ميلود الرحالي.. باحث مغربي
غاية هذا المقال البحث والمساهمة في الإجابة عن السؤال الآتي: هل يصح
اعتبار
الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان مشروعا نموذجا تنمويا وطنيا؟
وبكثير من التركيز، يستعرض المقال جملة من العناصر الشكلية والموضوعية الرئيسة،
التي دفعتنا إلى الاعتقاد بأهمية هذا الاعتبار، لكونه إنصافا في حق الوثيقة
باعتبارها مجهودا قاصدا ومنظما ومقدرا، وقابلا للتنزيل في مرحلة زمنية محددة،
ولكونه مصلحة وطنية قبل كل شيء، ثم لكونه فرصة تاريخية لتمرين جديد من تمارين
الانفتاح والتواصل الثقافي، والاشتباك المعرفي والمجتمعي بين الباحثين والمهتمين
وبين إصدارات ووثائق مكونات الفعل الاجتماعي، لا سيما جماعة العدل والإحسان التي
لم يسبق لها أن أقدمت على مبادرة من هذا القبيل.
ورغم أهمية الموضوع، فقد آثرنا تناوله بمنهجية إثارة القضايا
الأساسية المهيكِلة للوثيقة، وفي سياقها العلمي والمعرفي من فكر الجماعة وتصورها
ومواقفها، دون تفصيل لعدة اعتبارات:
ـ الوثيقة مقترح منفتح ستكون لنا، دون شك، فرصة الرجوع إليه للمزيد
من التفصيل.
ـ اعتمد الكثير من الكتاب
ممن سبقونا إلى الموضوع مناهج كتابة صحفية تنتقد الوثيقة في جزئيات صغيرة، وتسهب
في تحليل بعض القضايا الثانوية باعتبارها مركزية. في حين أن الوثيقة بمثابة حقيبة
متكاملة، والتحليل المكثف والعميق لكل ملف يحتاج منا الوقت والجهد وسعة التأليف،
ما ليس لنا إليه سبيل بحسب ما تتيحه سعة المقال.
ـ اعتماد المنهج الحجاجي/الدفاعي في عرض الوثيقة أو انتقادها، فوت
بشكل كبير، فرصة التحليل العلمي والتقعيد المعرفي الهادئ، وفق الأدوات المعروفة
لإبراز حقيقتها ومراميها، وهذا يحتاج إلى مراحل وعتبات تحليلية متصاعدة، نرى
أولاها في مثل هذا النموذج من المقالات.
ـ رغم كونها صادرة عن مؤسسة سياسية (الدائرة السياسية)، إلا أن
الوثيقة تعد بامتياز منجزا علميا يستحق الدراسة، وتقديم ملخص تنفيذي، أو ما شابه
ذلك (على شاكلة هذا المقال) سيقدم خدمة معرفية وعلمية جمة للمتتبعين والباحثين.
1 ـ محددات وعناصر النموذج التنموي، تعاريف متقاطعة
هناك تعاريف متنوعة وكثيرة، لكن تشترك جلها في كون النموذج التنموي
تصورا خاصا للتنمية، من وجهة نظر حضارية معينة، غايته تحقيق التنمية في سياق مشروع
مجتمعي معين، قابل للتنزيل من حيث اقتراحاته المبنية على تشخيص دقيق ومتكامل
للأوضاع العامة، وتحديد الإمكانات المتاحة والممكنات المتوقعة. ويكون بمثابة مرجع
منسجم للسياسات العمومية والتوجهات القطاعية والبرامج الترابية.
ومن هنا يمكن عرض الوثيقة السياسية على مكونات هذا التعريف لتقييم
مدى انضباطها ومسايرتها له:
2 ـ الوثيقة تصور خاص للتنمية
من يبحث في تفاصيل الوثيقة السياسية، يجد أن النموذج المقترح للتنمية هو
شكل خاص من "التنمية المركبة"، والأخيرة نموذج معروف لدى المختصين، يقوم
على أساس نقدي لنموذج "التنمية حرية" لأمارتيا صن، وبعض النماذج
التنموية القائمة على الوصل بين التنمية (المؤشرات) والمقوم الحضاري والثقافي
كالنموذج الياباني، اعتبارا أن الإنسان "فاعل قيمي"، في عبور معرفي خاص
بين ما لا ينسجم في العقل الاستعماري الغربي من التقريب بين الهوية والتنمية
(التنمية هوية)، إذ على نقيض "الفكرة الدينية" التي تتأسس عليها النماذج
التنموية الغربية بحكم تاريخها وسياقها الحضاري الخاص، فتقيم سياجا سميكا بينهما
وخصاما نكدا متعمدا ومفتعلا، تجتهد فكرة "التنمية المركبة" في عرض القيم
والثقافة الخاصة للأمم والشعوب، المستمدة من أصول الشريعة السمحاء للدين الإسلامي
في الحالة الإسلامية، في صلب وروح المطالب التنموية، فتصبح قائمة على العدل
والمساواة والحرية والرفاه والتكارم والرفق، لا على العنف والحقد والتخلف كما يصور
ذلك البعض.
