: "لم تعد مصر اليوم كما كانت؛ بل أصبحت تحت أقدام جميع الأمم،
وفقدت كل مقومات قوتها وهويتها العربية والإسلامية ومكانتها الأفريقية والعالمية،
وأصبحت الإمارات والسعودية سيدة قرارها".
وفي حديثه
لـ"عربي21"، أكد المرشح الرئاسي المصري الأسبق، أنه "صُدم من موقف
الدول الأفريقية والدول الكبرى التي جاءت داعمة لإثيوبيا ضد مصالح مصر في ملف سد
النهضة بمجلس الأمن الدولي"، متسائلا: "كيف هذا؟ لقد فقدت نفسها ولم
تعد مصر".
وأوضح أن
"ما لم يفهمه الناس أنه بعد أزمة غزة سيأتي الدور على مصر"، مشيرا إلى
أن "السفيرة الأمريكية السابقة بالقاهرة آن باترسون (2011- 2013) قالت في
محاضرة في واشنطن الأسبوع الماضي، إن كل السفراء الأمريكيين في مصر لديهم تكليف
للعمل على تمكين إسرائيل من مصر"، متسائلا مجددا: "ماذا تبقى لكي نفهم؟".
وألمح الأشعل إلى
أن "تلك السفيرة في 20 شباط/ فبراير 2011، نقلت لي جزءا من السيناريو الذي
حدث لمصر طوال السنوات السابقة"، مشيرا إلى أن "الخطة قائمة منذ ذلك
التاريخ، ووضحت لي من قولها إنهم سيعملون دائما على ألا تموت مصر ولا تعيش"،
مبينا أنهم "ينفذون مخططهم الآن، ولهم عملاء مخلصون يبحثون عن مصالحهم ولا
يحبون مصر".
ولفت السياسي
المصري، إلى أن "صناعة حزام من الأزمات حول مصر في ليبيا والسودان وغزة أمر
مقصود"، معبرا عن شديد أسفه من أن "مصر الحالية ساهمت في تأجيج تلك
الأزمات، وما يحدث بالسودان وليبيا قبله وغزة الآن جزء منه"، مؤكدا أن
"إسرائيل لم تكن لتجرؤ على أن تنفرد بغزة لولا أنها تملك مصر ".
وقال إن
"أزمة غزة كشفت عن أن واشنطن اشتغلت طويلا ونالت نتيجة شغلها، بأن سيطرت على
كل الرؤساء العرب، الذين بدورهم قهروا شعوبهم، التي صارت خاضعة لآلتهم القمعية".
ويرى الأشعل، أن
"بناء رصيف رفح تسعى من خلاله إسرائيل وأوروبا وأمريكا لحرمان مصر من ورقتها
الأخيرة في غزة"، مؤكدا أن "بناء ذلك الرصيف له أبعاد طويلة المدى،
وأعتقد أنه أولا بهدف القضاء على المقاومة في غزة علما بأن المواطن المصري مصلحته
دعم تلك المقاومة، أما مصلحة الجالسين على الكرسي فهي في العمالة لأمريكا وإسرائيل".
ويعتقد أن الهدف
الأبعد من ذلك الرصيف هو "التهجير"، موضحا أن "هناك اتفاقا تم
بالفعل مع النظام المصري وفقا لصفقة القرن عام 2018، وحصل على المقابل المادي،
وأتوقع أن يتم إما مباشرة إلى سيناء أو إلى قبرص ومنه إلى سيناء ونحن نتفرج ولن
ترحمنا الأجيال القادمة".
"معادلة الحكم"
وفي إجابته عن السؤال: "ماذا يجب على أي نظام وطني حقيقي يحكم مصر إزاء أزمات المحيط
المصري؟"، قال الأشعل: "لن يأتي ذلك الحاكم، لأن هناك معادلة تحكم من يتولى حكم
مصر والدول العربية، وتلك المعادلة المسيطر عليها هو الغرب وإسرائيل".
ويرى المرشح
الرئاسي المصري الأسبق أن "المشكلة في تلك المعادلة أن أمريكا وضعتها شخصيا
بحق مصر، والرئيس الأمريكي جو بايدن عندما زار إسرائيل، قال: (إن لم توجد إسرائيل
لاخترعناها)".
وتساءل
الدبلوماسي المصري: "ماذا تبقى لكي نفهم أن كل شيء مكيف لخدمة إسرائيل على
حساب مصلحة مصر، والتي تغلب عليها مصلحة الحاكم العربي، والكرسي المرهون لخدمة
إسرائيل حتى أصبح في خدمة وحراسة أوروبا أيضا من المهاجرين؟".
ولفت إلى
"زلة لسان رئيس النظام في الأمم المتحدة عام 2017، عندما قال: (أمن وسلامة
المواطن الإسرائيلي جنبا إلى جنب، مع أمن وسلامة المواطن الإسرائيلي)"،
مؤكدا أن "الغرب أتى بالعملاء ورباهم كابرا عن كابر منذ 1952".
