في
خطابه المهم قبل بضعة أيام، توعّد زعيم
حزب الله السيد حسن نصر الله
قبرص في حال
واصلت تعاونها العسكري مع
إسرائيل واستضافتها لقوات إسرائيلية للتدرب على أراضيها
استعدادا لاجتياح لبنان. وقد كان كلام نصر الله واضحا لا لبس فيه: "فتح المطارات والقواعد القبرصية للعدو الإسرائيلي
لاستهداف لبنان يعني أن الحكومة القبرصية أصبحت جزءا من الحرب وستتعامل معها
المقاومة على أنها جزء من الحرب". في واقع الأمر، لم يصبح
القبارصة مؤخرا أصدقاء مقربين لإسرائيل فحسب، بل أصبحوا أيضا حليفا رئيسا للولايات
المتحدة، حيث زار وزير الخارجية القبرصي كونستانتينوس كومبوس الولايات المتحدة قبل
بضعة أيام للتنسيق مع وزير الخارجية أنتوني بلينكن؛ في الدور الذي حدده الأمريكيون
لقبرص فيما يخص الأوضاع القائمة في منطقتنا.
وفي رده
على تصريحات نصر الله، نفى الرئيس القبرصي نيكوس كريستوليدس أي تورط لقبرص في حرب
الإبادة الإسرائيلية المستمرة على
الفلسطينيين أو في حربها على لبنان. وأكدت قبرص
أيضا أنها لا تملك أية سيطرة على القاعدتين العسكريتين البريطانيتين المتواجدتين على
أراضيها واللتين تتعاونان عسكريا مع إسرائيل. على النقيض من ذلك، كان للسفير
القبرصي لدى إسرائيل، كورنيليوس كورنيليو، رد فعل أكثر حدة تجاه نصر الله، حيث
أعاد كورنيليو التأكيد على دفء العلاقات بين إسرائيل وقبرص، وهو الأمر الذي جعله يشير
بفخر إلى أن هذه العلاقة هي ما يزعج السيد حسن نصر الله.
إذا كانت قبرص قد بدأت في التقرّب من إسرائيل في وقت قريب من تاريخها، إلا أنها كانت محط اهتمام رئيس عند الصهاينة المسيحيين واليهود منذ فترة أطول بكثير، حيث اعتبرت ذات موقع استراتيجي ورمزي في المنظور الاستعماري
أما
علاقة العشق هذه بين قبرص وإسرائيل فقد بدأت تتشكل منذ أكثر من ثلاثة عقود، إلا أن
مدى حميمية هذه العلاقة لم ينجلِ إلا حين قام الرئيس القبرصي ديميتريس خريستوفياس،
من "الحزب التقدمي للشعب العامل" أي الحزب الشيوعي القبرصي، بزيارة رسمية
لإسرائيل في آذار/ مارس 2011. وقد رد بنيامين نتنياهو الزيارة في شهر شباط/ فبراير
2012 ليصبح أول رئيس وزراء إسرائيلي على الإطلاق يقوم بزيارة رسمية لقبرص.
وبينما
كانت المصالح المشتركة تتركز أول الأمر حول احتياطيات الغاز الواقعة
ما بين قبرص والساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، فقد توسعت مجالات التعاون لتشمل
تقديم إسرائيل المساعدة لقبرص في إقامة علاقة أوثق مع الولايات المتحدة.
ولم
يكن الزعيم الشيوعي القبرصي العضو اليساري الوحيد في الاتحاد الأوروبي الذي عزز
علاقات وثيقة مع إسرائيل، فقد أصبحت العلاقات الدافئة مع إسرائيل هي الوضع السائد
منذ وصول اليسار إلى الحكم في اليونان في عام 2015 (وقد كان هذا التحول أحد اوجه الخلاف ما بين ائتلاف سيريزا
اليساري الذي وصل إلى الحكم واليسار التقليدي-الشيوعي وكذلك مع شباب اليسار
الراديكالي والفوضيين). وفي عام 2021، شاركت قبرص واليونان في مناورات عسكرية
بحرية مع إسرائيل.
