لا تزال
الجغرافيا تعطينا الدرس تلو الدرس وتنبهنا إلى خطورة عالم المفاهيم
الجغرافية. كان أستاذنا الدكتور حامد ربيع وأستاذتنا منى أبو الفضل يحذران من
استخدام تلك المفاهيم الجغرافية وتناقلها في خطاباتنا والتي تحمل في جوفها تسميما
وغزوا معنويا، وهي للأسف الشديد مسكونة بقابليات
التطبيع الناشئ عن استخدام هذه
المفاهيم من دون وعي استراتيجي يمثله عالم المفاهيم؛ ذلك أن مفهوم "الشرق
الأوسط" بكل تنوعاته قديما أم جديدا، ضيقا أم موسعا، كبيرا أم صغيرا، فإنما
يشكل معنى جغرافيا غربيا يؤسس لمركزية غربية إبان الحقبة الكولونيالية وما بعدها،
والتي يشكل عنوانها "الغلبة والهيمنة" وتشكل أحوالها "التبعية وحال
التجزئة والفرقة والتفرقة".
مفهوم الشرق الأوسط كمفهوم جغرافي واصف للمنطقة يُدخل الكيان الصهيوني
(
إسرائيل) من أوسع الأبواب، بل قد يكون في سياق اعتباره أداة وظيفية، تشكل الهيمنة
بالوكالة حينما ليس فقط تتلاقى المصالح الغربية مع الصهيوني، بل تجعل من المصالح
الصهيونية قسيما للمصالح الغربية.
إن مفهومي العالمين العربي والإسلامي يُخرجان الكيان الصهيوني من حياضهما،
ولكن مفهوم الشرق الأوسط أحد المفاهيم الجغرافية القابلة لتسكين إسرائيل فيه؛ ترتع
في ساحاته ومساحاته كيف شاءت، ورغم أن البعض يرى في الجغرافيا ودلالاتها أمرا
محايدا؛ إلا أن التعاطي معها على هذا النحو قد يحمل تحيزات خطيرة وعلى رأسها مفهوم
الشرق الأوسط.
أما المفهوم الآخر الذي أُطلق كمفهوم جغرافي والذي يساند ويدعم منظومات
التفكير والتدبير في المنطقة، وفق أهداف مسمومة ومشبوهة، وغايات زائفة وخبيثة،
فيكمن في تعبير "دول الطوق"؛ طوق على من؟ هل دول الطوق شكلت بالفعل وفي
الواقع طوقا على عمل المقاومة
الفلسطينية وأهدافها التحريرية والخوف من خياراتها
على الأنظمة الرسمية الصانعة لكل خذلان والمنتجة لكل ضعف وهوان، ونظم رسمية ترتعد
من كلمات المقاومة والانتفاضة ومقاصدها في الحرية والتحرير؟ أم هو طوق من ناحية
أخرى لحماية وأمان وتأمين للعدو الصهيوني ووجوده ضمن وظيفة هذه الأنظمة لحراسة
الحدود في سياقات اتفاقاتها التطبيعية المعلن منها والمخفي؛ الظاهر منها والمستور؟
تأمين للعدو من شعوب عربية لا تعترف بالكيان، ونظم عربية تجعل من أمن
إسرائيل جزءا لا يتجزأ من الأمن القومي العربي أو المصري.. من تحمي إذن دول الطوق
المزعومة؟ إن اعترافنا بالعدو والتطبيع معه يجعل من دول الطوق المطبعة رسميا أو
بصورة غير رسمية طوقا حاميا للكيان الصهيوني، وسواء أكانت دول الطوق تحاصر غزة
والمقاومة أو تؤمّن الكيان الصهيوني؛ فإن الأمر يجعلنا نرفض استخدام هذا المصطلح
البغيض؛ وكان أولى بتلك الدول ونظمها الرسمية أن تحتضن فعل وخيار المقاومة احتضان
الرحم الحضاري لأغلى أولاده المتمثل في المقاومة.
أين هذا من مفهوم دول الرعاية الجغرافية التي تتمثل مفهوم الجوار الحضاري
أو دول "الرحم الحضاري الخاصة" للمقاومة وخياراتها المصيرية بين الشرق
الأوسط المنتج لكل معاجم الضعف والهوان والخذلان، والأمة "الوسط"
الحافزة لقواميس العزة والكرامة والمجاهدة والمقاومة؟ هكذا يكون الخيار الجغرافي
الحقيقي، المسكون بالمنظومة العقدية الدافعة الرافعة.
