* هناك مفارقة في حروب هذا الزمن: أنها
الأكثر علنية وانكشافا وتداولا، وتجري تحت تغطية إعلامية تبلغ حدود الإسفاف في
التصاقها بالحدث وهوسها بالتفاصيل وتتبع الشوارد. تلفزات ومنصات وجموع صحفية من
إعلاميين صار عدّهم تحديا إحصائيا، ووسط هؤلاء كتّاب ومحللون من كل اتجاه وبزخم
وازدحام لا شبيه له. حتى هذا المكتوب هنا لا يخرج عن هذا الإطار. وفوق هؤلاء
وهؤلاء، لدينا اليوم بدعة جديدة (وعظيمة) تُدعى المصادر المفتوحة، وهي تشمل مسحا
مصورا بالأقمار الصناعية وسجلات لحظية لحركة الطائرات والسفن ومعلومات من كل حدب
وصوب، وأكثرها متاح للجميع وبالمجان أيضا.
* في ذات الوقت، هذه الحروب هي الأكثر غموضا
والتباسا، ليس لأن فكرة السرية طرأت فجأة على فلسفة القتال، ولا لأن أدوات التضليل
والتشفير -على صعيد تقني- وصلت ذروة غير مسبوقة. الواقع أن كثيرا من الغموض ينبع
تحديدا من علنيتها؛ من فرط الإعلان المدَّعَى وتزاحم الدعاية بالحقيقة، وانفتاح
المدى والأثير كي يُسهم الجميع بوصف ما يجري واستبصار الآتي وتفكيك ما فات، وما
يبدو غنى في البداية، يتكشف لاحقا عن فوضى عارمة وتشتتٍ للمعنى.
* بين حد العلنية وحدّ الغموض تجد آراء كثيرة
في تقييم عملية "يوم الأربعين" التي رد عبرها
حزب الله على
اغتيال
القيادي الكبير فؤاد شُكر (السيد محسن). لا أتحدث عن التشهير المتنكر في هيئة
التحليل (وهو الصنف الأعمّ)، ولا عمّن يعيد تأويل الواقع خدمة لتمترس ثابت وموقف
لا يتغير، أتحدث عن المحاولة الصادقة في فهم ما يجري. ومن الواضح أن صدق النية
وتطابق المعطيات لا تضمن تشابه التقييم، فالاستنتاج يتفاوت كثيرا بين قراءة وأخرى.
* 300 صاروخ متزامن ضد قواعد
إسرائيل
الشمالية، تواكبها أسراب من طائرات مفخخة تشق طريقها صوب أهم مركز استخباري بعمق
الكيان، ويسبق هذا كله هجوم استباقي إسرائيلي بمائة طائرة لم تتمكن -رغم عاصفتها
النارية- من كبح الهجوم. نحن أمة يرتبط فيها مسمى "الضربة الاستباقية"
بمشهد إبادة قوة مصر الجوية صبيحة الخامس من حزيران/ يونيو 1967؛ العملية التي
سمّاها الصهاينة في وقتها "عملية مُوكد" واستَخدموا فيها قرابة 200
طائرة هجومية، وانتهت بالفاجعة التي يعرفها الجميع والتي نعيش آثارها المدمرة حتى
اليوم. عندما تنتبه للأمر، يصعب عليك أن تتجنب المقارنة. 100 طائرة إسرائيلية
شاركت في الضربة الاستباقية صبيحة الخامس والعشرين من آب/ أغسطس ضد حزب الله. ساحة
المواجهة أصغر بكثير هذه المرة، ومقدّرات تجسس العدو تفوق أشواطا ما كان متاحا له
في حرب حزيران، ورغم ذلك فالهجوم الإسرائيلي هذه المرة لم يفلح بمثل ما كان يفلح
في الأيام الخوالي. والسؤال هنا ينطق عن نفسه دون طلب: أين استباقيات إسرائيل
اليوم من استباقياتها الكاسحة القديمة؟
كيفما قلّبت التعقيد الذي يرافق هذه الحرب وبحثت عن أصله.. كيفما نقّبت عن جذر التعدد في قراءة المواجهة ومنبع التباين في تقييم أحداثها، ستجد نفسك غالبا تعود لذات المكان: فارق القوة الهائل مع العدو
* عندما يغدو مشهد عسكري بهذه الأبعاد محل
أخذ وردّ وتباين في التقييم، فالمؤكد الوحيد هو أن مسار
المقاومة ضد إسرائيل قطع
شوطا طويلا منذ نشأته. صخب التباينات لا يحجب هذا المؤكد بل يزيده وضوحا؛ لأنه
يُظهر أيَّ سقف من التوقعات صار مرتبطا بالقوى المناهضة لإسرائيل وأيَّ قوة صارت
تُعوَّل عليها. لكن طرحا كهذا -سواء قبِله المرء أم رفضه- لا يحلّ السؤال الأول:
لماذا يأخذ ردّ الحزب هذا الطيف من الرؤى والأحكام عند تقييمه؟
* هناك ملاحظة أولى تستحق الانتباه وإن لم
تكن جوهرية بالضرورة، وهي دور الجغرافيا في تفاوت القراءات. تخمين الانتساب
المناطقي من الطرح الفكري أمر ممكن جدا في أيام كهذه (وربما حتى من قبلها). إذا
جَمَعت 10 نصوص تحليلية عن "يوم الأربعين" لكتّاب من فلسطين ولبنان
يتشابهون في توجههم السياسي، ثم طَمَست أسماء كتّابها فإن استنتاج هويتهم من
التحليل نفسه لن يكون صعبا على الأغلب. هذه تجربة ذهنية لا تبدو نتيجتُها مريحة
تماما، خصوصا لمَن يُجلّ التحليل الموضوعي ويؤمن بإمكانيته. صحيح أن وطأة المكان
على تفكير البشر مسألة بَدَهية ولا تخص حدثا دون سواه، لكن التنبه لها يضيء جانبا
من السؤال الذي يشغلنا هنا. وعموما، ليس الأمر سيئا بالضرورة، فالجغرافيا أكثر من
مجرد صخور وجرود وخرائط، هناك حمولة فكرية للمكان تطبع وعي ساكنه وتمنحه جزءا من
عُدّته لفهم العالم. ليس أي من هذا محاولة لفلسفة الموضوع، بل على العكس: هذا
تذكير باعتبار أوّلي جدا -ومادي جدا- في فهم التباين وتعدد القراءات.