ولكن
إذا كانت قبرص قد بدأت في التقرّب من إسرائيل في وقت قريب من تاريخها، إلا أنها
كانت محط اهتمام رئيس عند الصهاينة المسيحيين واليهود منذ فترة أطول بكثير، حيث اعتبرت
ذات موقع استراتيجي ورمزي في المنظور الاستعماري. من الجدير بالذكر في هذا الصدد
أنه عندما احتل البريطانيون قبرص في عام 1878، كتبت صحيفة "جويش
كرونيكل"
اليهودية اللندنية أنه بما أن "قبرص كانت في العصور القديمة موقعا
لمستعمرة يهودية مزدهرة باليهود.. فلماذا لا يكون الأمر كذلك مرة أخرى؟". وقد
دعا المقال يهود فلسطين وسوريا الكبرى إلى الهجرة إلى الجزيرة، حيث إن قبرص "تقدّم"
لهم "نفس عوامل الجذب المغرية التي قدمتها لليهود القدامى، بل أعظم، فهي على
بعد إبحار يوم واحد من البر الرئيس. ولأول مرة في تاريخ العالم، تتاح ليهود فلسطين
فرصة العيش في ظل المؤسسات الخيرية والقوانين [البريطانية] الأكثر استنارة والأكثر
تحررا، دون الخضوع لآلام الهجرة إلى مناخات بعيدة، والتخلي عن أسلوبهم الشرقي في
العيش".
وقد
ضم البريطانيون قبرص في عام 1914 عندما دخل العثمانيون الحرب العالمية الأولى،
وأصبحت قبرص مستعمرة تابعة للتاج البريطاني رسميا في عام 1925.
لطالما
أشار الصهاينة إلى المستعمرات العبرانية في الفترة التوراتية في قبرص (التي تعرف بالعبرية
القديمة والحديثة باسم "كَفْريسيم")، بما في ذلك مدينتا بافوس وسلاميس،
كسابقة للاستعمار المستقبلي. ومن بين أكثر الجماعات حماسا لدعم الاستيطان اليهودي
في شرق المتوسط كانت جماعة "البريطانيين-الإسرائيليين"، وهي جماعة
بروتستانتية بريطانية تأسست عام 1874. هذه الجماعة كانت من أوائل الحركات
الصهيونية المسيحية التي تحمست لإرسال اليهود إلى "الأرض المقدسة".
أنشأت
هذه الجماعة "صندوق الاستعمار السوري" (المعروف أيضا باسم "جمعية
إغاثة اليهود المضطهدين" في أوروبا الشرقية) الذي تلقى تبرعات في إنجلترا
وتمكن من شراء أراض قريبة من فلسطين. وقد بدأت الجماعة في إرسال المهاجرين اليهود الذين
أتوا إلى إنجلترا من أوروبا الشرقية إلى المستوطنات الجديدة. وفي عام 1883 أُنشئت
أول مستعمرة يهودية لهم في مدينة اللاذقية شمال غرب سوريا، لكنها استمرت لمدة عام
واحد فقط. وقد تم نقل المستوطنين اليهود من اللاذقية إضافة إلى مجموعة جديدة من
اليهود القادمين من روسيا؛ إلى قبرص لإنشاء مستعمرة يهودية هناك. وأقامت المجموعة
مستوطنة جنوب غرب الجزيرة بالقرب من قرية كوكليا، أسوة بالمستوطنات العبرانية
القديمة، لكن المستوطنين لم يستسيغوا العمل الزراعي هناك وقرروا مغادرة المستوطنة
بحلول عام 1884.
وقد
كانت قبرص أيضا موضع اهتمام اليهودي الألماني ديفيس تريتش (1870-1935)، حيث كان
تريتش في عام 1893 مهتما بما يجب فعله بقبرص:
"انظروا، هنالك أرض لا يعرف الإنجليز ماذا يفعلون بها، في حين
يبحث اليهود في كل مكان عن مكان لاستقرار إخوانهم.. وبما أن قبرص تقع في المنطقة
المجاورة مباشرة لفلسطين، ولعلمي أن هناك رغبة لدى اليهود في استعمار فلسطين، لكن
هذا.. لم يتحقق بسبب موقف الحكومة التركية، بدا لي حينها أن الفكرة الطبيعية
والجميلة المتمثلة في العودة إلى الأرض القديمة يمكن دمجها مع الاستيطان في قبرص،
سواء بقيت إنجلترا هناك أم لا".