وأكد أن
"المؤامرة أمريكية أوروبية إسرائيلية على مصر لتقزيمها وسرقة أدوارها وإضعافها
وتركيعها وتركها لا حية ولا ميتة"، ملمحا إلى أن "الحل بأن يفهم الشعب
المصري حجم المؤامرة ثم يتحرك دفاعا عن بلده، لأنه بعد ذلك ستسيطر إسرائيل على مصر
وتريد تفريغها من سكانها كما فعلت في فلسطين".
وقال إن
"المفاوض الإسرائيلي قال لي عند التفاوض بملف التعويضات المصرية في سيناء:
(إننا أحق بمصر من المصريين)"، مؤكدا أن "الأمور واضحة جدا، وعلى
المصريين فهم المعادلة، وأنهم يجب أن يكونوا على مستوى بلدهم، ويعرفوا أننا تحت
الاحتلال".
"خطط التركيع"
وفي ظنه، يرى
الباحث المصري في الشؤون السياسية والاستراتيجية والعلاقات الدولية أحمد مولانا،
أن "مصر بعد ثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011، والتغيير السياسي القصير الذي
حدث فيها فإن هذا كان مؤشرا على تهديد جوهري بالنسبة لإسرائيل والدول الغربية".
الباحث في مجال
الدراسات الأمنية، أوضح في حديثه لـ “عربي21"، أنه "وبالتالي كانت هناك
مجموعة من السياسات التي تم اعتمادها، وأولها دعم الانقلاب العسكري الذي وقع منتصف
2013، لإضعاف الدولة المصرية، والأمر الثاني، إغراق مصر بسلسلة من الأزمات في
محيطها وفي داخلها".
ولفت إلى أنه
"في المحيط كانت أزمة سد النهضة الإثيوبي، والذي بدأت الخطوات الأولى له عام
2011، ثم بعد ذلك ما حدث في ليبيا، وما جرى في السودان أيضا ويتوج مصر بسلسلة من
الأزمات والتحديات، تجعلها في حال حدوث تغيير سياسي داخلي مختنقة".
وأضاف:
"بجانب أن ملف المياه صار بيد إثيوبيا والحدود الثلاثة الشرقية والجنوبية
والغربية مشتعلة بأزمات خطيرة؛ هناك أزمة الإغراق في الديون من أجل تركيع القرار
المستقل في حالة أن يكون هناك نظام وطني حقيقي".
وتابع:
"وبالتالي يكون غير قادر على التعامل مع محيطه، غير قادر على توفير المياه
الضرورية لكل الأنشطة الحياتية من زراعة وصناعة ومعاش، ويكون مغرقا بالديون ويواجه
أزمة في سدادها".
ويرى مولانا، أن
"هذا السيناريو بدأ بعد 2011، وذروته كانت في انقلاب 2013، ثم بسياسات نظام
السيسي طوال 10 سنوات، رغم وضوح فشلها وتداعياتها السلبية إلا أنه يصر عليها
لتعميقها سواء عن وعي منه أو دون وعي لخطورة ما يتم، واستصعب حالة عدم الوعي، لأن
أي متابع منصف لوضع مصر يدرك عمق الأزمة".
وأكد أنه
"بالتالي فعلا فإن الورقة الإقليمية الوحيدة المتبقية لدى مصر هي معبر رفح
إذا سُحبت منها لم يعد لمصر وزن إقليمي، وتتحول إلى شرطي، كما ذكر هيرست، لمكافحة
الهجرة ومنع المهاجرين من مصر وأفريقيا من الوصول إلى دول الاتحاد الأوروبي".
وأشار إلى أن
"الخطر الذي برز في 2011، بأن تنهض مصر وتكون قاطرة العالم العربي وقلب
العالم الإسلامي الذي قد يصل إلى مرحلة نهوض؛ تم وأد هذا الوضع".
وأضاف:
"الأمر الثاني، ولأن الأسباب التي أدت إلى 2011، موجودة وتتراكم لو حدث تغيير
سياسي تصبح عوامل التركيع والتطويق والاضعاف التي تم تفعيلها خلال السنوات التي
تسبق أي تغيير بحيث أن أي نظام مستقل يفاجأ بأنه يقود بلدا محاطا بالديون والأزمات
غارقا في المشاكل ويكون غير قادر على إحداث التغيير والنهضة المنشودة".
وألمح إلى أن
"أطرافا خارجية وأوروبية تدعم الرؤية الإسرائيلية القائمة على إضعاف الدول
الموجودة بالجوار الإسرائيلي بحيث تكون الأخيرة صاحبة الكلمة الأكبر، وهذا نراه
واضحا في الخنوع المصري في ملف دخول المساعدات إلى أهالي غزة، أو خروج الجرحى من معبر
رفح، وكيف بدا أنه مجرد تابع للمواقف الإسرائيلية".