وفكرة "التنمية المركبة" تنبني، بعد تحديد المنطلقات
الحضارية والقيمية، على ثلاثة مرتكزات أساسية: طبيعة السلطة وشكل الدولة القادرة
على رعاية النموذج وكيفية تأسيسها، وطبيعة النخبة الوطنية المناسبة للاستحقاق
التنموي الجديد، ثم طبيعة الأمة الحاضنة للنموذج والمساهمة فيه والحريصة على
استدامته. وإذا أردنا أن نقف عند المفهوم الجديد للتنمية المركبة المقترحة في
الوثيقة، فيمكن أن نسميها بـ"تنمية العمران الأخوي" باعتبار مآلات
التنمية وغاياتها إلى تحقيق العمران الأخوي المبني على المواطنة القلبية الحقة.
ولعل التأكيد المتكرر للوثيقة على أهمية بناء الإنسان متعدد
المسؤولية؛ أمام نفسه وربه ومجتمعه وبيئته، يؤكد الطبيعة المركبة للنموذج المقترح،
وطموحها إلى تجاوز النماذج الاستهلاكية في صياغة الإنسان، ونماذج التشييء
الإنساني، التي اختزلت الإنسان في نموذج التردي والبعد الواحد؛ بُعد السلبية
والمغلوبية والاستهلاك والتبعية والتبرير واللامعنى، أو بُعد السيولة المركبة كما
عبر عن ذلك العديد من المفكرين الاجتماعيين (رواد الفكر النقدي على الخصوص).
يزيد من الاعتقاد بالطبيعة المركبة للتنمية المقترحة، حرصها على
تحديد القيم الحضارية والإنسانية التي تؤسس لها الوثيقة، في انسجام مع المرجعية
التنظيرية (المنهاج النبوي)، وفي انفتاح على الفكر الإنساني والتجارب البشرية في
التنمية والإقلاع والرفاه. ناهيك عن منهجية التشخيص المعروضة، التي أظهرت حصانة
معرفية وموضوعية جعلتها فوق النقد بامتياز، وحزمة الاقتراحات الموضوعية كما وكيفا
وتنوعا وتكاملا.
العمران الأخوي هو نموذج خاص من النظام الاجتماعي، الذي يضمن حقوق الأفراد في نسق مصالح المجتمع، يتوازن فيه مطلب حرية الأفراد بضرورات حماية المجتمع ومصالح الأجيال الحالية والمقبلة، ولا يمكن تحقيق ذلك وفق تصور الإمام، إلا من خلال تشريع سامٍ على تخطيط البشر، وهو الشرع الإسلامي
وتنفتح الوثيقة على نموذج تنموي جديد، يتجاوز الاقتراحات الجامدة
الخاضعة لعمليات الضبط السياسي والاجتماعي، إلى مفاهيم جديدة للتعاقد المتعدد
الأبعاد؛ القيمية والسياسية والاجتماعية، الكفيل بتحقيق العدالة والمساواة والعمل
المشترك المبني على الوضوح والمصارحة والمسؤولية، لتجاوز كل أشكال الاحتقان
والترقب واحتمال العنف. كما تقترح شكلا جديدا من المصالحة بين الدين والقيم وأشكال
الرفاه الاجتماعي والديمقراطية التشاركية، حيث يقترح النموذج المركب للتنمية إحداث
جسور تواصلية بين السلطة والنخبة والمجتمع لتجاوز سيطرة المال والاستبداد السياسي،
في أفق استعادة الرغبة في التحرر عن السرديات الكبرى وعن التبعية للغالب.
