كتاب عربي 21

قانون الشياطين الحمر!

تساؤلات عن مصير الفقراء بعد تطبيق القانون الجديد- جيتي
في ذِروة الانشغال بما هو مهمّ: "الحرب على غزة"، وما هو تافهٌ: "تكوين وعناصرها"، أمكن للسلطة في مصر أن ترتكب جريمة مضافة في حقّ الفقراء، على نحو لم يسبقها أحدٌ في التفكير فيه، ولو "الشياطين الحُمر"!

فقد تمّ تمرير قانون المنشآت الصحية بما يبيحه من تمكين القطاع الخاص من إدارة المستشفيات الحكومية، الأمر الذي لم تجد حياله نقابة الأطباء إلا أن تطالب رئيس السلطة التنفيذية بعدم التوقيع على القانون، على نحو يحول دون تنفيذه، وكأنّ البرلمان الذي سيمرّره هو سيد قراره، وكما لو كان مخيّرا لا مسيّرا، مع أنه جهة "بصْم" على ما يريده الحاكم بأمره، وقد تمّ تكوينه لهذا الغرض من خارج السياسة، واختيار عناصره من الأقليات الاجتماعيّة، التي لا يمكن أن تصمد عند أيّ انتخابات نزيهة، أو شبه نزيهة!

أُدرك أنّ وضع المستشفيات الحكومية في بلادي مُزرٍ، وقد سبق لي أن خضت معارك في هذا الصدد ضد الإهمال فيها، امتدّت لسنوات، تأكدت خلالها أنه لا أمل في الإصلاح في ظلّ الأوضاع السياسية القائمة، فالأمل في توافر إرادة السلطة للإصلاح، وهي تفتقد لهذه الإرادة!

حالة ولادة:

وقد بدأت الحملة في منتصف التسعينيات، واستمرت لسنوات ولم تحقق سوى نجاحات محدودة، مع أني جعلت عنوانها: "مستشفى جُهينة المركزي"، وانتهى بي الحال للوساطة للحالات، حالة حالة عندما يصلني أمرها. فعندما بلغني أن زوجة أحد أبناء عمومتي في المستشفى المذكور في حالة ولادة مع غياب الأطباء، وفي هذه الحالة فإن المتبع هو إحالتها إلى مستشفى في المحافظة، مع ما في ذلك من مخاطرة، وكان الوقت متأخرا، والساعة تقترب من منتصف الليل، فقد اتصلت بوزير الصحة الذي طمأنني أنه في ظرف نصف ساعة، سيُلزم كل الأطباء وطاقم العمل بالحضور، وهو ما حدث فعلا!

التوجه الجديد للسلطة القائمة ليس هو الحل، لأنه يعني أنه إزاء فشل المستشفيات لا يجوز اتخاذ قرار بإغلاقها في وجه المرضى، وهو ما سيحدث واقعا، فماذا سيستفيد المريض الفقير إن تم النهوض بمستشفيات الدولة عن طريق إدارة القطاع الخاص لها، ثم لم تكن إمكاناته تساعده على العلاج فيها.. فإلى أين يذهب الفقير في هذا البلد؟!

وإذ كنت على المقهى وقتئذ، فإن أحد البرلمانيين كان يكتم ضحكته على هذا التصرّف، بأن أتصل بالوزير لأمر يخصّ حالة ولادة في الصعيد الأقصى، وأن الوزير يهتمّ بأمر كهذا، ولم يكن يعلم أنه لجوء المضطر الذي أوحى به الوزير لي، فلئن يتدخّل في أمر حالة، أخفّ عليه من أن يصلح الحال المائل في المستشفى بشكل عام.. ضعف الطالب والمطلوب!

وقد سبق للرجل أن حاول احتوائي لهذه الحملة ولغيرها، فدعاني للغداء مع أسرة التحرير بمنزله الريفي بمسقط رأسه، وكان من الذكاء بمكان إلى حد أن ما كان يريد قوله لي كان يرسله تلميحا، فذكر مشكلة مستشفى "قنا" الذي زاره فلم يجد طبيبا، بينما هناك من تعاني من آلام الزائدة التي هي على وشْك الانفجار، فدخل حجرة العمليات وأجرى عملية استئصالها بنفسه، ثم ذهب يعاقب الأطباء المتغيبين، ولم يكن من سلطاته سوى عقوبات غير مؤثرة، مثل الخصم من الراتب، الذي هو قليل بطبيعته، وبالتالي غير مؤثر، لكنه اتصل بنقيب الأطباء في المحافظة، واستصدر منه قرارا بإغلاق عياداتهم حتى جاؤُوا بعد أيام يتوسّلون إليه، ويقدّمون فروض الولاء والطاعة!!