عندما
اطلع تريتش على كُتَيّب ثيودور هرتزل "دولة اليهود" الصادر عام 1896،
تشجع وسافر لحضور المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897. وكتب لهرتزل، مؤسس
المنظمة الصهيونية العالمية، بعد أسابيع قليلة من المؤتمر حول فكرته واستمر في مراسلته
حول هذا الشأن. وبدعم من هرتزل، ألقى تريتش خطابا أمام المؤتمر الصهيوني الثالث في
عام 1899 حول هذه المسألة، لكن قلة من الحضور تجاوبوا مع طرحه.
وقد
ناقش في المؤتمر الصهيوني الخامس عام 1901 فكرة "فلسطين الكبرى" التي
ستكون قبرص جزءا منها، ووضّح بأن استعمار الجزيرة سيكون جزءا من المشروع الصهيوني
وليس بديلا عنه. وهكذا أصبحت قبرص موقعا محتملا للاستعمار-الاستيطاني اليهودي.
وبالفعل، كانت "جمعية الاستعمار اليهودي"، التي كانت في حينها غير صهيونية،
قد أقامت في عام 1897 مستوطنة يهودية في قبرص لليهود الروس، الذين انضم إليهم
مستوطنون يهود روس من فلسطين. وقد كان عدد سكان مستوطنة "مارغو-جفلك"،
الواقعة على بعد أربعة عشر كيلومترا من نيقوسيا، أقل من 200 نسمة وقد تم تفكيكها
أخيرا في عام 1927 عندما قرر مستعمروها الانتقال للاستيطان في فلسطين بدلا من
قبرص.
وبعد
فترة قصيرة من اختيار هرتزل لبريطانيا باعتبارها الراعي المثالي للمشروع الصهيوني،
أجرى محادثات خاصة مع المسؤولين البريطانيين، ناقش خلالها بشكل محدد المواقع التي
يجب أن يبدأ فيها الاستيطان اليهودي. وعندما التقى بوزير المستعمرات البريطاني
جوزيف تشامبرلين، اقترح عليه قبرص (لا سيما أنه كانت هنالك بالفعل مستوطنة يهودية
قائمة أصلا كما أسلفنا)، ومدينة العريش وشبه جزيرة سيناء.
قبل أن يفرض الاتحاد الأوروبي سمومه المؤيدة للصهيونية على قبرص، كما فرضها على اليونان، كانت قبرص مدافعا تاريخيا عن الفلسطينيين وعن حقوقهم، وكانت أيضا قد اعترفت بدولة فلسطين
كان
تشامبرلين (وهو بروتستانتي صهيوني معاد للسامية كان قد عارض الهجرة اليهودية من
أوروبا الشرقية إلى بريطانيا) متعاطفا مع هرتزل، لكنه أكد له بأن بريطانيا لن تقوم
بطرد اليونانيين و"المسلمين" من قبرص من أجل المستوطنين اليهود. فأوضح
هرتزل له خطته لإنشاء "شركة يهودية شرقية" برأس مال قدره 5 ملايين جنيه إسترليني
لاستعمار سيناء والعريش، وهو المال الذي من شأنه أن يجذب القبارصة: "سوف يرحل
المسلمون، وسيبيع اليونانيون أراضيهم بكل سرور بسعر جيد وسيرحلون إلى أثينا أو جزيرة
كريت".
نظرا
لتحفظات تشامبرلين بشأن طرد القبارصة من ديارهم، أصبح البديل المصري عمليا أكثر للمشروع
الصهيوني. فسافر هرتزل وفريق من الصهاينة إلى مصر عام 1903 والتقوا بحاكمها
الاستعماري البريطاني اللورد كرومر، للتفاوض حول استيطان اليهود للمنطقة الواقعة
بين نهر النيل وقناة السويس. لكن المشروع لم يتحقق في ظل عدم جدوى استيطان المنطقة
(لأن أراضيها قاحلة ومواردها المائية شحيحة)، وهي النتيجة التي توصل إليها
المبعوثون الصهاينة.