درس الجغرافيا والتطبيع قد يقترن بما يسمى "التقنية الجغرافية" وحرب
الخرائط وطمس الذاكرة.. سلمان أبو ستة وجهده في الأطلس الفلسطيني؛ والذي يتتبع
سياسات الكيان الصهيوني في طمس الذاكرة ووأد حق العودة؛ وجهود الصهاينة المتراكمة ضمن
سياسات الصهاينة على الأرض (التهويد)!
مسائل عدة تمثل الإشكال الجغرافي والتطبيع الصهيوني للدولة الإسرائيلية
الناشئة، وحق العودة من المعلوم بالضرورة في القضية الفلسطينية؛ وصعود ما يمكن
تسميته بالجغرافيا النقدية والحالة "الكولونيالية" والاحتلالية
والاستيطانية؛ من الجغرافيا التقنية إلى الجغرافيا النقدية؛ والمقاومة بالجغرافيا؛
حراس الذاكرة وما يمثله "سلمان أبو ستة" كنموذج في هذا المقام؛
يربطون معركة الذاكرة بحق العودة؛ من الجغرافيا التقنية حبيسة "الوصف
الجغرافي" و"الأرقام"، إلى جغرافيا الأرض الحقيقية التي تستخدم
"البشر" والإنسان.. "نقد الكشوف الجغرافية"، نقد الشعار
الغربي "أرض لا صاحب لها" و"أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، ومن
ثم فإن التدافع الجغرافي هو من أهم المجالات الأساسية والحقيقية والواقعية التي
تتحرك صوب جغرافيا البشر، وبشر الجغرافيا. المسألة لا تتعلق فحسب بالمكان المصمت
أو إغفال البشر الحي، وتفاعلاته ضمن إعمار الأرض. إن الاغتصاب والاحتلال
والاستيطان مفاهيم جغرافية بحق وفق التعريف "الحمداني" الذي اعتمده جمال
حمدان في تصور الجغرافيا.
إن إسرائيل أرادت التعامل مع الجغرافيا ضمن وسائلها التقنية في طمس الحقائق
والقيام بالادعاءات الجغرافية الزائفة، من "هيكل سليمان" وما شابه من
أساطير وافتراءات، وهو أمر اصطنعوه لينازعوا المسلمين في عالم المقدسات، خاصة فيما
يتعلق بهذا التطبيع الجغرافي في سبيل تمكين السردية الصهيونية، فهي لم تكن مجرد
كلمات أو شعارات، بل حوّلها الكيان الصهيوني بعملياته المتتابعة في تغيير المعالم
وطمس الذاكرة، وطمس الجغرافيا.
ومن هنا، فإن الخطاب الذي يؤكد على المقاومة الجغرافية منذ نشأة إسرائيل
المصطنعة والزائفة هو الذي يتحقق ضمن معركة يجب أن نخوضها، هي معركة الذاكرة،
وفلسطين والقدس والأقصى هي في قلب تلك المعركة الحضارية والوجودية، وهي أمور تجعل
من الوعي الجغرافي متكاملا مع وعي الذاكرة التاريخية (الوعي التاريخي)، وهما أمران
لا ينفصلان؛ عروة وثقى لا انفصام لها؛ من التطبيع إلى الترسيم إلى التحالف.. تبدو
حلقات التطبيع المتنامية التي تحتل مساحات جغرافية جديدة تحت عناوين التطبيع،
لكنها في الحقيقة جملة من الاختلالات الجغرافية المتسعة والمتراكمة، التي تشكل
بيئة للكيان الصهيوني بيئة تقبل، بيئة مواتية لتحقيق كل أهدافه في الغصب والاحتلال
والعدوان، ويسير درجة بعد درجة إلى توطين القابلية للاحتلال والغصب والعدوان،
والانتقال من التطبيع إلى الترسيم، بل والتحالف الخائن مع العدو والتعايش مع ظواهر
التصهين الثقافي والحضاري المتصاعدة ضمن مفهوم "الهرولة".
تصور الجغرافيا وعمارة المكان والأرض إنما يربط جوهريا بين المكان والمكانة..