وكان بجانبي أحد الزملاء، فمال نحوي، وقال لي: إن الوزير يريد أن يقول لك ليس بيدي حلّ لمشكلة مستشفى جُهينة!

ولأني في هذه الفترة حملت على منح الوزارة مشروعَ مستشفيات اليوم الواحد لشركة رجل الأعمال رامي لكح بالأمر المباشر "تسليم مفتاح"، فقد تحدّث الوزير عنه طويلا، قبل أن يقول: إنه لم يكن يعرفه، وأول مرة شاهده فيها كان في افتتاح أول مستشفى في هذا المشروع، وبحضور الرئيس، والذي نظر بعيدا ليرى أحد الأشخاص فيسأل: من هناك؟ ميشيل؟ ثم ينادي عليه باسمه فيأتيه سعيا، ليعرف الوزير أن ميشيل هو الشقيق الأصغر لرامي لكح! ليتدخل زميلنا بحسّه الفكاهي، ويقول: إن معالي الوزير يريد أن يقول لك إن رامي يتبع الرئيس ولا شأن له هو بالموضوع!

ثم كانت الثالثة، وبينما نشاهد حديقة منزله، وقف أمام شجرة، وذكر اسمها، ولم أقف عنده، وقال: إن هذه الشجرة معروف عنها أنه ينبت لها فرع واحد في العام الواحد، ثم ذهب يعدّ فروعها وما يتيسّر له!

وقال زميلنا: إن معاليه يريد أن يقول لك إنه غني من قَبل الوزارة، وأن هذا القصر قبل أن يكون وزيرا!

وكان الوزير يبدو غير منتبهٍ لهذه التعليقات الساخرة، وهي وإن كانت بصوت خفيض نسبيا فقد كانت مسموعة، وبعد كل تعليق أستغرق في الضحك، على تفسير المفسِّر، فإن لم ينتبه لكلامه فالأصل أنه انتبه لردة فعلي عليه، وليس هذا هو الموضوع!

إرادة الدولة:

فقد كانت هذه هي قسمة الوزير فيما يملك، ولو اضطر لتلقي شكوى عن حالة ولادة في مستشفى ليس على الخريطة، لأن الأمر يحتاج إلى إرادة دولة، وزيادة المخصصات المالية للمستشفيات، ورفع رواتب الكوادر الطبية لضمان وجودها في أماكن العمل، ولكي تكون أي عقوبة بالخصم من الراتب مؤثرة عليها!

ولا إرادة متوفرة للدولة في هذا العهد، أو في العهد البائد، فقد تحولت مستشفيات الدولة إلى أنّ الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود!

بيدَ أن التوجه الجديد للسلطة القائمة ليس هو الحل، لأنه يعني أنه إزاء فشل المستشفيات لا يجوز اتخاذ قرار بإغلاقها في وجه المرضى، وهو ما سيحدث واقعا، فماذا سيستفيد المريض الفقير إن تم النهوض بمستشفيات الدولة عن طريق إدارة القطاع الخاص لها، ثم لم تكن إمكاناته تساعده على العلاج فيها.. فإلى أين يذهب الفقير في هذا البلد؟!

لقد حدَّد وزير الصحة عدد المستشفيات التي سيمكن القطاع الخاص إدارتُها بـ160 مستشفى حكوميا في 22 محافظة، ومن الواضح أنها خطوة أولى، يتبعها تمكين القطاع الخاص من إدارة مستشفيات الحكومة بالكامل في كل محافظات مصر، ليطرح هذا سؤالا عن طبيعة هذا القطاع الخاصّ الذي سيدير هذه المستشفيات وما المقابل لذلك!