وقد
اختلف هرتزل وتريتش في المؤتمر الصهيوني السادس عام 1903 بسبب التخلي عن مشاريع "
فلسطين الكبرى" التي ضمت قبرص وسيناء والعريش، في ضوء عرض بريطاني جديد لمنطقة
أوغندا الأفريقية للاستيطان اليهودي، لأن الأخيرة لم تكن جزءا من "فلسطين
الكبرى" بحسب المخيلة الصهيونية.
لم
تتحقق خطط استيطان قبرص قط، حيث حصل الصهاينة بعد الحرب العالمية الأولى على رعاية
بريطانية لمشروعهم الاستعماري في فلسطين، لكن سرعان ما استغل الصهاينة الأساليب
الاستعمارية البريطانية المستخدمة في قبرص لتفريق القبارصة المسلمين والمسيحيين عن
بعضهم البعض. وفي كانون الثاني/ يناير 1922، ابتكر المندوب السامي الصهيوني
البريطاني في فلسطين الانتدابية هربرت صموئيل مكتبا طائفيا جديدا للمسلمين
الفلسطينيين أطلق عليه اسم "المجلس الإسلامي الأعلى"، لتقويض التضامن الوطني
القائم بين المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين في مواجهة الانتداب البريطاني والحركة
الصهيونية. وقد صاغ صموئيل فكرة المجلس على غرار السياسة الاستعمارية البريطانية
تجاه مسلمي قبرص.
قبل
أن يفرض الاتحاد الأوروبي سمومه المؤيدة للصهيونية على قبرص، كما فرضها على
اليونان، كانت قبرص مدافعا تاريخيا عن الفلسطينيين وعن حقوقهم، وكانت أيضا قد اعترفت
بدولة فلسطين. وقد بلغ موقفها المؤيد للفلسطينيين حدا دفع إسرائيل في عام 1993 إلى
اعتبار السيدة الأولى أندرولا فاسيليو، زوجة الرئيس القبرصي جورج فاسيليو، شخصا
غير مرغوب فيه في إسرائيل عندما حاول وفد كانت تقوده مقابلة ياسر عرفات، الذي كان
الإسرائيليون قد وضعوه قيد الإقامة الجبرية في مكتبه في مبنى السلطة الفلسطينية في
رام الله.
في ظل قيام المزيد من الدول بقطع العلاقات مع إسرائيل وفرض العقوبات عليها، تزداد العلاقات القبرصية مع المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية دفئا. يبدو أن عزلة البلاد وتحول إسرائيل إلى دولة منبوذة على المستوى الدولي لا تعني القبارصة بشيء
أما
اليوم، وفي ظل قيام المزيد من الدول بقطع العلاقات مع إسرائيل وفرض العقوبات عليها،
تزداد العلاقات القبرصية مع المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية دفئا. يبدو أن عزلة
البلاد وتحول إسرائيل إلى دولة منبوذة على المستوى الدولي لا تعني القبارصة بشيء، فإذا
كان القبارصة يجدون بالفعل أن الاستعمار-الاستيطاني اليهودي وحروب الإبادة
الجماعية الإسرائيلية في مختلف أنحاء فلسطين وعدوانها المستمر على لبنان أمر لا يستدعي
قطع العلاقات الدافئة والتعاون العسكري مع إسرائيل، فربما يمكنهم أن يعرضوا بلادهم
للاستيطان اليهودي وإحياء الأحلام الصهيونية القديمة بالاستيلاء على الجزيرة، لا سيما
أن سفارة قبرص في تل أبيب تحتفي على موقعها على الإنترنت بالمستعمرات العبرانية
القديمة في بلادها، وإن كانت، وهذا أمر غريب، لا تذكر ولا تحتفي بالمستعمرات
اليهودية الصهيونية الحديثة في "كوكليا" أو "مارغو-جفلك" التي
قد تكون وقعت سهوا من احتفاء السفارة.
ففي
ضوء هذا الترحيب القبرصي، ربما يسعى الصهاينة إلى إصدار دعوة جديدة لـ"عودة"
اليهود المعاصرين إلى المستعمرات العبرية القديمة في "كفريسين"، وإلى المستعمرات
الأحدث في كل من "كوكليا" و"مارغو-جفلك"، وحينها قد تساهم مثل
هذه الخطوة في تخفيف الضغط الاستعماري على الأراضي الفلسطينية.