* عام 2018، صدر كتاب رصين وجدير بالقراءة
للباحث طارق بقعوني تحت عنوان "احتواء
حماس: صعود وإخضاع المقاومة الفلسطينية". هذا اجتهادي على الأقل في
ترجمة العنوان، فالعمل صدر بالإنكليزية لا العربية. "احتواء حماس" يحكي القصة الطويلة لحركة المقاومة الإسلامية منذ
بدايتها، وصولا لما يسميه المؤلف "احتواءَها": أي محاصرتها في قطاع ضيق
وتوريطها في مستلزمات الحكم المدني، واضطرارها للتراجع عن صلابتها العقائدية
ورؤيتها الجهادية المؤسِّسة. استغرق الأمر خمس سنوات حتى تُصدِر حركة حماس ردها
على استنتاجات هذا العمل، لا بهيئة بيان ولا منشور، وإنما بهيئة اجتياح عسكري من
خارج مألوف التاريخ؛ اجتياحٍ لم يتخيله كثيرون -قبل حصوله- ممكنا حتى على مستوى
فيزيائي.
* أشياء كثيرة غمرها "الطوفان" منذ
ذلك الوقت، حتى رفوف المكتبات بلغها الماء، ومئات الأبحاث والمنشورات لم تسلم هي
الأخرى. تنظر في بعض ما كان مكتوبا قبل ذلك التاريخ (من كتابات بحثية في الوضع
الفلسطيني) فلا يبدو للمكتوب صلة مفهومة بالواقع اليوم؛ ليس هذا انتقاصا من
الكِتاب المذكور، على العكس، فهو مدخل مفيد للتفكير بالدور العقائدي في هوية حماس
وكيف يمكن لبُعدٍ كهذا أن يصعّب على دارسيها دراستهم.
الذي ثبت لاحقا -كما ثبت سابقا بصورة أو أخرى- أن حماس لا تنتمي لعقلانية أكاديمية في تفكيرها وسلوكها، وأن بنيتها العقائدية كانت أشد تعقيدا (أو لربما حتى أشد بساطة) مما يستطيع المجهر البحثي الشائع والحساب العقلاني المباشر أن يدركه
* من المفارقات أن "احتواء حماس"
كان قيد الترجمة عندما بدأت هذه الحرب، وقد أعلن مركز الدراسات الفلسطينية قرب
صدور الترجمة قبل اندلاع المعارك ببضعة أسابيع. لليوم، لا يبدو أن هذه الترجمة قد
صدرت، ولا أدري إن كان الناشر ماضيا بنيّته في نشرها، أو إن كان مستعدا أن يطبعها
بذات عنوانها الأول. كيف لك أن تطوي السابع من تشرين الأول/ أكتوبر (أهم حدث عسكري
لربما في تاريخ الثورة الفلسطينية منذ النكبة) في رؤية تحليلية عنوانها
"احتواء حماس"؟
* لم يكن استنتاج الكتاب المذكور منافيا
للمعطيات التي جمعها الباحث (بجهد مقدّر وكبير). التفكير العقلاني سيشير بالحد
الأدنى إلى ذات النتيجة التي قدّمها المؤلف، بل أكثر من ذلك. إن تقييم الكيان
العبري، بكامل منظومته الأمنية -التي هي مضرب المثل في جمع المعلومات ودراسة
المخاطر- خلُصَ تماما لذات الأمر: أن حماس باتت أسيرة ظرفها، وأن حسابات الأرقام
والمعطيات تعني أنها ليست في وارد الفعل والمبادرة. لكنّ الذي ثبت لاحقا -كما ثبت
سابقا بصورة أو أخرى- أن حماس لا تنتمي لعقلانية أكاديمية في تفكيرها وسلوكها، وأن
بنيتها العقائدية كانت أشد تعقيدا (أو لربما حتى أشد بساطة) مما يستطيع المجهر
البحثي الشائع والحساب العقلاني المباشر أن يدركه. ويَصعب أمام وضعٍ كهذا أن تغالب
سؤالا ملغوما يعِنّ بالذهن: أي نفعٍ للعمل البحثي -بمسطرته الأكاديمية المستقرة
وصندوق عدّته التحليلي- مع حركات عقائدية كهذه؟ وهل في خامة هذه الحركات وجِبلّتها
الفكرية ما يجعل دراستها أمرا مستعصيا على الأدوات التحليلية المعتادة؟
* في إحدى
المراجعات التي نشرتها مجلة "سياسات عربية" عن كتاب "احتواء حماس"،
يقول كُتّاب المراجعة: "تمتاز مساهمة المؤلف بتحررها من الحمولات الأيديولوجية،
بل إنه كان محايدا إلى حدٍّ بعيد". وبالمعاني الشائعة للمفردات المذكورة،
فالتوصيف في مكانه تماما. لكنّ التوصيف -من حيث كان يقصد الإشادة- يدلّنا على
واحدة من إشكاليات البحث "العلمي" عندما يتعلق الأمر بظاهرة كظاهرة
حماس:
ما أكثر ما كُتب في الماضي عن حركة حماس بوصفها أسيرة أيديولوجيا ضيقة بزمن لم يعد يحتمل العقائدية الصلبة. وبمعنى من المعاني، فالسابع من أكتوبر كان ثأرَ هذه الأيديولوجيا لفكرتها وإدارة لأصبع الاتهام على أصحابه. لقد نجح العبور المفاجئ في السابع من أكتوبر لأن مسطرة الحساب والتحليل المباشر لم تكن قادرة أن تفشي سرّه
أن التنزّه عن "الحمولة الأيديولوجية" يمكن أن يُعمي الناظر عمّا
ينظر إليه، وأن محاولة تثبيت "الحياد" بشكله المدرسي الشائع (أي التمترس
الدائم في المنتصف) لا يقودك لمكان باهتٍ معرفيا وحسب، بل وقاصرٍ أحيانا في إدراك
الواقع واستشراف ما هو آت.
* ما سبق ليس مراجعة لكتاب ولا تربصا
باستنتاجٍ بحثي كسَرَه الواقع أو تجاوزته الأحداث. ما مِن باحث عن حقيقةٍ لم يعش
كسرا كهذا في حياته، هذا من جوهر الفعل البحثي وضريبةٌ حتمية فيه، لكنّ اصطداما
مثل هذا الذي نتحدث عنه بين جهد نظري (في هيئة كتاب) وواقع عملي (في هيئة حدث
عسكري/سياسي) هو فرصة للتأمل في تفكيرنا نفسه. لقد تحولت كلمة "
أيديولوجيا"
-منذ زمن طويل- لما يشبه الشتيمة، وصار أغلب استخدامها مقصودا للدلالة على التخشب
في الرؤية وانقطاع الصلة بالواقع والغرق بالأوهام. وما أكثر ما كُتب في الماضي عن
حركة حماس بوصفها أسيرة أيديولوجيا ضيقة بزمن لم يعد يحتمل العقائدية الصلبة.
وبمعنى من المعاني، فالسابع من أكتوبر كان ثأرَ هذه الأيديولوجيا لفكرتها وإدارة
لأصبع الاتهام على أصحابه. لقد نجح العبور المفاجئ في السابع من أكتوبر لأن مسطرة
الحساب والتحليل المباشر لم تكن قادرة أن تفشي سرّه، وما حصل يومها لم يكن اقتحاما
لأسوار "إسرائيل" وحسب، بل اقتحاما لأسوار أكاديمية ظن أصحابُها رؤيتَهم
أوسع من رؤية المؤدلَجين وأهل العقائد.