عندما اندلعت مظاهرات الحراك الشعبي في
الجزائر في 22 شباط / فبراير 2019 والآمال التي حملها بتغيير يليق بالجزائر، توقفت
ظاهرة
الهجرة السرية أو غير النظامية لأوروبا بعبور البحر المتوسط، عبر قوارب
الموت، بكل مخاطر ذلك. الظاهرة تسمى جزائريا وحتى مغاربيا، بـ "الحرڨة"
(ڨ تنطق مثل الجيم المصرية)، اشتقاقا من حرق في إشارة إلى حرق وثائق إثبات الهوية
للمهاجر غير النظامي لما يصل إلى
أوروبا، لكي لا تُعرف هويته، ويتم ترحيله لبلده
الأصلي.
لكن ظاهرة "الحرڨة" سرعان ما عادت
للاشتعال مجددا مع قمع الحراك الشعبي السلمي، الذي قدم صورة مغايرة عن الجزائر
لدرجة أن صحيفة "واشنطن بوست" وصفته بعلامة فارقة في تاريخ الثورات
الشعبية السلمية في العالم. فرض العسكر بقيادة رئيس أركان الجيش الراحل الفريق أول
أحمد قايد صالح استمرار نفس النظام بانتخابات رئاسية في 12/12/ 2019 شهدت مقاطعة
شعبية كبيرة، وتم فيها فرض فوز عبد المجيد تبون، أحد وجوه النظام بتدخل من أحمد
قايد صالح (الذي سيرحل بعدها بأيام في 23/ 12/ 2019) بعدما كانت هناك محاولة
لإنجاح منافسه عز الدين ميهوبي من قبل قائد المخابرات الداخلية حينها الجنرال
واسيني بوعزة، الذي انتهى لاحقا في السجن بسبب ذلك وتم تنزيل رتبته إلى جندي.
تمثل ظاهرة "الحرڨة" مؤشرا فعليا على حالة الجزائر، وإذا كان وضعها ازداد استفحالا، كحالة المرض الذي زادت أعراضه، مثل أعراض أخرى، وهو مرض منظومة حكم تواصل سياسة الإنكار والهروب إلى الأمام.
استمرت ظاهرة "الحرڨة" واستفحلت
في الولاية الرئاسية الأولى للرئيس تبون وتوسعت لتشمل عائلات وأطفال ونساء، بعد ما
كانت مقتصرة على الشباب فقط.
واللافت أن تبون كان اقترح لمعالجة الظاهرة
أن يتم إرسال الشباب الجزائري لأسبوعين لأوروبا ليرى صعوبة الأوضاع هناك، وبالتالي
يعودوا لبلدهم، وقد أثار التصريح ومازال التعليقات!
وبالتزامن مع الانتخابات الرئاسية في السابع
من أيلول / سبتمبر الحالي، التي شابها ما شابها من تضخيم في الأرقام بعد مقاطعة
شعبية أكبر من 2019، وأُعلن فوز تبون بها بولاية ثانية، عادت ظاهرة "الحرڨة"
وبشكل كبير وتم تسجيل في أيام الحملة الانتخابية، ويوم الاقتراع، وصول مئات
القوارب القادمة من الجزائر نحو سواحل إسبانيا محملة بمئات من
"الحراقة"، غالبيتهم من الشباب، ولكن بينهم أيضا عائلات كاملة، ونساء
وحتى أطفال، ضمنهم رضع.
وكان تبون عندما أعلن أنه ترشحه لعهدة
رئاسية ثانية، قال إن ذلك جاء استجابة لدعوة الشباب، وتحدث عن رضا الشعب من
الإنجازات التي حققها.
وقد أكد تقرير حديث للأمم المتحدة أن 10
آلاف و639 شخصاً وصلوا إلى إسبانيا عام 2023 على مسار بحري سمته "الطريق
الجزائري"، مبرزاً أن نحو 8 آلاف شخص أخذوا هذا المسار نحو الأراضي
الإسبانية، منذ بداية 2024 إلى شهر أغسطس الماضي.
وهناك أيضا طرق أخرى لـ"الحرقة"
للجزائريين إلى إيطاليا، وهناك أيضا الطريق التركي للوصول إلى أوروبا، وإن تراجع
مؤخرا، وكانت هناك أيضا طريقة التسلل إلى البواخر الراسية في الموانئ الجزائرية،
وحتى عبر التسلل للطائرة مثلما حدث مؤخرا في حالتين، عبر مطاري وهران وقسنطينة.
