قفز سعر
الدولار
الأمريكي مقابل الجنيه
المصري في التعاملات الرسمية للبنوك المصري الأحد والاثنين،
قفزات مفاجئة وكبيرة ليسجل نحو 49.55 جنيه ظهر الاثنين، في انخفاض هو الأكبر لعملة
أكبر بلد عربي سكانا وثاني أكبر اقتصاد أفريقي، منذ تحرير حكومة القاهرة الأخير
لسعر الصرف في آذار/ مارس الماضي.
ومنذ 30 تموز/
يوليو الماضي، حين أتم المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي المراجعة الثالثة
لبرنامج قرض بقيمة 8 مليارات دولار لمصر، وإقراره صرف شريحة بقيمة 820 مليون دولار
للقاهرة، وأعلن الصندوق في بيانه مجموعة اشتراطات لتمرير الشرائح والمراجعات
الخمسة القادمة، وبينها الحفاظ على "سعر مرن" للعملات الأجنبية مقابل
الجنيه.
تبع ذلك الإعلان
موجة صعود للدولار مقابل الجنيه بالبنك المركزي والبنوك الحكومية والعاملة بالسوق
المصرية، منذ نهاية الشهر الماضي، ومع بداية العمل الأسبوعي أمس الأحد، وفي تطور
لافت ومتسارع اليوم الاثنين، وسط توقعات باستمرار تراجع العملة المحلية مقابل
الدولار.
وذهب البعض إلى التكهن بأن تحرك سعر الدولار الاثنين، والأيام الماضية قرار حكومي جاء تلبية لشروط
الصندوق الذي يضع مصر تحت اختبار قادم في أيلول/ سبتمبر المقبل، بمراجعة رابعة
لتمرير شريحة جديدة من القرض بقيمة 1.2 مليار دولار.
وتراجع سعر صرف
الجنيه بنسبة 60 بالمئة في آذار/ مارس الماضي، من 31 رسميا أمام الدولار إلى 50
جنيها، قبل أن يتراجع إلى مستوى 47.5 جنيه طوال الشهور الماضية، ليتراجع مجددا إلى
48.6 جنيه للدولار نهاية الشهر الماضي.
والأحد، قفز
الدولار بمقابل الجنيه، رسميا ليصل إلى معدل 48.85 جنيها مرتفعا من مستوى 48.72
مقابل الجنيه في آخر تعاملات الأسبوع الماضي، مواصلا قفزاته بنحو 27 قرشا منذ
الأربعاء الماضي نهاية تموز/ يوليو، والخميس الماضي مطلع آب/ أغسطس الجاري، فيما
وصفه خبراء بأنه تحرك مفاجئ بالسوق المحلي.
ومع تعاملات صباح
الاثنين، واصل سعر الدولار مقابل الجنيه في الارتفاع ليصل في الساعة الثانية عشرة
ظهر الاثنين إلى نحو 49.55 جنيه رسميا ببعض البنوك المصرية، في ارتفاع هو الأكبر
منذ تعويم الجنيه في آذار/ مارس الماضي.
وفي السياق،
اقترب سعر الريال السعودي الاثنين، مقابل الجنيه المصري من حاجز 13 جنيها، حيث وصل
سعر الشراء ببنك مصر إلى 12.94 جنيه، و12.98 جنيه للبيع.
"مخاوف وتكهنات"
وأعرب مراقبون
عن مخاوفهم من أن يكون خلف هذا الارتفاع أمور أخرى، بينها ما جرى الحديث عنه
الخميس الماضي، من تحويل ودائع السعودية بالبنك المركزي المصري والبالغة 10.3
مليار دولار إلى استثمارات، كما فعلت الإمارات في صفقة "رأس الحكمة"، في
آذار/ مارس الماضي، بتحويل 11 مليار دولار من ودائعها من البنك المركزي إلى الصفقة
المثيرة للجدل.
وربط البعض بين
تراجع قيمة الجنيه بشكل متسارع، وأحداث إقليمية، مثل ترقب الرد العسكري الإيراني
على إسرائيل، على خلفية اغتيال الأخيرة لقائد حركة المقاومة الإسلامية (حماس)
إسماعيل هنية، خاصة وأن تراجع الجنيه يتزامن مع هبوط أسواق المال العربية
والخليجية والمصرية، الاثنين.
