لا تزال أصداء مبادرة زعيم "الحركة القومية" التركية، دولت
بهتشلي، بشأن إعلان زعيم حزب العمال الكردستاني "بي كي كي" المسجون في
تركيا عبد الله أوجلان حل التنظيم الذي تصنفه أنقرة بأنه "إرهابي" تتردد في الأوساط المحلية لما تحمله من دلائل على توجه جديد في السياسة الداخلية يهدف لتعزيز الجبهة الداخلية في ظل تصاعد التوترات الإقليمية.
وتلخصت مبادرة بهتشلي الذي يعد أحد أهم أركان "تحالف الجمهور" الحاكم الذي يقوده الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان، في قوله أمام كتلة حزبه النيابية "إذا تم رفع العزلة عن الزعيم الإرهابي (أوجلان)، فعليه أن يأتي ويتحدث في اجتماع مجموعة حزب المساواة وديمقراطية الشعوب (DEM) في مجلس الأمة التركي، ويصرخ بأن الإرهاب انتهى تماما وتم إلغاء التنظيم".
ويقبع أوجلان داخل محبسه في سجن بجزيرة "آمرلي" منذ عام 1999 بتهمة "الخيانة والانفصالية" حيث صدر بحقه حكم بالإعدام، إلا أن هذه العقوبة خففت عام 2002 إلى السجن مدى الحياة.
ووفقا لمبادرة بهتشلي، فإنه "في حال أظهر (أوجلان) هذا التصميم، فسيكون الطريق مفتوحا على مصراعيه للاستفادة من حقه في الأمل" بموجب المادة الثالثة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تمنح أي محكوم بالمؤبد حق الخروج من السجن بعد قضاء مدة محددة داخل السجن.
وحظيت المبادرة بدعم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وهو ما يشير إلى وجود تنسيق مسبق بين الحليفين بشأن بدء مرحلة جديدة في السياسة الداخلية، حسب مراقبين.
وقال أردوغان في كلمة له عقب ساعات قليلة من كشف بهتشلي عن مبادرته: "نتوقع أن يدرك الجميع أنه لا مكان للإرهاب وظلاله المظلم في مستقبل تركيا"، مشيرا إلى أن أنقرة تأمل "ألا يتم التضحية بالفرصة التاريخية التي فتحها تحالف الجمهور من أجل حسابات شخصية".
وشدد الرئيس التركي على ضرورة "بناء تركيا خالية من الإرهاب والعنف".
ولفت الصحفي عبد القادر سيلفي، المقرب من الحكومة والمعروف بمرافقته لأردوغان في كثير من جولاته الخارجية، إلى أهمية إعلان زعيم القوميين في تركيا عن المبادرة التي تهدف إلى حل ما يعرف بالقضية الكردية، مشيرا إلى أن بهتشلي الذي بدأ بالفعل في القيام بذلك فتح "فرصة تاريخية، لكن هناك عقبات كبيرة".
وأشار في مقال له نشره في صحيفة "حرييت" التركية، إلى أن أهم ميزة في المبادرة المطروحة هي حصولها على دعم من الحكومة ما يدل على أن الانفتاح على القضية الكردية يأتي ضمن "مشروع دولة".
وفي أول رد من حزب المساواة وديمقراطية الشعوب (DEM) الذي يُتهم بأنه امتداد سياسي لحزب العمال الكردستاني في تركيا، قالت الرئيسة المشاركة تولاي حاتم أوغلو: "إذا أردنا أن تكون هناك بداية، فيجب رفع العزلة (عن أوجلان) على الفور".
وأضافت في كلمة أمام كتلة حزبها البرلمانية: "نحن مستعدون لأخذ زمام المبادرة من أجل سلام مشرف"، بحسب ما أورده موقع "NTV" التركي.
تفاصيل المبادرة
بحسب الصحفية التركية هانده فرات، فإن المبادرة التي طرحها بهتشلي تنص على تسليم جميع المنظمات التي وصفتها بـ"الإرهابية" أسلحتها بما في ذلك "حزب العمال الكردستاني" و"وحدات حماية الشعب" الكردية التي تعد تشكيلا عسكريا ضمن قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، التي تسيطر على مناطق في شمال شرق سوريا.
كما تنص المبادرة على ضرورة تسليم أعضاء "حزب العمال الكردستاني" إلى تركيا من أجل مثولهم أمام القضاء، وفقا لما ذكرته فرات عبر حسابها على منصة "إكس".
وشددت الصحفية التركية على أن زعيم القوميين يبني مبادرته في معظمها على التطورات الإقليمية، وذلك على وقع تحذير أنقرة في أكثر من مناسبة من خطر يحيط بها في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل على لبنان وقطاع غزة.
وقال أردوغان في كلمة له خلال مشاركته باجتماع موسع لحزب "العدالة والتنمية" بالمقر العام للحزب في أنقرة، الثلاثاء، "نعمل على تعزيز جبهتنا الداخلية مع اقتراب النار التي أشعلتها إسرائيل في غزة ولبنان من حدودنا"، حسب وكالة الأناضول.
عوامل دافعة للمسار
يرى الباحث في الشأن التركي محمود علوش، أن مبادرة بهتشلي تعكس في جانب الديناميكيات الجديدة التي طرأت على السياسة التركية الداخلية بعد الانتخابات وعملية تليين السياسة الداخلية، وفي جانب آخر هي خطاب جديد يتبناه التحالف الحاكم تجاه الحالة السياسية الكردية.
