إن سبب هذا الضعف والانفصام في الشخصية
الوطنية والقومية، الذي أنتج هذه الحالة
التي تعيشها الأمة الإسلامية عموما والعربية على وجه الخصوص، يعود إلى التعمية والضبابية
المٌتعمّدة أحيانا في الرؤية إلى مقومات الشخصية والهوية الوطنية والقومية
المتمثلة، في اعتماد بعض الدول لتلك
الازدواجية في الخطاب والواقع، التي تهدد
أركان الأمة في وجودها وبقائها.
وهذا ما عبر عنه أستاذنا الكبير والخبير في شؤون
الأمم وشروط نهضتها ومقومات حضارتها مالك بن نبي في آخر كتاب له مؤلف باللغة
العربية، هو ،"مشكل الثقافة" الذي يقول فيه حرفيا: "لقد أحدث
الاستعمار العديد من الظواهر، ومن بينها ظاهرة خاصة نتيجة للظواهر السابقة، وهي
ظاهرة الازدواج اللغوي التي تترك آثرها ومفعولها المباشر على الظواهر الثقافية
الأخرى في البلاد، ونذكر نموذجين للازدواج اللغوي تركه الاستعمار، وما يزال قويا إلى
الآن". (هذا الكلام قاله سنة 1970 وكنت من المواظبين على حضور ندواته
الأسبوعية في منزله حتى وفاته في تشرين الأول/أكتوبر 1973 رحمه الله).
ويضيف: "أول هذه البلدان هي
مصر، حيث
اللغة الإنجليزية تؤثر وتستحوذ على ميدان حي من الميدان الفكري في هذا المجال، حيث
تدرس العديد من المواد العلمية بها، غير أن هذه الازدواجية لا نجد لها أثرا إلا في
المجال الفكري العالي والثقافة الراقية لطبقة عليا في المجتمع. والبلد الثاني
الذي يعيش الآن ازدواجية لا مثيل لها في العالم هي
الجزائر، حيث إنها لم تتوقف عند
حد المجال الفكري الجامعي، وإنما امتدت إلى كل المجالات الحيوية الأخرى والحياة
اليومية للمجتمع، والازدواج هنا أخطر بكثير؛ لأنه ازدواج شعبي على مستوى القاعدة
العريضة للمجتمع".
وأذكر أن آخر زيارة قمت له بها مع تلميذه
المقرب الأستاذ الدكتور عمار الطالبي بمناسبة مرضه قبل ذلك بأربعة أشهر تقريبا، ومما أذكره أنه حدثنا عن لقائه في ذلك الأسبوع بأحد الوزراء النافذين في الحكومة
حينئذ وهو وزير الإرشاد القومي، بلقاسم الشريف رحمه الله فقال: قلت له في معرض
حديثي عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والثقافية في البلاد؛ "إن في الجزائر
شبكة جوسسة تغطيها شبكة خيانة".
وتأكيدا لهذ الخط الوطني المستقيم لأبناء الأمة
(كل في مجاله واختصاصه وثغره)، نعود إلى وصية الإمام عبد الحميد بن باديس لأبناء
أمته قبل وفاته بسنة، مؤكدا ضرورة التمسك بجوهر وجودها وبقائها، الذي يحاول
الاستحلاليون والازدواجيون اليوم أن يضعوه في المزاد العلني (المتوسطي والإفريقي)؛ انتقاما من كل شهداء الأمة في الماضي والحاضر، فيقول في جريدة البصائر عدد 22 حزيران
/ يونيو 1939؛ "إان اللغة العربية هي الرابطة بين ماضي الجزائر المجيد، وحاضرها الأغر، ومستقبلها السعيد، وهي لغة الدين والجنسية والقومية ولغة الوطنية
المغروسة".
ويقول أيضا؛ "إنني لست لنفسي وإنما أنا
للأمة، أعلّم أبناءها وأجاهد في سبيل دينها ولغتها. إنني أعاهدكم على أنني أقضي
بياضي على العربية والإسلام كما قضيت سوادي عليهما. وإني سأقصر حياتي على الإسلام
والقرآن، هذا عهدي لكم، وأطلب منكم شيئا واحدا، وهو أن تموتوا على الإسلام والقرآن
ولغة الإسلام والقرآن".
