أفكَار

حركة النهضة بين أزمة الدولة الوطنية ومأزق بنيانها السياسي في ظل حرب غزة

إن وعي المكون الاجتماعي والتاريخي للحركة الوطنية التحريرية واعتباره حلقة مفصلية في بنيان الأضلع الرئيسية للدولة الوطنية يعني استدعاء رأس المال الرمزي للدولة الوطنية. (الأناضول)
ما زالت حرب طوفان الأقصى تشهد ترددات في الوطن العربي ويبلغ صداها وعمقها الإنساني والوطني مدى واسعا لم يزل يتمدد ليشمل مساحات واسعة من الجغرافيا البشرية للمؤيدين للحق الفلسطيني في المجال الأممي للعالم الحر.

وبقدر ما يجد شباب العالم ومناضلاته ومناضليه القضية العادلة التي تستحق أن يتوحد حولها بقدر ما تشهد مجتمعاتنا الوطنية والإقليمية حالة من التردد والارتباك والتشظي، والتيه عن إدراك الهم المشترك ووعي المهام الاستراتيجية والملحة التي توحد مجتمعاتنا وأوطاننا حول غايات النهوض الكبير وأهداف الثورة الفتية وفاء للشهداء وإخلاصا لطموحات الشباب وتطلعات الشعوب.

فما الذي حصل لبلداننا حتى تصاب بهذا التصدع والفراغ؟

كثير من الباحثين والمحللين قدموا أطروحات في الأسباب والمسببات إلا أنها كانت أطروحات وتحاليل لواقع الأوطان والمجتمعات تقف عند الأبعاد الذاتية والموضوعية بمقاربات مدرسية لا ترقى إلى مستوى سبر أغوار الأزمة التي تعيشها الدولة الوطنية وفحص أعماقها باعتبارها أزمة بنيوية وليست مجرد أزمات ظرفية وسطحية تحسمها بعض الفتاوى الفقهية أو المادية الجدلية والأحكام المعيارية حول الحق والباطل والخيانة والوطنية. احكام وتقديرات لا تقنع ولا تسمن ولا تغني من جوع ولا تحدث تغيرات حقيقية على الأرض.

فما الذي جعل من الأزمة أزمة ومن الوطن وطنا؟ لقد كان سؤال أحد الأصدقاء في مقال ملفت صارخا وصادما. هل كانت الدولة الوطنية دولة وطنية بحق؟

لم يكن تأسيس الدولة الوطنية وفيا لمكونات الحركة التحريرية التي تولدت عنها بل كان تقسيميا وإقصائيا مغرقا في أدبيات الأجهزة الأيديولوجية التي تهمش دواخل الجمهورية وتهمش جذورها الوطنية الإسلامية الجمهورية. وتتعالى على الكوادر والإطارات الزيتونية رغم سجلها الملحمي في الإصلاح والكفاح التحريري بآفاقه التونسية والمغاربية والعربية. وحرموا من المسؤوليات والوظائف المركزية في الدولة رغم ما يخملونه من كفاءات توازي كفاءات رفاقهم الصادقيين وشرائح المتعلمين في فرنسا.
وهو سؤال يقتضي العودة إلى السنوات الأولى لنشاه دولة الاستقلال زمن تشكل الدولة الوطنية. هل كانت الدولة الوطنية قد استكملت جميع أضلاعها وحققت جميع شروط تشكلها؟

فما هي الدولة الوطنية أولا؟

الدولة الوطنية وفقا لما أجمعت عليه عديد التعريفات السياسية هي جماعة ثابتة من الناس، مؤلفة تاريخياً، لها لغة مشتركة، وأرض مشتركة، وحياة اقتصادية مشتركة، وتكوين نفسي مشترك يجد له تعبيراً في الثقافة المشتركة. تعتمد نظاما قانونيا ومؤسسات تسييرية تحتكر قوة الإكراه المادي مقابل حماية حرية مواطنيها وضمان أمنهم وعيشهم الكريم.

وكانت عودة الحبيب بورقيبة أول رئيس لدولة الاستقلال من فرنسا يوم 1 حزيران/ يونيو 1955 يوما تاريخيا مشهودا بعد أن انفرد بقيادة المفاوضات مع فرنسا على شروط نيل الاستقلال الداخلي وتسلم مقاليد سلطة ستكون حجر الزاوية في بناء الدولة الوطنية وفق التصور السياسي لبورقيبة وحزبه.