مجلة الإيكونوميست البريطانية وفي تقرير لها
قبل سنتين عن الظاهرة قالت إن هناك كلمتين في المعجم الجزائري الدارج تلخصان
الحالة المرضية للجزائر: “الحقرة” (مشتقة من التحقير ومعناها الظلم)
و”الحرقة".. الأولى تشمل مجموعة من المشاعر الكئيبة التي تؤثر على الجزائريين:
شعور بالإذلال والقمع وإنكار للكرامة. والثانية ظاهرة الحرقة التي بعدما كانت
توقفت نهائيًا في بداية الحراك والآمال التي حملها، قبل قمعه وقمع وسجن ناشطيه..
لتعود الظاهرة وبهذا الشكل المأساوي مخلفة وراءها فواجع أيضا مع عدد الغرقى
والمفقودين في البحر.
وإذا كانت ظاهرة "الحرقة" ليست
ظاهرة تخص الجزائر فقط، فهي أيضا ظاهرة مغاربية (في جنوب البحر المتوسط)، وخاصة
تونس والمغرب، فإن السؤال الموضوعي الذي يطرح لماذا يفر الجزائريون من بلدهم
الأغنى، الذي من المفترض أنه غني بكل الخيرات والمقدرات والموقع الجغرافي والمساحة،
فهو الأكبر في أفريقيا، وهو من بين الأغنى في القارة والعالم من حيث النفط والغاز
(بشكل خاص)، وغيرها من الخيرات الطبيعية.
وتمثل ظاهرة "الحرڨة" مؤشرا فعليا
على حالة الجزائر، وإذا كان وضعها ازداد استفحالا، كحالة المرض الذي زادت أعراضه،
مثل أعراض أخرى، وهو مرض منظومة حكم تواصل سياسة الإنكار والهروب إلى الأمام.
لا يوجد ما يُشجع على البقاء، نظام شاخ وهرم وأفلس ولم يعد لديه ما يقدّمه سوى خطط أخرى مُفلسة، لازال يسرق من أعمارنا، ويضيف إلى عمره، واقع سياسي رديء محيط وموبوء مع تفشّ للفساد والمحسوبية..سجن واسع اسمه "وطن"، مُسيَّح بالأكاذيب..
قبل سنوات وبالتزامن مع اندلاع مسيرات
الحراك في 2019، أصدر الكاتب الجزائري العربي رمضاني كتابه "أناشيد الملح..
سيرة حراق"، وهو في
رأيي أهم كتاب معبر عن وضع الجزائر في السنوات الأخير،
وهو شهادة موثقة لتجربة الكاتب في "الحرڨة"، التي تعود إلى 2017، عبر
"الطريق التركي".
كتاب مؤلم، ومعبر عن ألم، ولا أخفي أنني
وجدت نفسي أبكي لحال بلادي، وأن أقرأ هذا الكتاب، على ما فيه من واقعي توثيقي،
وشعرية كتابة موغلة في الألم، وإن فيه أيضا ما فيه من كوميديا سوداء لمصائر هؤلاء
الجزائريين، الذي وجدوا أنفسهم يزاحمون هاربين آخرين من بلدانهم التي مزقتها
الحروب.
كتاب العربي رمضاني وبعد 7 سنوات مازال
معبرا.. وكتاب "الحرقة" مازال مفتوحا، بل وبفصول أكثر مآساوية، ووضع
أكثر قتامة، في ما تسمى بـ"جزائر جديدة" لم يعد فيها بالإمكان التعبير
فيها عن رأي حر، أو انتقاد مشروع مقارنة حتى بجزائر بوتفليقة، التي كان يمكن
الكاتب أن يكتب في كتابه وبشكل نافذ مازال معبرا: "عندما حان الوقت، قرّرتُ
مغادرة "الوطن"، أو بمعنى آخر، الهرب منه من وطن النُّور والخديعة
والخيبة. لم يكن القرار اعتباطياً، ولم يكن متسرّعاً أو فجائياً أيضاً، بل جاء
نتيجة لتراكمات عديدة وضياع في اللاجدوى والفراغ وانتظار اللاشيء. بطالةٌ مُقنّنة،
يُعزّزها فساد مستشر، وغياب لأدنى معالم الحياة المحترمة، هكذا تبدو الأوطان في
أعين أبنائها الذين تقابلهم بالتجاهل، مجرّد (قبور مظلمة)".
ويضيف العربي رمضاني وبشكل مازال معبرا
"لا يوجد ما يُشجع على البقاء، نظام شاخ وهرم وأفلس ولم يعد لديه ما يقدّمه
سوى خطط أخرى مُفلسة، لازال يسرق من أعمارنا، ويضيف إلى عمره، واقع سياسي رديء
محيط وموبوء مع تفشّ للفساد والمحسوبية..سجن واسع اسمه "وطن"، مُسيَّح بالأكاذيب".