خبراء
اقتصاديون، تحدثوا لـ"عربي21"، عن أسباب القفزة المفاجئة لسعر الدولار
أمام الجنيه، ومدى علاقة
صندوق النقد الدولي بها، وحقيقة ما يثار عن علاقة الأمر
بصفقات استثمار سعودية في مصر.
كما أشاروا إلى
التوصيف الاقتصادي الصحيح لما يجري الآن من تراجع لقيمة الجنيه مقابل الدولار
والعملات الأجنبية، وحول ما إذا كان تعويما مدارا من البنك المركزي، وإلى أي حد
يمكن أن يصل هذا التراجع، وتأثيره على المصريين، والسوق المحلية، وملفي الاستثمار
والديون.
"ضغوط ليست خفية"
وقال الخبير
الاقتصادي والأكاديمي المصري الدكتور أحمد ذكر الله: "لا يمكن إطلاق اسم معين
على ما يحدث من انخفاض حاليا بقيمة الجنيه أمام الدولار"، معتقدا بحديثه
لـ"عربي21"، أنه "لا يمكن إطلاق عليه مصطلح (التعويم المدار)".
وأكد أن
"التعويم المدار، هو وضع الجنيه عند هامش أعلى وهامش أدنى يتحرك بينهما،
وعندما يخرج عن هذا الإطار الذي يديره البنك المركزي يتدخل البنك بيعا وشراءا
للعملة الأجنبية، للحفاظ على قيمة الجنيه داخل الحدود المرسومة سابقا في ظل تعويم
مدار".
ويرى أن
"ما يحدث حاليا؛ لا يخرج عن نطاق ضغوط صندوق النقد الدولي، غير الخفية، والتي
ربما كانت السبب الرئيسي مع عوامل أخرى بالتأكيد في تأجيل مراجعة الصندوق للاقتصاد
المصري أكثر من مرة، ثم الافراج عن الدفعة الثالثة من القرض بقيمة 820 مليار دولار
الأسبوع الماضي".
ولفت إلى
اعتقاده بأن "هذا التراجع بقيمة الجنيه مقابل الدولار والعملات الأجنبية
الأخرى نوع من أنواع التوافق مع الصندوق"، ملمحا إلى أن "البنك المركزي
المصري يتقدم خطوة ويتراجع خطوة للخلف، في إطار ما يسمى بالتعويم المدار، لأنه
يعتقد أن السوق لا يمكن أن يستوعب هذه الإدارة، وأنه في ظل شح الدولار ستنفلت قيمة
الجنيه في أيام معدودات".
وحول المدى الذي
يمكن أن يصله تراجع قيمة الجنيه، أوضح أنه "لا سقف مدروس لقيمة انخفاض
الجنيه، ولا قاع معروف يمكن أن يصل إليه"، مبينا أن "الأمور كلها بيد
البنك المركزي حتى الآن، ولا يوجد إدارة لهذا التعويم، لأن الإدارة تحتاج إلى
احتياطيات قوية، ويمكن أن يتدخل البنك المركزي وقت اللزوم للحفاظ على سعر الصرف،
وأعتقد أن هذه الاحتياطيات غير موجودة حتى الآن".
وعن أثر التراجع
بقيمة الجنيه، قال ذكر الله، إن "كل انخفاض بقيمة الجنيه يؤدي لزيادة عجز
الموازنة للدولة، ويؤدي إلى اضطرار الحكومة تحت ضغط صندوق النقد الدولي إلى رفع
أسعار المحروقات ورفع أسعار بعض السلع الأساسية والمواصلات وغيره، وبالتالي هذا
ينقل العبئ مباشرة إلى المواطن العادي الذي يتضرر من انخفاض قيمة الجنيه".
"من الرقابة لرسم السياسات"
وقال الخبير
الاقتصادي المصري الدكتور أحمد البهائي: "الحكومة بإجراءتها الفاشلة وترددها
وتأخرها باتخاذ القرار المناسب منذ 2016، وضعت نفسها تحت رحمة صندوق النقد، وهذا
ما كان الصندوق يريده، وهذا ما حذرنا منه منذ 2015 عبر 40 ورقة بحثية مترجمة".
وفي حديثه
لـ"عربي21"، أوضح البهائين أن " المتمعن باتفاق آذار/ مارس الماضي،
يعلم أنه يمنح الصندوق سلطة التدخل في رسم السياسات المالية والنقدية، وليس
الرقابة عليها فقط، والدليل أنه تم الإفراج عن الشريحة الثالثة (820مليار دولار)،
لكن مع متطلبات أصر عليها الصندوق وواجبة النفاذ حتى تحصل الحكومة على الشرائح
الخمس ومجموعها 6.5 مليار دولار حتى أيلول/ سبتمبر 2026".
