*
أفكر أحيانا في شكل المنحنى البياني الذي يمكن رسمه للأيديولوجيا في المنطقة
العربية: لصعودها وأفول نجمها بمرور الزمن. كيف لك أن ترسم منحنى كهذا؟ لا أقصد
شيئا معقدا على الإطلاق، أقصد رسما بيانيا كلاسيكيا من النوع الذي يتعرف عليه
المرء أواخر المرحلة الابتدائية: محور عمودي يمثل حضور الفكر العقائدي بين
الجماهير، ومحور أفقي يحاكي الزمن (منذ خروج الأتراك أوائل القرن الماضي، وحتى هذه
اللحظة). سيكون رسما مفيدا يختصر تغيرات هذه القوة ويكثّفها، خصوصا لمن يحبون
"رسم" المفاهيم، ولا يفهمون الظواهر قبل أن يروها محشورة بين محورين على
ورقة بيانية.
* لن تكون النتيجة محل اختلاف كبير لمن
يحاولون تخيلها، فالأرجح أن المنحنى المنشود سيكون شكلا مقعرا، عاليا على جنبيه
وغائرا في الوسط. أي إنه يعبّر عن بداية قوية للفكر العقائدي، يتلوها ضعف وانحسار،
ثم عودة -بعد ذلك- للقوة الأولى.
آلاف الأحداث ومئات القضايا وعشرات العقود تنطوي
الآن في قوس بسيط ورسم معبّر. بداية المنحنى تحاكي زمن المجد العقائدي والأفكار
المؤدلجة الكبرى، وتنافس الأحزاب الشهيرة بوقتها (بنكهة قومية-اشتراكية غالبة)، ثم
تعقب ذلك سنين الخيبات الحادّة، وانهيار المشاريع الكبرى (النكسة وكامب ديفيد
والاضمحلال السوفييتي ثم غزو العراق وتدميره). لكن القعر الأقصى كان حتما في
الربيع العربي، ليس فقط لفشل هذا الحدث والعدمية السياسية التي ولّدها عند كثيرين
بتعثّره، بل بسبب ما رافقه من تنكيل نظري في الفكر العقائدي، وتعميم أدبيات التحول
الديمقراطي والليبرالية السياسية (حتى بين إسلاميين كثر).
لقد عاد الفتى الأيديولوجي العاقّ بعد أن تاب و"تمشيخ"، ونفض عن نفسه غبارا كثيرا. ليس القصد عودة حركة بعينها أو تنظيم دون سواه، وإنما عودة الإيمان الواسع بالفكرة العقائدية وقدرتها على التغيير. الأمر ليس ميلادا معجزا من الفراغ، ولا انبثاقا بدأ ببيان عسكري للقائد العام، أعلن فيه انطلاق طوفان الأقصى. العقائدية الإسلامية (أو أي مسمى آخر لهذه الظاهرة)، كانت اللاعب الأثبت -وإن لم تكن الأقوى- في الساحة العربية.
* لكن لعل أهم ما في المنحنى هو آخِره، الذي
يمكن تأريخه بالسابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، حين انعكست الآية، وعادت أسهم
الأيديولوجيا لتصعد من جديد. ليس الأمر غريبا، فقد ثبت يومها -بالبرهان العسكري
القاطع-، أن الإسلام الأيديولوجي قادر على اجتراح اختراقات هائلة، عسكريا وسياسيا
على السواء.
* لقد عاد الفتى الأيديولوجي العاقّ بعد أن
تاب و"تمشيخ"، ونفض عن نفسه غبارا كثيرا. ليس القصد عودة حركة بعينها أو
تنظيم دون سواه، وإنما عودة
الإيمان الواسع بالفكرة العقائدية وقدرتها على
التغيير. الأمر ليس ميلادا معجزا من الفراغ، ولا انبثاقا بدأ ببيان عسكري للقائد
العام، أعلن فيه انطلاق طوفان الأقصى. العقائدية الإسلامية (أو أي مسمى آخر لهذه
الظاهرة)، كانت اللاعب الأثبت -وإن لم تكن الأقوى- في الساحة العربية منذ نشوء هذه
الساحة، ولولا حضورها ولولا نَفَسها الطويل، لما كانت هذه المعركة ممكنة من الأساس.
ما صنعه الطوفان هو تصعيد كمّي هائل لقوة كانت تعتمل دوما على الأرض.
* كيفما قلّبت هذا الموضوع، فإن
"
إسرائيل" في قلبه. أحد المهتمين الأمريكيين بالشأن العقائدي والفكر
السياسي (يدعى إريك هوفر)، كتب مرة أن الأيديولوجيا لا تحتاج إلها تعبده؛ بقدر ما
تحتاج شيطانا تحشد الناس لحربه. من زاوية كهذه، فإن "الشيطان" الذي
كانته الدولة اليهودية فريد من نوعه وجليل في قيمته. 74 عاما و"إسرائيل"
ترسم -مباشرة وبالمواربة- ملامح النظام الرسمي العربي، وتفرض سقفا علميا وصناعيا
على محيطها باستخدام ذراعها العسكرية الطويلة. ورغم هذا كله، بل ربما تحديدا
بسببه، فإن "إسرائيل" غربلت -من حيث لم تقصد- كل من تجرؤوا على
مواجهتها، سياسيا وعسكريا وفكريا. أمام قوتها العسكرية الماحقة ونفوذها الدولي
الهائل، تمايزت صفوف المتقدّمين لقتالها، وتطورت مقارباتهم في محاولة مستمرة لردم
فارق القوة أمام كيان، هو الغرب الاستعماري بأكمله مركّزا في دولة واحدة. وها نحن
اليوم أمام ما وصلت إليه عملية الغربلة هذه، حيث حركات المقاومة الإسلامية تتصدر
الصفوف.
