امتلك رئيس الوزراء
الهندي ناريندرا مودي
خاصيتين رئيسيتين جعلتاه يفوز في الانتخابات التشريعية الهندية منذ عام 2014:
الأولى، تمكنه من تحقيق إنجازات هامة على
صعيد برامج الرعاية الاجتماعية ورحلات الفضاء، وتمكن أيضا من تحقيق زيادة في
الناتج الكلي المحلي إلى تريليون دولار خلال خمس سنوات، مع استثمارات أجنبية وصلت
إلى أكثر من أربعين مليار دولار.
الثانية، اعتماد خطاب قومي متطرف قائم على
التمايز الهوياتي بين الأغلبية الهندوسية كديانة تتماهى مع الهند مقابل أقلية
مسلمة تحاول تغيير هوية الهند التاريخية.
انتكاسة العلمانية
المفارقة الغريبة، أن نجاحات مودي وحزبه
الاقتصادية، كانت كفيلة بتحويل الخطاب الانتخابي إلى خطاب يقوم على أجندة سياسية ـ
اقتصادية، وينهي
سياسة التعبئة الانتخابية القائمة على مستوى الطبقات القائمة في
الهند منذ ما قبل الاستقلال، إلى تعبئة انتخابية قائمة على مستوى الفرد، في صيغة
ليبرالية ترفع من مستوى العملية الديمقراطية وتعزز من العلمانية كتوأم للديمقراطية
الليبرالية.
لكن الذي جرى منذ عام 2014 وحتى الآن، هو
اتباع سياسة انتخابية سمتها التعبئة على مستوى الهوية، والفارق هنا مهم بين تجربة
"بهاراتيا جاناتا" وتجربة أنديرا غاندي وابنها راجيف من بعدها.
ففي الحالتين الأخيرتين كان اللجوء إلى
سياسة الاستقطاب الهوياتي تكتيكا انتخابيا ليس إلا، ولم يكن استراتيجية مستدامة
للحزب، مثلا انحرفت أنديرا غاندي في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن
الماضي نحو دغدغة مشاعر الهندوس، فقامت بافتتاح المعابد وغرس صورة للتدين والتقوى،
كما مدت يدها إلى بعض النشطاء من داخل المجتمع الهندوسي، معتمدة في ذلك على ابن
أخيها أرون نهرو كحلقة وصل، ثم أحاطت نفسها بمعلمين روحانيين.
مع استمرار حزب "بهاراتيا جاناتا" الفوز في الانتخابات التشريعية الهندية، سيبقى الاستقطاب الديني متصاعدا، والسبب الرئيس في ذلك أن الحزب يقوم في جوهره على رؤية هوياتية لها موقف من ماهية الدولة.
كان السبب وراء ذلك الحيلولة دون صعود حزب
"بهاراتيا جاناتا" إلى السلطة والقضاء على المكتسبات العلمانية التي
حققها حزب المؤتمر من أيام المهاتما غاندي ثم جواهر لال نهرو والد أنديرا غاندي
الذي توفي عام 1964.
في حالة "بهاراتيا جاناتا" بشكل
عام ومودي بشكل خاص، انقلبت العلاقة بين السياسية والهوية، فلم يعد الخطاب
الهوياتي مجرد تحريك للمشاعر لأغراض انتخابية، بل أصبحت السياسة أداة ليس للتمايز
الهوياتي كبديل عن الإدماج المدني فحسب، وإنما لأسطرة تاريخ هوياتي للهند قائم على
نفي المسلمين.
ومع ذلك، فإن حزب المؤتمر يتحمل مسؤولية
كبيرة، فالمناخ السياسي والثقافي في مرحلة ما بعد الاستقلال كان يسمح باعتماد
سياسة إدماج مدني على الصيغة الفرنسية، وإن كانت أبطأ، لكن قرر حزب المؤتمر بسبب
التعقيدات البنيوية في المجتمع على صعيد تنوع الطبقات وتنوع القوميات والطوائف
والأعراق، اعتماد مقاربة تقود على حياد الدولة تجاه الأديان، بحيث ينحصر عمل
الدولة في منع الاقتتال الطائفي، وترك المجتمع وطبيعة علاقاته العامودية كما هي.
لقد بينت تجربة الهند خلال العشرين عاما
الماضية خطأ مقاربة عالم الاجتماع الأميركي ـ الهندي أمارتيا سن اعتبر أن الجذور
التاريخية للديمقراطية في الهند جديرة بالمعاينة، فتقليد النقاش العام وثيق
الارتباط بتراث عريق من النقاش العام على قاعدة التسامح مع الابتداع والهرطقة.