* تبقى حكاية
الجغرافيا جزءا من المشهد، الجزء الأكبر يتعلق بشيء آخر. كيفما قلّبت التعقيد الذي
يرافق هذه الحرب وبحثت عن أصله.. كيفما نقّبت عن جذر التعدد في قراءة المواجهة
ومنبع التباين في تقييم أحداثها، ستجد نفسك غالبا تعود لذات المكان: فارق القوة
الهائل مع العدو. هذا ليس ضلعا من أضلاع المسألة، هذا بنية المسألة وهيكلها. أكثر
الاختلافات تعود في ركائزها وأساساتها لفارق القوة هذا، ولأن الفارق ليس فارقا
عاديا، فما يولّده من رؤى وفهم واجتهادات محكوم بأن يكون واسعا في تبايناته،
وأحيانا شديدا في توتراته.
* في سياق حروب طويلة كهذه، يأخذ فارق القوة
سمة وبائية، فتجده منتشرا في ثنايا المعركة ليصبح فارقا في كل شيء؛ في أسلوب
القتال ونوع السلاح وسُلّم التصعيد وأدبيات المواجهة وتقييم الردود وحتى في تعريف
النصر والهزيمة. لا يبقى للتوازي موضعٌ ولا معنى وسط كل هذا. في الحروب الطبيعية
(وما أبشع هذا التعبير) لا تحتاج أكثر من ميزان بكفّتين حتى تقيس ما يجري وتحكم
على سير المعارك؛
لو كان الأمر يخص أطرافا متكافئة، فالردّ على اغتيال قائد كبير لا يحتاج خيالا كبيرا: الاغتيال بالاغتيال، لكن ماذا لو أن فارق القوة لا يسمح بتناظر أنيق كهذا، عليك حينها أن تجد مكافئا موضوعيا لقائدك الكبير من داخل ممكنك العسكري. ينفتح الأفق حينها لاحتمالات كثيرة قاسمها المشترك أن تقييمها ليس ممكنا بالمقارنة العينية المباشرة والمقابلة بين الشيء ونظيره
الحُكم مضبوطٌ من داخل المواجهة بمرآة تضعها بين الطرفين، لكنّ
حربا ضد غول استعماري كإسرائيل لا تصلح فيها الموازين ولا المرايا، وهناك غموض
مزمن ومحتوم في قراءة أحداثها لأن القياس المباشر لا يعود ممكنا.
* اغتيال القيادي فؤاد شُكر (والرد عليه)
يحكي الكثير في قصة التوازي وغيابه. لو كان الأمر يخص أطرافا متكافئة، فالردّ على
اغتيال قائد كبير لا يحتاج خيالا كبيرا: الاغتيال بالاغتيال، لكن ماذا لو أن فارق
القوة لا يسمح بتناظر أنيق كهذا، عليك حينها أن تجد مكافئا موضوعيا لقائدك الكبير
من داخل ممكنك العسكري. ينفتح الأفق حينها لاحتمالات كثيرة قاسمها المشترك أن
تقييمها ليس ممكنا بالمقارنة العينية المباشرة والمقابلة بين الشيء ونظيره. ليس
للفعل هنا رد فعل "مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه"، أمام
إسرائيل تحتاج فيزياء من نوع آخر، ليس فيها تناظر بسيط تأنس به النفوس؛ فيزياء لم
تستقر قواعدُها حتى اليوم، ومختبرها ساحة حرب مفتوحة منذ عقود وطريقها معبّد
بالضحايا ولا إجماع حول سبيلها الأجدى حتى الساعة.
* إن من يكتب من موقع القناعة بخط المقاومة،
تحليلا ومداورة للأفكار، يخوض تحديا عسيرا. الكتابة هنا محاولة لعقلنة المواجهة
بين الدم والسيف، وسعيٌ لرسم فضاءٍ مفهومٍ لهذه المنازلة، المختلة في ميزان قوتها
ومقدّراتها. الكلام الوجداني في حتمية انتصار العين على المخرز ليس صعبا، أدبياتنا
في هذا المجال غنية جدا وعمرُها بالقرون، الصعب الحقيقي هو عقلنة معركة العين
واستبصار أفق ممكن لها في مواجهة المخرز. ليس الأمر مستحيلا، لكنه سيأتي حاملا معه
اجتهادات شتى وتباينات لا مناص منها، وهي حمولة ينبغي التصالح معها -بل واحتضانها
ما أمكن- لأنها من طبيعة المعركة وظرفِها القائم وقدرنا المكتوب.