العيب هنا ليس في وجود المصالح أو ارتباط كل فئة من هؤلاء بمصالحها والتضحية في سبيلها، ولكن الخطأ والخطر الذي يمثل أشنع أنواع التزوير للواقع والتزييف للتاريخ هو قلب الأدوار، وانتحال صفات المصالح "الوطنية العليا"؛ خبثا وغشا وخداعا ونفاقا، كمحاولة تغليف المصالح الفردية والفئوية بالمصالح العامة والوطنية، وتغليف مخططات الاستدمار بالعقلانية والموضوعية، وتلميع الخيانة بالوطنية، والعمالة بالخبرة التربوية، وتبرير الانقلاب بتزوير الانتخاب، وتحكيم الأقلية في الأغلبية، وخدمة الفرنكفونية الإيديولوجية بالانفتاح على اللغات الأجنبية، وضرب الثوابت الوطنية في الصميم القاتل؛ بحجة إصلاح المنظومة القانونية والتربوية.
وهو ما يؤكده بعد سنوات، من ذلك خليفته في
الجهاد والنضال (السياسي والثقافي والإصلاحي والهوياتي...) الشيخ محمد البشير الإبراهيمي،
وهو كلام ينطبق بكيفية عجيبة على جزائر الازدواجية اليوم، (بين الجريمة والغنيمة)، وكأن
شيئا لم يتغير في العهد الجديد، رغم التضحية بمليون ونصف المليون شهيد، وما يزال
الوضع الحقيقي للاستقلال الكامل والرشيد عن "الاستحلال" الغاشم والمديد
يقول مع الأسف الشديد: هل من مزيد؟!؟
ونترك الكلام للشيخ الإبراهيمي ذاته الذي
استشف بفراسته الإيمانية الربانية هذه الاستمرارية في الاحتلال بالاستحلال (راجعوا
مقالنا في عربي 21 ليوم 10 يوليو، 2023) حيث يقول: "جاهدت هذه الأمة في
سبيل لغتها جهادا متواصلا.. كان من ثمرات النصر فيه هذه النهضة التعليمية التي
ولدت الكُتّاب والشعراء والخطباء والوعاظ، وهي نهضة لم تعتمد الأمة فيها إلا على
ما في نفسها من حيوية موروثة، ولم تلتمس فيها عونا من أجنبي، بل لم تلق من الأجنبي
إلا المعارضة الحادة و التثبيط القاتل.
وكان من نتائج هذه النهضة إلحاح الأمة في
المطالبة بمظهر سياسي وطني للغتها، وهي أن تكون رسمية في المدارس والدواوين والأقلام
والأحكام، وأن يعترف لها بمكانتها في وطنها، وأن تمحى عنها تلك الوصمة التي لم تسب
لغة بأشنع منها، وهي أنها أجنبية في دارها!؟".
هذا الكلام قاله في عز أيام الاحتلال، وهو ما
سيعيد تأكيده في السنة الأولى من بداية الاستقلال، في أثناء خطبته التاريخية يوم
استرجاع مسجد كتشاوة إلى سيرته الأولى، بعد أن كان الاحتلال قد صادر ذكر اسم الله
فيه واعتمده كاتيدرائية للمسيحيين في العاصمة الجزائرية، الذي خاطب فيه قائد جيش
الاحتلال يومها الإمام (وكان على منبره في أثناء صلاة الجمعة)، طالبا منه أن يخبر
المصلين بأنه ابتداء من ذلك اليوم فصاعدا، لن يعبد إله غير المسيح في هذا المكان، وأسقط
علم الهلال من سارية المئذنة العالية ورفع علم الصليب!؟!؟
فقام الإمام المجاهد الهمام محمد بن لكبابطي
مخاطبا المصلين بقوله: "أيها الإخوة المؤمنون.. ولئن تغيرت عبادة الله في
مساجدنا، فإن الله لن يتغير في قلوبنا".
وقد وقعت مجزرة يومها في سكان العاصمة
المحتجين قدر ضحاياها بـ 3000 شهيد.. وسجن على
إثرها الإمام ثم أبعد عن الوطن العزيز، كغيره من الرجال الذين يصدعون بقول الحق أمام
فوهات البنادق وحبال المشانق، ولا يخافون في الله ومقدسات الوطن والأمة لومة لائم، وقد
مات في الإسكندرية بعيدا عن تربة وطنه رحمه الله في الصالحين والصادقين.