3 ـ أية رؤية حضارية مؤطرة؟ وأي مشروع مجتمعي محتضن؟
تصرح الوثيقة أن الرؤية الحضارية المؤطِّرة هي مشروع العمران الأخوي،
الذي تحدث عنه مؤسس الجماعة؛ الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمة الله عليه.
والعمران الأخوي هو نموذج خاص من النظام الاجتماعي، الذي يضمن حقوق الأفراد في نسق
مصالح المجتمع، يتوازن فيه مطلب حرية الأفراد بضرورات حماية المجتمع ومصالح الأجيال الحالية والمقبلة، ولا يمكن تحقيق
ذلك وفق تصور الإمام، إلا من خلال تشريع سامٍ على تخطيط البشر، وهو الشرع
الإسلامي، لكون التخطيط والقوانين البشرية تحمي المصالح العامة، الفردية
والجماعية، من منطلق المصالح الدنيوية، أما الدين الإسلامي في كلياته ومقاصده،
فإنه يحمي المصالح ويحافظ عليها في العاجل والآجل (في الدنيا والآخرة)، وبذلك تصبح
المصالح الدنيوية في سياق الإعداد للآخرة.
وطبيعي جدا أن يختلف هذا التصور عن منطق الحقوق الطبيعية والحرية
المطلقة غير المنضبطة، غير أن الاختلاف في الرؤى والتصورات لا ينبغي أن يحسم إلا
في إطار تنافس الأفكار والقيم والتصورات، واحترام حرية الشعب في الاختيار، والسلم
والتوافق والتداول. يقول الإمام في تحديد مفهوم العمران: "قصدي بالعمران يشمل
المدلول الخلدونيّ لـ«عمران» والمدلول العصري لـ«حضارة» مربوطَيْن بتوجّه القاصدين
المعمِّرين المتحضـرين على منهاج السكة المستقبلية العابرة من الدنيا للآخرة،
مربوطين بمعاني عِمارة المساجد الواردِ فيها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ
مَسَاجِدَ اللِه مَنْ آمَنَ بِاللِه وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ
وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ
مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾. مربوطين بالكلمة القرآنية التي بلغ بها العبد الصالح سيدنا
صالح عليه السلام قومه بمراد الله الشـرعي من المؤمنين إذ قال لهم: ﴿هُوَ
أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ
تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾".
4 ـ مطالب النموذج التنموي المقترح
تتأسس الوثيقة على مطالب أساسية بمثابة مداخل الإصلاح ودعامات
التنمية المطلوبة، وهي خمسة مطالب رئيسة:
الكرامة الإنسانية: هي خامس أهداف المشروع السياسي للجماعة، كما تعبر
الوثيقة، وتتبنى هذه الأخيرة موقفا شرعيا من قضية الكرامة، باعتبارها منحة
وتشريفا واصطفاء من الخالق سبحانه، وتجاوزها يعد عصيانا له وتعديا على حق إلهي،
وهي قيمة كلية ومطلقة لا تعترف بالجنس أو اللون أو الدين. كما تتبنى الوثيقة موقفا
سياسيا مشتقا من الموقف الشرعي، يعتبر الكرامة نقيض الاستعباد الاقتصادي
والاجتماعي، ومطلبا سياسيا وهدفا مرجعيا ومبدأ رئيسا في الآن نفسه، "فلا
معنى لوجود حرية وديمقراطية سياسية في ظل استعباد اقتصادي واجتماعي للمواطن بدعاوى
مختلفة. ولا يمكن أن تصان كرامة الإنسان بدون نهج الدولة سياسات واضحة لإقرار
العدالة الاجتماعية، وكذا بدون وجود حد أدنى يمكن المواطن من العيش الكريم من خلال
توفير ضروريات الحياة، التي يمكن أن تتسع كلما استقر الاقتصاد الوطني ونما وتقدم".
الحرية السياسية: باعتبارها المشترك في الفكر السياسي الحديث، تعد
الحرية مطلبا رئيسا للتنمية المركبة، وتستحضر الوثيقة السياق
المغربي بتاريخه
المتخم بالانتهاكات، فتطرح 10 مقترحات مركزة في الباب. والحرية في مضمون الوثيقة
لا تنفك عن مدخلين أساسيين هما: حتمية التنوع القيمي والثقافي، وطبيعة النظام
السياسي. وتؤكد أن مدخل الحرية الحقيقي هو التأسيس لنظام سياسي ديمقراطي يكرم
الإنسان على مناط التكريم الإلهي له، وبذلك تستحضر مطلب الحرية وفق هذين
المدخلين: "إن المدخل الأساسي لحماية حقوق المواطنين وحرياتهم يتمثل في التأسيس
لنظام سياسي ديمقراطي، يلتزم بالحقوق والحريات، ويكرم الإنسان تكريما متناسبا مع
التكريم الإلهي، ويجعل منه منطلقًا للتنمية وهدفا لها".