ويضيف في حديثه لـ"عربي21"، أن هناك مجموعة من العوامل والدوافع المحركة للخطاب الجديد للتحالف الحاكم تجاه الحالة الكردية، أولها هو عامل مرتبط بالسياسات الداخلية مع تراجع رهان أردوغان على عملية التليين مع حزب الشعب الجمهوري واضطراره إلى فتح قنوات تواصل مع الحزب الكردي".
وأطلق أردوغان بعد أشهر من فوزه بالانتخابات الرئاسية التي أجريت منتصف عام 2023 مبادرة تهدف إلى تليين السياسة الداخلية عبر تخفيف شدة الاستقطاب السياسي بين قطبي السياسة التركية حزب "الشعب الجمهوري" أكبر أحزاب المعارضة، وحزب "العدالة والتنمية" الحاكم.
وبالفعل أسفرت المبادرة عن لقاءات متبادلة غير مسبوقة خلال العقد الأخير بين رئيسي الحزبين الأكثر تأثيرا في المشهد السياسي التركي، إلا أن هذه المساعي تراجعت بشكل متسارع مع تحول زعيم "الشعب الجمهوري" أوزغور أوزيل إلى لهجة حادة في معارضته للحكومة، على وقع انتقادات في معسكر المعارضة لسياسة التليين.
وبحسب علوش، فإن مبادرة زعيم القوميين تأتي أيضا "في ظل حاجة أردوغان إلى دعم أحد أحزاب المعارضة من أجل تمرير التعديلات الدستورية".
ويشير الباحث إلى أن هناك عاملا آخر يتمثل "في نظرة أردوغان إلى نفسه كزعيم استطاع أن ينقل الحالة الكردية من مستوى إلى مستوى مختلف تماما، وبالتالي رغبته في إعادة إنتاج عملية السلام الداخلية".
ويلفت إلى أن "حل المسألة الكردية يرجع بشكل أساسي إلى رغبة أردوغان في تعزيز إرثه كزعيم تركي استطاع أن يخرج هذه القضية من سياق الاضطراب إلى سياق الحل".
ويشدد على أن "هناك دافعا آخر مرتبط بالتطورات الإقليمية والمخاطر المتزايدة التي تجلبها بالنسبة لتركيا"، مشيرا إلى أن "خطاب الانفتاح تجاه الحالة السياسية الكردية في الداخل، يعد جانبا من أدوات التكييف التركية للحد من هذه المخاطر وتحصين الجبهة الداخلية".
و"لا نستطيع أن نقول إن هناك عاملا واحدا محرك للديناميكيات الجديدة في العلاقة في التحالف الحاكم والحالة الكردية سواء المسلحة أو السياسية"، وفقا لعلوش.
عوائق أمام المسار
في ظل الحديث عن أهمية المبادرة على صعيد السياسة الداخلية في تركيا التي شهدت خلال الآونة الأخيرة محاولات للتليين بعد سنوات طويلة من الاستقطاب، فإن هناك عوائق كبيرة أمام هذا المسار الجديد.
ولفت سيلفي إلى أن هذه العوائق تتمثل في قيادة "حزب العمال الكردستاني" التي تتخذ من جبال قنديل شمالي العراق مركزا لها، معتبرا أنها تدين بوجودها "إلى حمل السلاح".
كما تتمثل في الولايات المتحدة التي يرى الصحفي التركي أنها تريد بقاء "حزب العمال الكردستاني" في المنطقة من أجل استخدامه بما يخدم مصالحها في الشرق الأوسط.
وفي السياق ذاته، يرى علوش أن "تركيا اليوم أمام محاولات لخلق مسار جديد قد يؤدي في النهاية إلى وضع مختلف فيما يتعلق بهذه المسألة، لكن الرهان على هذا المسار ينبغي أن يكون واقعيا"، موضحا أنه "في حال كان حزب العمال ضالعا في الهجوم الذي وقع في أنقرة، فإن ذلك يشير إلى العوائق الكبيرة التي تواجه مثل هذا المسار".
والأربعاء، تعرضت شركة صناعات الطيران والفضاء التركية "توساش" (TUSAŞ)، إلى هجوم مسلح استهدف مقرها في العاصمة أنقرة، ما أسفر عن سقوط 4 قتلى وإصابة 14 آخرين بجروح مختلفة.
وأشار وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا في تصريحات صحفية إلى احتمال ضلوع حزب العمل الكردستاني بالهجوم الذي استهدف واحدة من أكبر شركات الصناعات الدفاعية في تركيا، إلا أنه شدد على ضرورة إنهاء عملية تحديد هويات المهاجمين الذين تم تحييدهم في موقع الحادثة.
من جهته، قال وزير الدفاع التركي يشار غولر: "إننا نعطي هؤلاء الأوغاد من تنظيم العمال الكردستاني العقوبة التي يستحقونها في كل مرة، لكنهم لا يتعظون من ذلك أبدا"، مضيفا في تصريحات صحفية: "أكرر ما أقوله دائما، لن نتوقف عن ملاحقتهم حتى القضاء على آخر إرهابي".
وتشن تركيا عمليات عسكرية منتظمة ضد مقاتلي "حزب العمال الكردستاني" في مناطق شمالي سوريا والعراق، ويرى علوش في حديثه لـ"عربي21"، أن "الصراع التركي مع حزب العمال الكردستاني والحالة الكردية المسلحة في سوريا والعراق، هي عوالم متداخلة لا ترجع فقط إلى سياسات محلية".
ويشير إلى أن "حزب العمال الكردستاني يضم تيارات داخله وهناك تأثير لدول متعددة على هذا الحزب مثل إيران والولايات المتحدة"، وبالتالي فإن "كل طرف سيستخدم تأثيره من أجل عرقلة أي سلام في حال رأى أن هذا السلام سيعود عليه بنتائج سلبية"، حسب تعبير الباحث.