وأكد أن
"ترجمتها الحرفية متطلبات وشروط؛ وليس توصيات، كما تدعي حكومة القاهرة، مما
يؤكد أن المفاوضات القادمة ستكون شاقة ومؤلمة، والتي منها إلغاء (ملكية الدولة)،
و(إلغاء الدعم على المحروقات والطاقة)، لنأتي إلى الشروط الأهم والأخطر وهي: تحرير
كامل لحركة رأس المال، والرقابة والشفافية الكاملة في بيانات البنوك المتعلقة
بصافي حدود مراكز العملات الأجنبية المفتوحة، وإلغاء كافة القيود والضوابط التي
تقف دون تحرير التجارة الخارجية، بحسب رؤية الصندوق، وشفافية وزارة المالية في
تعاملها مع متأخرات السداد لدى الشركات الحكومية وشركات المناطق الاقتصادية المهمة
ونشرها خلال 90 يوما".
وأضاف: "من
هنا نستشف، أن الصندوق لا يريد أن يكتفي هذه المرة بالتعاون والتنسيق مع الحكومة
المصرية كما كان سابقا، بل يريد أن يتولى بنفسه ثلاثة أمور، هي: إصلاح السياستين
المالية والنقدية المصرية بهدف القضاء على الاختلالات القائمة، ووضع السياسات
والإجراءات التفصيلية حول برنامج القرض الجديد".
والثالثة:
"تحديد حجم التمويلات المالية المقدمة من البلدان والهيئات الدولية المانحة
عبر البنك الدولي بمدى التقدم الذي ستحققه الحكومة تجاه الالتزام بتنفيذ برنامج
القرض المرسوم من قبل الصـندوق، ما جعل الصندوق مصمم على تولي تنفيذ برنامج القرض
الجديد بمواصلة الاصلاحات الاقتصادية، وحسب رؤيته تكون أولا: في شكل برنامج
التصحيح الهيكلي المدعوم (Enhanced Structural Adjustment Facility)، ويليه ثانيا: برنامج
التمويل التوسعيFacility Fund) (Extended".
"عباقرة حساب رأس المال"
ومضى يقول:
"يُخطئ من يعتقد أنه ليس لتلك الشروط تأثير على قيمة الجنيه المصري أمام
الدولار انخفاضا، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، وعجز الحساب الجاري لمصر على أساس
سنوي ووصوله إلى 22 مليار دولار، وعودة العباقرة القائمين على الاقتصاد لعهدهم
القديم باللجوء لحساب رأس المال لتغطية عجز الحساب الجاري، سواء من الاستثمارات
الأجنبية المباشرة أو الاستثمارات الأجنبية في المحافظ المالية المصرية".
وأكد أن
"الاعتماد على التدفقات المالية الأجنبية وخاصة غير المباشرة (الأموال
الساخنة) أدخل الاقتصاد بدائرة التحول من الإفراط إلى إدمان التدفقات الأجنبية؛ ما
جعل الاقتصاد منكشف بالكامل على العوامل الخارجية والأزمات المالية الخارجية
والداخلية".
وألمح إلى أن
"هذا ما حدث بالفعل؛ هروب جماعي ومفاجئ لتلك التدفقات والاستثمارات من مصر
عند ظهور أول بوادر الأزمات، وهو ما جعل الاحتياطات بالعملات الأجنبية تهبط لأقل
مستوى لها وانخفاض ما تملكه البنوك من أصول، مما انعكس بأثاره السلبية على سعر
العملة المحلية الجنيه، وأجبر البنك المركزي المصري إلى خفض قيمة الجنيه أمام
الدولار، ليس ذلك فحسب؛ بل إلى الأسوأ؛ وهو بيع مصر بعض أرضها لحساب جهات خارجية
ودول خليجية كان آخرها صفقة (رأس الحكمة)".
البهائي عبر عن
مخاوفه من أن "يتكرر نفس سيناريو بيع الأراضي مجددا، حيث لم يتعلم القائم على
السياسة المالية والنقدية من الأخطاء، وعاد للاعتماد على هذا النوع من التدفقات
النقدية في أسوأ صورها وهي الأموال الساخنة، لتصل في نهاية حزيران/ يونيو الماضي
35 مليار دولار".