تحرير الاقتصاد الوطني: تنحاز الوثيقة إلى مطلب تحرير الاقتصاد
الوطني، غير أنها تنبه إلى أنه بالإضافة إلى وجود إعاقة داخلية أمام عملية
التحرير، هناك إعاقة الاقتصاد المعولم ومخلفات التبعية، فتنبه إلى حالة الاحتكار
والتركيز الحاصل في رؤوس الأموال ووسائل الإنتاج ومقدرات البلد في يد أقلية من
العائلة الملكية والعائلات النافذة ومن يدور في فلكها، ما نتج عنه انحصار في الفرص
التنموية وتراجع معدلات النمو "ويمكن إجمال أبرز تلك الاختلالات في التركيز
الشديد لرؤوس الأموال ووسائل الإنتاج والأراضي في يد العائلة الملكية والعائلات
النافذة وبعض الشركات الأجنبية التي استفادت من اقتصاد الريع والتوزيع غير العادل
للأراضي والثروات والامتيازات، مقابل انحسار كبير للفرص المتاحة لباقي الفاعلين
والمستثمرين الصغار والمتوسطين، يزيد ذلك تفاقما التضييق الممنهج وآفة
البيروقراطية والفساد والرشوة".
ومما يزيد من استعجالية ورش التحرير في نظر الوثيقة أن هذه الوضعية
أدت إلى تداعيات سوسيواقتصادية متنوعة وخطيرة أهمها: استمرار اغتناء العائلات
النافذة وتفقير شرائح عريضة من المجتمع، والتزايد البنيوي والمطرد لمستويات العجز
التجاري وعجز الميزانية وتفاقم المديونية، وارتفاع معدل البطالة، وتنامي ظواهر
الفقر والهشاشة، وخضوع الاقتصاد الوطني لتقلبات التساقطات المطرية السنوية، وتوسع
الاقتصاد غير المهيكل.
يعد الأمن الاستراتيجي في مضمون ومقترحات الوثيقة مطلبا أفقيا، يخترق كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد انطلقت الوثيقة في اعتمادها هذا المطلب من تحليل التحولات الوطنية والدولية..
ولتحقيق الانعتاق والتحرير الاقتصاد الوطني تقترح الوثيقة ثلاثة
مرتكزات أساسية: اقتصاد مسؤول من حيث الممارسة والمخرجات، يتيح للمواطن شروط
الاكتفاء ليتفرغ إلى مسؤولية العبودية لله عز وجل، واقتصاد منفتح على العالم
وتنافسي، واقتصاد أخلاقي، واقتصاد المعرفة.
الرفاه الاجتماعي: تحيل الوثيقة عند تشبثها بمطلب الرفاه الاجتماعي
على استدامة التفاوتات والفوارق المجالية والاجتماعية في المغرب، ما نتج عنه تدمير
طموح الفئات الفقيرة والهشة في الارتقاء الاجتماعي وتحسين ظروف العيش، وهي وضعية
راكدة منذ فجر الاستقلال، ومما جعل من هذا المطلب أولوية في نظر الوثيقة "أن
الفوارق الحالية هي نتاج تراكمات تاريخية، وموازين قوى رجحت لصالح فئات حاكمة ومن
يدور في فلكها، من رأسماليين خواص محليين وأجانب؛ فطبيعة الفوارق هي من طبيعة
موازين القوى". لذلك تقترح أن يكون النموذج التنموي المقترح بمثابة إعادة
تأمين موازين القوى، سواء حسب الاستحقاق، أو حسب الاحتياج، ولأجل ذلك تقترح
"ميثاقا اجتماعيا" حسب توافق وطني حقيقي، يحمي المسألة الاجتماعية من
المزايدات السياسية، ويمنح الأمان الاجتماعي للمواطنين.