ولكن الله قد استجاب دعاءه، فأبقى الإيمان
في قلوب الملايين من الأحفاد المسلمين الذين توارثوا الرسالة وحافظوا على الأمانة
خلفا عن سلف، حتى فجروا ثورة الجهاد الكبرى بعد 125 سنة من المقاومة المتواصلة
(عسكريا وثقافيا بالسيف واللسان والقلم)، حتى كسر الصليب على الهلال العتيد، واستعيد
المسجد إلى أهله المسلمين من جديد، الذين لم يتغير الله في قلوبهم بعد العشرات من
السنين. ويأتي أحد أولئك الرجال الوارثين الصادقين، فيخطب في الأوفياء المخلصين
ليقول لهم بكلامه المؤثر والمذكر للحاضرين منهم والغائبين من خلالهم، وبحضور كل
المصلين من أعضاء الحكومة ورئيس الدولة حينها شاهدا على الجميع مخاطبا إياهم بقوله:
"هذا المسجد هو حصة الإسلام من مغانم
جهادكم، بل هو وديعة التاريخ في ذممكم وأضعتموها بالأمس مقهورين غير معذورين،
واسترجعتموها اليوم مشكورين غير مكفورين، وهذه بضاعتكم ردت إليكم، أخذها الاستعمار
منكم استلابا وأخذتموها منه غلابا. يا معشر
الجزائريين؛ إن الاستعمار كالشيطان قد خرج من أرضكم، ولكنه لم يخرج من مصالح
أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم.. فلا تعاملوه إلا فيما اضطررتم إليه. يا إخواني إنكم
خارجون من ثورة التهمت الأخضر واليابس. وإنكم اشتريتم حريتكم بالثمن الغالي،
وقدمتم في سبيلها من الضحايا ما لم يقدمه شعب من شعوب الأرض لا قديما ولا حديثا،
وحزتم من إعجاب العالم بكم ما لم يحزه شعب ثائر، فاحذروا أن يربككم الغرور،
ويستزلكم الشيطان، فتشوهوا بسوء تدبيركم محاسن هذه الثورة، أو تقضوا على هذه
السمعة العطرة. إن حكومتكم الفتية منكم تلقت تركة مثقلة بالتكاليف والتبعات في وقت
ضيق لم يتجاوز أسابيع، فأعينوها بقوة، وانصحوها فيما يجب النصح فيه بالتي هي أحسن،
وانصرفوا بجميع قواكم إلى الإصلاح والتجديد والبناء والتشييد".
وبعد تحية تقدير لرجال جمعية العلماء
المسلمين الجزائرين السابقين واللاحقين، نعود إلى الاستحلاليين الذين يشنون الحرب
المعلنة والخلفية اليوم على ثوابت الشعب والوطن والأمة، تحت غطاء "جريمة
الحرب" الفرنسية على الشعب الجزائري التي يسميها كبراؤهم "غنيمة
الحرب" ـ (انظر مقالنا في عربي 21 ليوم 10 تموز/يوليو 2023)، وذلك بذريعة أن
المصلحة العليا للأمة والوطن تفرض التطور والانفتاح على وسيلة التقدم التي أسموها
"غنيمة الحرب" الفرنسية، ونحن نقول؛ إن هذا الكلام (المصلحي في الظاهر)، الذي
لا يقبله دون مناقشة إلا ساذج وجاهل أو متواطئ مع العدو ذاته.. يذكرني بشعار
الاحتلال الفرنسي الذي رفعه بعد حادثة المروحة مع الداي حسين، والذي يفيد بأنه نزل
بجيوشه الجرارة على أرض الجزائر سنة 1830 لإضاءة كهوفها الأفريقية بأنوار باريس
"التحضيرية"، في إطار المصلحة المشتركة للراكب والمركوب من الشعبين على
الضفتين.. في الوقت الذي كانت الأمية في فرنسا تفوق نسبتها في الجزائر بعشرة أضعاف..
أي إن في فرنسا 90% من الشعب أميون وفي الجزائر 90% من أفراد الشعب يعرفون القراءة
والكتابة باللغة العربية.