من الهرطقة نشأت العلمانية
برأي سن، ساهم التاريخ الطويل للهرطقة في
انبثاق العلمانية في الهند، فالتسامح مع التنوع الديني منعكس ضمنا في كون الهند
وطنا مشتركا على امتداد التاريخ، فـ الفيدات التي تعود إلى منتصف الألفية الثانية
قبل الميلاد، مهدت الطريق للهندوسية، أما البوذية والياينية، فقد ظهرتا في القرن
الـ 6 ق.م، وكانت البوذية هي السائدة آنذاك.
وقد وصل اليهود إلى الهند بعيد سقوط القدس،
وتواصلت عمليات قدوم اليهود في القرنين الـ 5 ـ 6 الميلاديين.
كذلك جاء المسيحيون في تاريخ مبكر جدا، ومع
حلول القرن الميلادي الرابع كانت ثمة جاليات مسيحية كبرى فيما بات يعرف الآن بـ
كيرالا، أما البارسيون فقد بدأوا يصلون أواخر القرن الـ 7 ما أن بدأ اضطهاد
الزرادشتية في إيران، وقد كان البهائيون بين الجماعات الأخيرة التي التمست ملاذا
آمنا في الهند إبان القرن الماضي.
وعلى امتداد هذه الحقبة الطويلة، كانت ثمة
هجرات أخرى، بما فيها توطن تجار مسلمين عرب على شواطئ الهند الغربية في القرن الـ
8 قبل زمن طويل من غزوات إسلامية جاءت من معابر حربية شمالية ـ غربية.
برأي مودي، لن تصبح الهند دولة مستقرة تنعم بالسلام، إلا عبر محاربة المسلمين الهنود، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، إما لدفعهم للخروج من الهند، أو لدفعهم نحو الانتقال من الإسلام إلى الهندوسية، أو في بجعلهم يتقبلون الواقع القائم باعتبارهم سكان لا يمتلكون كافة حقوق المواطنة.
وفي هذا التنوع الديني والقومي والإثني
المعقد استمرت العلمانية في الهند، وإن كانت علمانية محلية قائمة على القبول لا
على الاعتراف، كما في الصيغ الغربية، والمشكلة عن سن تكمن في أن عملية ترسيخ
العلمانية تتطلب قرارا سياسيا، لأن جذورها موجودة تاريخيا، ونجحت في محطات تاريخية
عديدة: مرحلة الإمبراطور أشوكا قبل الميلاد، ومرحلة الإمبراطور أكبر في القرن
السادس عشر، ومرحلة حزب المؤتمر في عقدي الاستقلال، من عام 1949 وحتى عام 1964.
الهند إلى أين؟
مع استمرار حزب "بهاراتيا جاناتا"
الفوز في الانتخابات التشريعية الهندية، سيبقى الاستقطاب الديني متصاعدا، والسبب
الرئيس في ذلك أن الحزب يقوم في جوهره على رؤية هوياتية لها موقف من ماهية الدولة.
تعتبر "هندوتفا" أن الهند تلوثت
وحادت عن تاريخها أولا بفعل الاختراق الإسلامي لبلاد ظلت هويتها تاريخيا محكومة
بالثنائية البوذية ثم الهندوسية، وثانيا بفعل السياسة العلمانية لحزب
"المؤتمر" الذي وضع الهويات الدينية على قدم المساواة أمام القانون، مما
أضعف الهوية التاريخية للهند.
وبرأي مودي، لن تصبح الهند دولة مستقرة تنعم
بالسلام، إلا عبر محاربة المسلمين الهنود، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا،
إما لدفعهم للخروج من الهند، أو لدفعهم نحو الانتقال من الإسلام إلى الهندوسية، أو
في بجعلهم يتقبلون الواقع القائم باعتبارهم سكان لا يمتلكون كافة حقوق المواطنة.
ولذلك، لم تعد الديمقراطية والعلمانية
اللتين طالما وسمتا التاريخ الهندي الحديث، صفتان راسختان في الهند اليوم، وقد
نبهنا عالم الاجتماع الكندي تشارلز تايلور إلى ضرورة التمييز بين الديمقراطية
الغربية والديمقراطية الهندية: الأولى تقوم على أساس الفرد كمنطلق اجتماعي ـ
سياسي، في حين تقوم الديمقراطية الهندية على أساس الجماعة والطبقة.