وأحيط يوم العودة بجملة من التدابير الأيديولوجية والبروتوكولية مثل إطلاق تسمية عيد النصر على يوم العودة الموسوم باستقبالات حلق الوادي الصاخبة. وتسمية الزعيم بالمجاهد الأكبر وإعلان العودة من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر تمثلا لقداسة الحديث المأثور عن النبي.

وتم إعلان الجمهورية في 25 تموز/ يوليو 1957 وصدر دستور 1959. وانطلقت صيرورة دولة قوامها الشعب والأرض والمؤسسات في ظل جدل وصراع دموي محتدم حول طبيعة الدولة وطبيعة الاستقلال وشروطه الجلية والمخفية.

الأرضية الاجتماعية والتاريخية للدولة الوطنية

لقد كان تأسيس الدولة الوطنية في تونس لحظة فارقة زمن ما بعد الاستعمار ومن ثم فهي حدث تاريخي كبير بامتياز. لكن إذا جازت لنا المقارنة بين الأرضية الاجتماعية والتاريخية التي قامت عليها الدولة الوطنية في أوروبا وتلك التي قامت عليها الدولة الوطنية في تونس سنجد البون شاسعا.

فالدولة الوطنية في أوروبا كانت قد استوعبت داخلها لدى تأسيسها خلاصة ما وقع من تحولات كبرى سابقة فبدت مكتسبات تلك التحولات تصب جميعها في مجرى صيرورة قيام كيان الدولة الوطنية ونشأتها وكانت بمثابة المرتكزات الأساسية التي لا غنى لقيام الدولة من دونها.

فقد كان للإصلاح الديني اللوثري الذي جاء بعد الحروب الدينية الدامية دور في تحرير المجال السياسي وإزاحة سلطان المعوقات البابوية الكاثوليكية وتفكيك النفوذ المعرفي الذي احتكرته طويلا. كما ساعدت التحولات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة على الإعداد للقاعدة الاجتماعية والاقتصادية لنشأة الدولة وهي تحولات أطلقتها الثورة الصناعية وتوسع النظام الرأسمالي. وكانت تلك التحولات شروطا مترابطة لنشأة تمخض عنها ميلاد السياسة بالمعنى المدني والمعاصر للكلمة.

القاعدة الاجتماعية والتاريخية للدولة الوطنية في تونس

لندرك أولا أن الدولة الوطنية العربية والتونسية تحديدا لم تولد نتيجة تطور تاريخي، بل تم استيلادها ولادة قيصرية عسيرة ناتجة عن غياب المشروع الوطني المعبإ بالحرية والاستقلالية ونحت منحى استبداديا شموليا عاجزا عن الانفتاح الديمقراطي. كما أدت الولادة القيصرية إلى تلبس الأزمة الأخلاقية بالدولة الوليدة فتورطت في العلاقة السيئة بكل ما هو ديني، بكل مرجعياته الاجتماعية والشعبية.

وفي الواقع تعود جذور الدولة الوطنية التونسية إلى مكونات الحركة التحريرية الوطنية وتطوراتها والتي لا تختلف كثيرا عن المكون الاجتماعي والثقافي للدولة العربية مع اختلاف في السياقات والتفاصيل.

وتفصح تلكم المكونات عن وجود:

ـ الحركة الوطنية الزيتونية
ـ والحركة الوطنية الصادقية الذين شكلا قاطرة الانتظام السياسي للحركة الوطنية التحريرية
ـ كما كان للحراك الاجتماعي المدني ممثلا في المنظمات النسائية والشبابية والحراك الطالبي الزيتوني والنقابات الوطنية دور حيوي رافد للحركة الوطنية التحريري.
ـ وتولى المزارعون والفلاحون في الريف مهام الكفاح الوطني المسلح ضد الاستعمار التعاون مع نقابة حشاد والرصيد الكمي للحراك الطلابي الزيتوني.
ـ شريحة الأنتلجنسيا الدارسة في فرنسا ومنهم الحبيب بورقيبة ورفاقه.