الأمن الاستراتيجي: يعد الأمن الاستراتيجي في مضمون ومقترحات الوثيقة
مطلبا أفقيا، يخترق كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد انطلقت
الوثيقة في اعتمادها هذا المطلب من تحليل التحولات الوطنية والدولية، بدءا من
تهديدات التحولات المناخية وما يترتب عنها من حاجة متزايدة للأمن الغذائي،
والتهديدات البيئية التي لا يُرى لها حلا حقيقيا في المستقبل المنظور، وفي ظل
استمرار الدول العظمى في التملص من مسؤولياتها في حماية الكوكب، وفي باقي
التهديدات الأمنية والاقتصادية والطاقية. لذلك تقترح الوثيقة في كل محور تخصصي، استحضار
مبدأ الاستدامة وحماية الموارد والمقدرات، واحترام حقوق الأجيال المقبلة في الحياة
والرفاهية والعيش الكريم الآمن المستدام.
5 ـ مقترح التحول إلى الديمقراطية الفعلية
يحاول بعض المتتبعين إبراز المقترح السياسي للوثيقة باعتباره مسبوقا
ولا يحمل الجديد عن مقترحات النخبة والفاعلين، ومقترحات الدولة المنبثقة عن
الخطابات الملكية. ونرى أن تقديراتهم هذه مجانبة للصواب تماما، ومرده، بوعي أو عن
غير وعي، إلى الاطلاع السطحي على الوثيقة، أو عدم وضع بعض المقترحات المهيكلة في
مدخل عملية الإصلاح السياسي قبل الخوض في التفاصيل، لذلك نرى من المهم عرض بعض
المداخل الأساسية لهذا المقترح، والتي ركزت عليها الوثيقة بما يكفي من الصيغ
والمفاهيم المؤسِّسة:
ـ التحول السياسي المقترح هو من صميم الأهداف العامة للمشروع السياسي
للجماعة، التي ركزتها الوثيقة في خمسة، مطلعها بناء النظام الشوري؛ ولعل الالتباس
الذي حصل بخصوص علاقة الشورى بالديمقراطية، والذي سقط فيه العديد من المهتمين
والمتتبعين، بل شارك في سجاله بعض المغرضين أحيانا؛ هو أن الجماعة لا تؤمن
بالديمقراطية، وتريد نظاما إسلاميا: الشورى (بما يفهمه البعض من تأويلاته عن
الإسلام الذي يريد، أو الإسلام الذي يفهم، أو الإسلام الذي أريد له أن يفهمه
ويمارسه).
وقد كانت الوثيقة دقيقة للغاية في تحديد العلاقة بين الشورى
والديمقراطية، وهو تفصيل لما خصص له مرشد الجماعة رحمة الله عليه كتابا كاملا
(الشورى والديمقراطية)، من أن الأمر يتعلق بالمقارنة مع وجود الفارق، إذ أن الشورى
مرجعية أساسها روحي ثقافي فلسفي إن صح التعبير، وهي بذلك بمثابة محددات ما فوق
تفصيلية أو أداتية، يمكن معارضتها بفلسفة العقد الاجتماعي أو المرجعيات المؤسسة
لمفهوم الدولة بشكل عام. وبين الديمقراطية باعتبارها ممارسة سياسية تضمن أهدافا
أتت عليها الوثيقة بالتفصيل كي لا يحدث اللبس: تحصين الدولة والمجتمع من نوازع
الاستبداد، وتحقيق التداول السلمي على السلطة، وفصل السلط، وربط المسؤولية
بالمحاسبة، وإرساء التعددية، وكفالة الحقوق والحريات، واحترام الدستور والقانون.
لكن قد يعترض علينا البعض بكون الديمقراطية نتاجا ثقافيا وسياقا حضاريا خاصا، وهو كل لا يتجزأ، فيمنحنا الفرصة هاهنا لندعوه إلى مراجعة المنطلقات المرجعية
للمشروع والنموذج التنموي المقترح (الوثيقة)، لكونها أفصحت منذ البداية عن الطبيعة
المختلفة للنموذج المقترح، وأن الجماعة بمقترحها هذا ترشح نفسها لطرح نموذج جدي
بديل في نظرها، أساسه المركزي الدعوة إلى تعدد ثقافي وهوياتي تجسِد من خلاله
الحضارات البديلة (الإسلام) نموذجها الخاص. ولعل الأحداث الجارية حاليا في الشرق
الأوسط، خاصة في فلسطين وغزة بالتحديد، تدعم هذا التوجه: ظهور حقيقة انهيار القيم
التي تتأسس عليها الحضارة الغالبة، أو الحضارة ذات البعد الواحد، التي تقدم نفسها
باسم الكونية والعالمية، وما هي في حقيقة الأمر سوى بعد حضاري واحد له سياقاته
الخاصة ورهاناته ونزوعه كذلك، ولا يصح له تنميط العالم ومحاربة مخالفيه وتخوينهم وتحجيمهم
واسترهابهم في نظر العالم.