صراع المكانة الزائف وطابور التطبيع الخانع والكاذب؛ إلى حقيقة تدافع المكانة
الحقيقية باعتبار الشعوب ورضاها والشرعية واعتبارات الأمة ومرساها على طريق
النهوض.
التطبيع بين مسار التغرير ومسار المقاومة والتحرير.. "الجغرافيا
السياسية بهذا الاعتبار نعمة لمن عمل بأصول وعيها وسعيها، حركة وتدبرا، مكانة
وتمكينا". وهي نقمة حينما يكون إمكانات المكان ومكنونه أكبر بكثير مما يعيشون
فيه، ضعفاء فقراء حتى في أنماط التفكير. ومن هنا تتحول الجغرافيا السياسية، من
نعمة وجب شكرها بالعمل بشرطها واستحقاقها، إلى ما يمكن تسميته "بانتقام
المكان" من أهله ومن أصحابه، الذين يتنازلون عن منافعه ويرهقونه بتنازلاتهم
المنقوصة والفاضحة. إن خذلان المكان موجب لنقمته وانتقامه، إنه درس المكان الخالد
المتدبر لمعانيه من كونه "موضعا" أو "وضعا" مكانيا جغرافيا
إلى كونه "موقعا" بمكنونه البشري، وإرادته، ومكونه الاستراتيجي، واعتباراته.
ودرس الجغرافيا كذلك ليس بعيدا عما يمكن تسميته بالجغرافيا الكونية، إذ
تتسع لمناهضة الكيان ودعم تحرير فلسطين في بقاع شتى، إنها جغرافية الإنسان المفطور
على حب القيم وتطبيقاتها على كل مكان وزمان وإنسان مهما اختلفت الأحوال والأوطان.
حركة فطرية قيمية ترفض كل ما يفعله الإنسان من أن يقوم بانتقائية المعايير التي
تفوق عملية الازدواج إلى الكيل بألف مكيال.
إنها المقاومة في ميدان التدافع بين القيم المحررة والقيم المستبعدة، بين
قيم الحق والعدل، وقيم الظلم والعدوان والطغيان، إنها ثورة يشهدها الغرب ضمن حساب
عسير لمسيرته الحضارية الاستئثارية والطغيانية التي أصابها حال الانكشاف والفضح
بصورة لم يسبق لها مثيل، إنها ثورة الحساب لحضارة نصّبت نفسها معلما ومرشدا لتعليم
الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإذا بها تسقط في الامتحانين بدرجات تضعها في مصاف دول
الاستبداد ومساحات الطغيان، وتكشف الكيان العنصري الهادف إلى الإبادة الجماعية ضمن
سياسات الاحتلال والاستيطان والعدوان.
المقاومة الافتراضية في جغرافيا افتراضية؛ تُخاض مواجهة
جديدة بين إسرائيل والفلسطينيين وكل المؤمنين بهذه القضية في جغرافيا افتراضية لا
تعترف بموازين القوى العسكرية، بل يكفي جهاز كمبيوتر محمول أو هاتف نقال، لنقل ما
يجري في اللحظة ذاتها إلى ملايين المتابعين. وما جرى في سنة 2021 في حي الشيخ
جرّاح دليل على قدرة أشخاص قليلي العدد على مواجهة دولة مدججة بالسلاح.
وأخيرا، فإننا نعتبر أن الناظم بين هذين الوعيين "الجغرافي"
و"التاريخي"، و"الزماني" و"المكاني"، إنما يكمن في
أصول الوعي العقدي بالقضية الفلسطينية، وطبيعة الصراع الوجودي المكنون في قلب هذه
القضية، فالقدس هي القدس وليست غيرها ولا بديل عنها، كما يؤكد الحكيم البشري (المستشار
طارق البشري).
لقد مثّلت عملية "طوفان الأقصى" والجغرافيا السياسية التي صنعتها
في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر؛ مقاومة التطبيع في الميدان واعتماد خيار المقاومة
في الأمة. ومن هنا لا بد أن نفتح الباب واسعا للمقاومة العقدية- التاريخية-
الجغرافية، ولا بد لنا من التعرف على ما يمكن تسميته في هذا المقام
"الجغرافيا السياسية للتطبيع".
x.com/Saif_abdelfatah