إن الإثم هو ما حاك في صدرك وكرهت أن يطّلع عليه الناس، وهل يعقل أن القطاع الخاصّ، وهو حديث عهد بالمستشفيات، أن يتفوق على إدارة الدولة وهي قديمة، وعريقة، ولا تنقصها الخبرة، وإن كانت تنقصها الإرادة الحكومية في النهوض بمستشفياتها؟!

لقد بدأت دولة الإمارات مبكرا وضع يدها على الخدمات الصحية في مصر، ومن الملاحظ أن أسعار التحاليل والأشعة قد ارتفعت بشكل مبالغ فيه، بعد أن استحوذت على المختبرات الطبية، فهل هي التي من أجلها تم تغيير القانون بما يسمح للقطاع الخاص بإدارة المستشفيات؟ ليبقى السؤال: وما المقابل؟!

لقد بدأت دولة الإمارات مبكرا وضع يدها على الخدمات الصحية في مصر، ومن الملاحظ أن أسعار التحاليل والأشعة قد ارتفعت بشكل مبالغ فيه، بعد أن استحوذت على المختبرات الطبية، فهل هي التي من أجلها تم تغيير القانون بما يسمح للقطاع الخاص بإدارة المستشفيات؟ ليبقى السؤال: وما المقابل؟!

هل ستحصل السلطة على مقابل لهذه الإدارة، أم ستدفع هي لهذا القطاع الخاص مقابل إدارته "الرشيدة" لهذه المستشفيات؟!

مَن الفقير؟

لقد قال وزير الصحة: إن المريض الفقير لن يتحمّل أي أعباء سواء كان مقدمُ الخدمة قطاعا خاصا أم حكوميا، ليكون السؤال: وما هو تعريف الفقير برأيه؟ وكيف يثبت الفقير أنه فقير؟ وماذا لو حدث له مكروه استدعى نقله للطوارئ؟ هل سيسمح له بالدخول دون الدفع، أو الخروج قبل إثبات أنه فقير؟ لتنقسم العائلة إلى فريقين: فريق ينقله للمستشفى وآخر يمشي في مناكبها في محاولة إثبات فقره، قبل أن يُتوفى وتتحفظ إدارة المستشفى على الجثة إلى حين الدفع، أو إثبات الفقر!

لم يخبرنا الوزير الهمام إن كان على الفقير أن يحمل في جيبه "شهادة فقر"، موقعة من اثنين من الموظفين، أخذا بالأحوط، أم تتولى الحكومة فتح منافذ في المحافظات والمدن لاستخراج هذه الشهادة! فما هي الوثائق المطلوبة إذا كانت النيّة تتجه لذلك؟!

الوزير يدهن الهواء "دوكو" من أجل تمرير القانون، وهذا هو الوقت المناسب لذلك، والناس مشغولون بين غزة و"تكوين"، وعندما يفيقون من كل هذا تكون الفأس قد وقعت في الرأس، والقانون أصبح أمرا واقعا.

لقد قال نقيب الأطباء: إن قانون المنشآت الصحية هذا يتيح التخلص من 75 في المئة من العمالة في المستشفيات الحكومية، ولم يرد الوزير، ولكن ردت عليه من كان ينبغي أن تكون بجانب النقيب، وهي عضو البرلمان عبلة الألفي، بأن الدولة ملتزمة بحقوق العاملين بها، ولم تنفِ ما قاله الوزير ولكن أكدته، فمن سيتم التخلص منه؟ فالدولة ملتزمة بكل حقوقه المالية والوظيفية.. نائبة تتبع السلطة التشريعية أم موظفة لدى السلطة التنفيذية؟! لقد اختلطت الأوراق، والتفّت الساق بالساق!

فلا بأس إن اختلطت الأدوار، فهذا ليس برلمانا، وهؤلاء ليسوا نوابا ينوبون عن الشعب البائس، لكنهم ضمن أدوات السلطة التنفيذية، ولا جديد في ذلك، تماما كما أنه لا جديد مثل هذه الوعود فقد عرفنا من تصفية القطاع العام وسياسات الخصخصة الفاشلة، ماذا تعني الدولة بالتزامها بكل حقوق العامل المالية والوظيفية!

هذه دولة.. أم شركة سمسرة؟!

x.com/selimazouz1