إذا كانت المواطنة بالجنسية، فالوطنية لا تعرف إلا بالتضحية!! وباب البرهنة على ذلك يظل مفتوحا أمام الجميع، ولن يكون حكرا على أحد أو فئة؛ لأن التضحية مثل الموت؛ أصدق اختبارا للنفاق والكذب في حده الحد بين الجد واللعب.
وهنا، لا بد أن نتوقف عند الجزء الأول من حجة
الاعتراض هذه، ألا وهو (المصلحة العليا للأمة والوطن)، وهو الشعار الذي ذهب ضحيته
عشرات الآلاف، إن لم نقل الملايين من الأبرياء، في هذا الوطن الشهيد في العهد
القديم والجديد.
لا شك أن لكل كائن حي عاقل في هذا الوجود
مصلحة، سواء كانت هذه المصلحة خاصة أو عامة، فردية أو جماعية، دنيوية أو أخروية،
عليا أو دنيا، وطنية استقلالية أو بطنية استحلالية خيانية.
ومثلما توجد المصالح المتنوعة، توجد أيضا
أشكال مختلفة من التضحيات بالمصالح من أجل "المصالح"، أي التضحية
بالمصالح الفردية والخاصة من أجل المصالح الجماعية والعامة، أو التضحية بالمصالح
العليا للوطن ومستقبل الأمة من أجل المصالح الفردية والمخططات الاستعمارية، كما أسلفنا
في استشهادنا بالكلام السابق لأستاذنا مالك بن نبي، الذي ما يزال يعيش معنا بفكره
الناقد لوضعنا، بعد نصف قرن من زوال جسده العائد لأصله في أرضنا.
وعلى هذا الأساس، فإن لكل الشهداء والمجاهدين
والوطنيين، وحتى المواطنين العاديين مصالح وتضحيات، وكذلك
للاستعمار والعملاء والخونة الكبار والصغار مصالح وتضحيات أيضا.
والعيب هنا ليس في وجود المصالح أو ارتباط
كل فئة من هؤلاء بمصالحها والتضحية في سبيلها، ولكن الخطأ والخطر الذي يمثل أشنع أنواع
التزوير للواقع والتزييف للتاريخ هو قلب الأدوار، وانتحال صفات المصالح
"الوطنية العليا"؛ خبثا وغشا وخداعا ونفاقا، كمحاولة تغليف المصالح
الفردية والفئوية بالمصالح العامة والوطنية، وتغليف مخططات الاستدمار بالعقلانية والموضوعية،
وتلميع الخيانة بالوطنية، والعمالة بالخبرة التربوية، وتبرير الانقلاب بتزوير
الانتخاب، وتحكيم الأقلية في الأغلبية، وخدمة الفرنكفونية الإيديولوجية بالانفتاح
على اللغات الأجنبية، وضرب الثوابت الوطنية في الصميم القاتل؛ بحجة إصلاح المنظومة
القانونية والتربوية بالفاعلين الحقيقيين ونواب الفاعل الموسميين، الذين يستبدلون
حسب الطلب في كل حين.. مثل القفازات في اليدين والأحذية في الرجلين، وذلك ما لا
ينطلي على الوطنيين الحقيقيين، ولا يقبله
الأوفياء والشرفاء المخلصون الذين لا يخلو منهم -على قلتهم- أي عصر أو مصر إلى يوم
الدين.
وإذا كانت المواطنة بالجنسية، فالوطنية لا
تعرف إلا بالتضحية!! وباب البرهنة
على ذلك يظل مفتوحا أمام الجميع، ولن يكون حكرا على أحد أو فئة؛ لأن التضحية مثل
الموت؛ أصدق اختبارا للنفاق والكذب في حده الحد بين الجد واللعب.
والتضخية هي المحك والمعيار الوحيد لمعرفة
الوطني الصادق من البطني المنافق، ويبقى الشعار الصالح والصادق دائما، هو معرفة
الرجال بالمبادئ والأفعال المحققة، وليس بالأقوال المزوقة والمنمقة التي تكشفها
المواقف المزيفة والملفقة، ولأن حبل
الكذب قصير جدا ومن يكذب على الناس فيما يعلمون، لا يتوقع أن يصدقه العقلاء منهم
فيما يجهلون.