وبين أن
"ما يشير للقلق هو انخفاض أصول البنوك من النقد الأجنبي نهاية تموز/ يوليو
الماضي، بمقدار 40 بالمئة نتيجة تخارج أموال ساخنة بنحو 5 مليار دولار، وبالتالي
ظهر تأثيرها على قيمة الجنيه مرة أخرى بالانخفاض لنحو (49.50) أمام الدولار".
وخلص الخبير
الاقتصادي للقول إن "أسوأ ما قام به صانع السياسة الاقتصادية بمصر، التحرير
الكامل لحركة حسابات رأس المال، والذي أكد ذلك عندما هربت التدفقات المالية حيث
كانت تمثل الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة في الأسواق المالية 80 بالمئة من
إجمالي تلك التدفقات، إلى انكشاف الاقتصاد الوطني بصورة مباشرة ودراماتيكية على
العوامل الخارجية والاهتزازات المالية الداخلية".
ولفت إلى أن
"الذي زاد الوضع سوءا هو استخدام تلك الاستثمارات في تغطية العجز في الحساب
الجاري (يسجّل صافي الصادرات والواردات والتحويلات الرأسمالية) ورغم ذلك العجز
استمر ليصبح تراكميا مزمنا، ما أدى لزيادة الدين العام بالعملات الأجنبية ليتعدى
50 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي، رغم ما يقال من قبل المسؤولين إن الدين في
الحدود الآمنة نتيجة أن أرباح الميزانية ممولة بتمويل تضخمي".
وشدد على أن
"تحرير حسابات رأس المال دون توافر شروط التحرير خارجيا وداخليا ضرره أكثر
بكثير من نفعه ليصب في النهاية في مصلحة المصارف والبنوك الدولية والمضاربين على
العملات وهذا ما تجده حاضرا في الاقتصاد المصري الآن، وأفقد العملة الوطنية 470
بالمئة من قيمتها، وبالتالي أفقد مصر لكثير من أصولها العامة والخاصة تحت ما يسمى
البيع والاستحواذ منذ 2016".
وختم حديثه
قائلا: "لينعكس ذلك بارتفاع مؤشر عدم الثقة في الاقتصاد الوطني وما له من
أثار سلبية على الاستثمار الحقيقي والمباشر بالهروب وعدم الاقبال، وبالتالي ارتفاع
فجوة الموارد الأجنبية، مما يجعل الدولة تلجأ إلى القروض من الخارج لسد تلك
الفجوة، لتتحول نتيجة الاعتماد عليها إلى قروض تضخمية، وتلك أسوأ درجات الديون أي
الاقتراض من جديد لسد القروض القديمة".
"السيسي وسعر الصرف"
ومع بداية عهد
السيسي، انتقل سعر صرف الدولار مقابل الجنيه رسميا، من نحو 6.8 جنيه عام 2013،
إلى 6.9 جنيهات في 2014، ليصل في 2015 و2016، إلى نحو 8.8 جنيهات رسميا، وحوالي 22
جنيها في السوق الموازي.
ليأتي توجه
حكومة السيسي، نحو الاقتراض من صندوق النقد الدولي، في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016،
بقيمة 12 مليار دولار، ليكون الضربة القاضية للجنيه، حيث جرى تحرير سعر صرفه لأول
مرة في عهده، ليتراجع رسميا إلى 17 جنيها مقابل الدولار.
في آذار/ مارس
2022، وإثر قرار تعويم جديد، واقتراض من صندوق النقد الدولي تراجعت قيمة الجنيه من
نحو 16 جنيها إلى 18.9 جنيه، لتتواصل عمليات تحريك سعر صرف الجنيه بالنصف الثاني
من 2022، ليبلغ سعر صرف الدولار 31 جنيها، وذلك مع توقيع مصر اتفاقا مع صندوق
النقد الدولي في كانون الأول/ ديسمبر 2022، بقيمة 3 مليارات دولار.
لكنه في المقابل
ازدهرت السوق السوداء بشكل تاريخي، حيث تصاعدت أسعار الصرف إلى 40 ثم 50 ثم 60
وصولا إلى 70 جنيها حتى منتصف شباط/ فبراير الماضي، ليعيد قرار بتحريك سعر الصرف
رسميا من 31 جنيها إلى نحو 50 جنيها في آذار/ مارس الماضي، انضباط السوق الموازية
والرسمية، ليتحرك مجددا وبوتيرة سريعة رسميا في الأيام الماضية.