وغداة الاستقلال تم احتكار بناء الدولة الوطنية من قبل مكون واحد هو شريحة الأنتليجنسيا الدارسة في فرنسا التي استأثرت بالدولة وتعمدت الفصل الحاد بين الحركة الوطنية الزيتونية والحركة الوطنية الصادقية وثوار الريف من المزارعين الذين سموهم بالفلاقة أي المتمردين وهي في الواقع صفة استعمارية فرنسية تستهدف شرعية ثوار الجبال والريف الذين تولوا أصعب مهام التحرير الوطني.

القاعدة الأيديولوجية للدولة الوليدة

لم يكن تأسيس الدولة الوطنية وفيا لمكونات الحركة التحريرية التي تولدت عنها بل كان تقسيميا وإقصائيا مغرقا في أدبيات الأجهزة الأيديولوجية التي تهمش دواخل الجمهورية وتهمش جذورها الوطنية الإسلامية الجمهورية. وتتعالى على الكوادر والإطارات الزيتونية رغم سجلها الملحمي في الإصلاح والكفاح التحريري بآفاقه التونسية والمغاربية والعربية. وحرموا من المسؤوليات والوظائف المركزية في الدولة رغم ما يخملونه من كفاءات توازي كفاءات رفاقهم الصادقيين وشرائح المتعلمين في فرنسا.

لعبت الأجهزة الإيديولوجية لدولة بورقيبة الفتية لعبتها باحترافية عالة لم يتفطن أحد إلى بنيتها التحتية التي اعتمدت المقرر الفرنسي في التعليم والتنظيرات الفلسفية لمحجوب بن ميلاد ومنهجه في تحريك السواكن الذي لم يستهدف بها الدوغماتية بقدر ما استهدف الموروث الوطني والروح الوطنية الجامعة. وأسند الترويج الإعلامي والثقافي للإذاعية المثقفة ناجية ثامر والتعليم لمحمود المسعدي. وما وصلت سنة 1964 حتى تم احتواء جميع النقابات والمنظمات المدنية تحت تصرف وسلطة الحزب الواحد.

حزب بعقل سياسي يعقوبي مخاتل

وبذلك ولدت الدولة الوطنية غير مكتملة الشروط متعرجة فاقدة لعديد الأضلاع مثل:

ـ إهمال اللغة العربية
ـ إهمال الحالة الدينية وتهميشها والسخرية من ادبياتها القرآنية كما لم يحصل في أي دولة عربية.
ـ العجز عن استحداث شبكة اقتصادية موحدة تشكل قاعدة مادية للاقتصاد الوطني ومفاعيله الإنتاجية والتوزيعية.
ـ تجريد الفلاحين من آخر مدخراتهم الزراعية والرعوية بدلا من إنجاز الثورة الزراعية واستصلاح الأراضي.
ـ العجز عن رسم استراتيجية في زراعة الحبوب بالأراضي المهملة والتزيع العلمي للمياه والسدود.
ـ الافتقار إلى رؤية استراتيجية في ثورة التصنيع التي تشكل الركن المكين للدولة الوطنية.
ـ إضافة إلى الافتقار إلى التصور الوطني للثورة الثقاية والثورة العلمية..

لا توجد دولة وطنية على وجه الأرض استطاعت أن تحقق نهوضها وتطورها وهي منقسمة ومتشظية بين رأس مالها الوطني المادي والإنتاجي وبين رأس مالها الوطني الرمزي. وسقط كل فقهاء الطوطولوجيا والتبرير المزين لفك الارتباط التاريخي بين رأس المال المادي والإنتاجي ورأس المال الوطني الرمزي في ظلمات الفشل والديكتاتورية والضياع.
وهكذا تحولت الدولة الموعودة إلى دولة وطنية مغدورة وحلم موؤود وغابت عنها سوسيولوجيا الروح الوطنية الجامعة والتكوين النفسي الاجتماعي المشترك بتعبيراته الثقافة المشتركة. وحصل الفراغ المريع.. فراغ لم تملأه تيارات وجودية مقلدة ومستنسخة في غير بيئتها قرفت من عبثية الحياة وافتقادها للمعنى وفرضت لا أدريتها على مقررات النظام التعليمي.

وفراغ لم تملأه السلفية الماركسية التي انطلقت في أول عهدها مكافحة وطموحة، ولكنها انتهت في قسم منها إلى سند شرعي ووحيد للدولة البوليسية.