تقترح الوثيقة دستورانية بديلة، أساسها "الجمعية التأسيسية غير السيادية؛ بمعنى انتخاب الشعب لهيأة تضع مشروع الدستور، ثم يطرح هذا المشروع على الشعب في استفتاء عام حر ونزيه لقبوله أو رفضه.
ولا يصح بناء النظام الشوري باعتباره مطلبا رئيسا، إلا في سياق
الأهداف الأربعة المتبقية؛ تحقيق العدل بمعانيه الشرعية وأبعاده السياسية
والاجتماعية والاقتصادية والقضائية، وهدف صون الكرامة الإنسانية، وهدفا تحقيق
العدل، وترسيخ الوحدة والتعاون وتكاثف الجهود.
ـ تؤكد الوثيقة أن بناء الدولة المقترحة (دولة العدل والكرامة
والحرية)، يتوقف على القطع الفعلي مع الاستبداد، ولعل بعض الذين يهونون من هذا
المقترح، إن لم يكونوا يتحاشون الخوض في الموضوع لاعتبارات، فهم يتصورون
الاستبداد مفهوما مجردا متعاليا عن الواقع، في حين أن الاستبداد الحاصل لا يكاد يخلو
من مؤسسة، بل من نسبة كبيرة من الأشخاص والمسؤولين (الفاعلين)، الذين يُعتبرون فوق
القانون نفسه، بل بعضهم فوق الأحكام القضائية للدولة. والاستبداد فعل متعد بطبيعته
لأنه سيكولوجية وحالة نفسية مستديمة مبنية على السيطرة، وكلما توسعت هذه السيطرة،
سواء على الأشخاص أو المقدرات، استشعر المستبد ارتياحا إضافيا. وما دام
المستبد بطبيعته في حاجة دائمة إلى من يحميه، فإنه مضطر إلى صناعة متعاونين
مستبدين حسب دوائر سيطرته وسيادته. ومما يوحي بوعي الوثيقة بخطورة الاستبداد في
تمدده وتوسع أضراره، تأكيدها على أن الدولة المدنية المطلوبة تناقض الدولة
البوليسية، باعتبارها سليلة الحكم الاستبدادي وحامية له.
ـ بخصوص السلطة الدستورية التأسيسية، تؤكد الوثيقة أن هناك علاقة
وطيدة بين طريقة وضع الدستور وبين مضمونه، وتتمسك بمواقفها الثابتة من احتكار هذه
السلطة من قبل الملك، واعتباره فوق كل السلط، وبكون ذلك يشكل عطبا بنيويا أسهم
بشكل دائم في انغلاق النسق السياسي المغربي، واختلال مساره، وسلطوية نظام الحكم في
شكل ملكية مطلقة.
وتقترح الوثيقة دستورانية بديلة، أساسها "الجمعية التأسيسية غير
السيادية؛ بمعنى انتخاب الشعب لهيأة تضع مشروع الدستور، ثم يطرح هذا المشروع على
الشعب في استفتاء عام حر ونزيه لقبوله أو رفضه".
ـ فيما يرتبط بالحقوق والحريات، انطلق التشخيص المعروض في
الوثيقة من أرض الواقع لا من الشعارات
والمكتوبات والخطابات، حيث أكدت الوثيقة أنه من خصائص النظام السياسي في تعاطيه مع
قضايا الحقوق والحريات، ومنها تجربة "الإنصاف والمصالحة" ثم
"تجربة الإصلاح الدستوري 2011"، هو الالتفاف على المطالب الشعبية،
واقتراح إجراءات تبدو في ظاهرها تأسيسية وواعدة، لكن سرعان ما ينقلب عليها ليرجع
إلى الأشكال التقليدية للسلطوية والاستبداد وتغول الأجهزة الأمنية، وتتمدد هذه الممارسات
إلى المرافق العمومية والخدمات الأساسية بعد تطويق الحقوق السياسية في التظاهر
وحرية التعبير.