* يخطر ببالي تصوير متفلّت لكنه حريٌّ بأن
يقال؛ إن ما جرى في مواجهة "إسرائيل" منذ القرن الماضي وحتى اليوم، هو
تطور دارويني لصراع العقائد -واللاعقائد- في المنطقة العربية؛ تطورٌ أفضى بالنهاية
لانتخاب تاريخي وطبيعي لأقدر الأفكار على الصمود والاستمرار: الفكرة الإسلامية.
أدرك طبعا أن قراءة الإسلام داروينيا تحمل قدرا من الرعونة، وأنها ستكون محط
استهجان عند إسلاميين ودراوينيين على السواء، لكن الفكرة الكامنة في كل هذا تبقى
جديرة بالاعتبار.
* ما يدركه كثيرون اليوم، هو أن مواجهة عربية
جادّة لهذا الوحش العسكري، يستلزم مزيجا صعبا من الإيمان الغيبي المطلق والتنظيم
"الدنيوي" الصارم الذي لا يحتمل الخطأ. قيمة العنصر الغيبي تتعلق بشيء
دنيوي بحت: أنه يتجاوز السد الذي ترسمه العقلانية في مواجهة خصم كهذا، وتسمح
بالقفز فوق فارقِ قوة، يستحيل عبوره بحسبة الأرقام والوقائع. ما منشأ الشلل
والموات السياسي قبل طوفان الأقصى، إلا هذا الركوع أمام الاستحالة العقلانية
لمواجهة إسرائيل؟
* على هامش المشهد العام، تجدّ مفارقات تفيض
بالرمز وتستحق التأمل. وعموما، فأزمنة التحولات الكبرى، هي جنة المفارقات ونبعٌ
دفّاقٌ لها. قبل أشهر، دعا المفكر الأمريكي نورمان فنكلشتاين أن يُمنح
"الحوثيون" جائزة نوبل للسلام، والدافع طبعا هو الحصار البحري الذي فرضه
أنصار الله دعما لقطاع غزة. من كان يتخيل شيئا كهذا؟ أن يدعو باحث أمريكي يهودي
مرموق لمنح أرفع جائزة سلام دولية، لرجل من صعدة يقود حركة شعارُها: "الموت
لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام"؟ أمضى
الليبراليون العرب ردحا طويلا وهم يهندسون خطابهم على مقاس الحساسيات الغربية،
وحاضروا فينا طويلا حول فشلنا العربي في مخاطبة الغرب باللغة التي يفهمها (رغم
أنهم أكثر من تسيّد صياغة هذا الخطاب). وفجأة، ينكشف العكس تماما؛ أن محاولة
استمالة الآخر لا تستميل الآخر، وأن تسوّل ودّ الغربيين لا يأتي بودّهم. ها هُم من
يهتفون بالموت لأمريكا ولا يأبهون كثيرا بالحساسيات ويتحركون بوحي إيمانهم
العقَدي، ها هُم يَنفذون في الوعي الأمريكي مسافة لم يقدر عليها ليبرالي من قبلهم.
هذه صنائع الأيديولوجيا و"خطابها المتخشب".
لا يبدو أن التاريخانية بالبؤس الذي وصفه السيد بوبر، بل لربما يكون العكس تماما ما نشهده الآن، حيث سادة المشهد هم المؤدلجون العقائديون، المؤمنون بالسُّنَّة التاريخية الثابتة، والقانون الراسخ الذي تدور عقارب الزمان على وقعه.
* قبل قيام دولة الكيان بأربع سنوات، صدر
كتاب بعنوان "بؤس التاريخانية"، كتبه عدو الفكر المؤدلج، كارل بوبر.
الكتاب لا يهاجم الأيديولوجيا، لكنّه يهاجم فكرة لصيقة بها: فكرة السنن الكونية
المتواترة التي تحكم
التاريخ، وفكرة القوانين الراسخة التي تدور عقارب الأحداث على
وقعها. هذه هي التاريخانية التي لا ينقدها كارل بوبر وحسب، بل يكاد يبدي تقززا
وجدانيا منها. هذا كتاب ليبرالي بامتياز، لا قياسا على هوى كاتبه وانحيازاته،
وإنما قياسا على مزاج الأفكار الواردة فيه. مزاج كهذا، يصحّ أن يسمّى بالمزاج
"الذرّي"، فهو يريد تقسيم القضايا لوحدات صغرى، ليدرس كل وِحدة على
انفراد، ولذلك فهو يتحسس من أي نظرة شاملة للعالم والتاريخ. ماذا يحصل عندما يتسرب
تفكير كهذا لمنطقتنا ووعينا، ويتجاوز إطاره الأكاديمي ليصبح مزاجا سياسيا عاما؟
النتيجة واضحة؛ لأنها ماثلة أمامنا منذ سنين: تذرير المشهد العربي، ورفض وجود قضية
مركزية، ورفع شعار "بلدي أولا"، والتأكيد المتصاعد للفردانية وأهمية
تحقيق الذات، والتسفيه المستمر بفكرة التضحية في سبيل أفكار كبرى تتجاوز الإنسان، تحت ذريعة القول بأنه "ما من قضية أهم من الإنسان". اليوم، بعد سبع عقود
على صدور هذا الكتاب (ونشوء هذا الكيان)، لا يبدو أن التاريخانية بالبؤس الذي وصفه
السيد بوبر، بل لربما يكون العكس تماما ما نشهده الآن، حيث سادة المشهد هم
المؤدلجون العقائديون، المؤمنون بالسُّنَّة التاريخية الثابتة، والقانون الراسخ
الذي تدور عقارب الزمان على وقعه.