وتعاظمت الحاجة الاجتماعية إلى الأنطولوجيا الدينية التي رغبت منذ بداياتها الجنينية أن تبتعد عن النمطيات الدينية التقليدية السائدة. ولم تكن تعي أن طبيعتها تختلف عن فتوحات مجاميع الخلاص التبشيري إذ تولدت من قاع المأزق التاريخي الذي أضاع بوصلة النهوض والإصلاح والتنوير وبدا صداه متصاعدا من باطن العلاقات البنيوية والهيكلية للحراك الاجتماعي.

لكن الصدام كن محتوما بين الدولة المتعرجة الوليدة وبين جذورها الوطنية التحريرية التي شكل الإسلام السياسي أحد تمثلاتها الرئيسية قبل أن تلتحق بها أحزاب ومنظمات المطلب الديمقراطي الاجتماعي الوطني والحقوقي.

الانقسام والتشظي

لم تكن تمثلاث الإسلام السياسي للحركة الوطنية التحريرية الموحدة والمفتوحة على المكونين العربي والمغاربي ضبا من الصلف أو التعالم. بل كانت تمثل الموجة الثالثة لحركة الاستقلال كما يقول الباحث الفرنسي "فرانسوا بورغا "إذا اعتبرنا بأن الاستقلال الوطني السياسي والاستقلال الوطني الاقتصادي موجتان سابقتان منكسرتان مما استوجب ولادة حركة لوعي الذات للذات وبالذات وخلق الإرادة الحرة المقررة وحدها للمصير الوطني للدولة وتطلعات أبناء شعبها وشبابها لتطورها ونهوضها.

إن وعي المكون الاجتماعي والتاريخي للحركة الوطنية التحريرية واعتباره حلقة مفصلية في بنيان الأضلع الرئيسية للدولة الوطنية يعني استدعاء رأس المال الرمزي للدولة الوطنية.. ولا توجد دولة وطنية على وجه الأرض استطاعت أن تحقق نهوضها وتطورها وهي منقسمة ومتشظية بين رأس مالها الوطني المادي والإنتاجي وبين رأس مالها الوطني الرمزي. وسقط كل فقهاء الطوطولوجيا والتبرير المزين لفك الارتباط التاريخي بين رأس المال المادي والإنتاجي ورأس المال الوطني الرمزي في ظلمات الفشل والديكتاتورية والضياع.

إنها معضلة الصراع العبثي بين جنين الدولة الوطنية التونسية والعربية وبين عمقها الرمزي.

وتلك ظواهر الأزمة البنيوية للدولة الوطنية في تونس وفشل الطبقة الليبرالية الطرفية والبرجوازية الطفيلية التابعة في بناء سياقها الإنتاجي المستقل وسوقها الداخلي والخارجي وقاعدتها الاقتصادية الوطنية المستوجبة لنهوض الدولة الوطنية.

بين سجن المرناقية وخبز الفقراء

كثيرون هم الذين يتوهمون بأن سجن قادة الحركة الوطنية الإسلامية الديمقراطية حلقة ثانوية وضعيفة Maillon faible في بنيان الدولة السيادية. وكان سجن الزعماء الإسلاميين الديمقراطيين الوطنيين ليس له صلة بحركة الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري والمنجمي المتهالكة والمدمرة للخبز اليومي للمواطنين فالصلة وثيقة ومفصلية وعضوية، طالما تكرست التقاليد البالية والمقيتة في الفصل ليس بين الدين والدولة وبين الزمني والروحي لا أبدا فتلك قضية أخرى لها مجالها وإنما الفصل بين رأس المال الإنتاجي والمادي وبين رأس المال الرمزي. وهو فصل أحبط ويحبط كل التطلعات ويعدم الثقة بالذات الوطنية فيصبح الإنتاج غير ذي معنى وجذور العمق الوطني للروح الموحدة والجامعة لأبناء الوطن الواحد مفقودة فتتحول الدولة المتعرجة إلى الانشطار والتشظي وتتحلل في نشأة العصبيات والإقطاعيات الشوفينية والفاشية المتقاطعة، والرهبانية الطبقية والاستبدادية الخادمة لسيطرة اللاهوت السياسي والعولمة الصهيونية ضدا للديمقراطية والإسلام السياسي.