الخلافات بين جماعة
غولن وحزب العدالة والتنمية تبلورت كنتيجة للاختلافات في تحديد المصالح الخارجية التركية وقراءتها أساسًا، فمنذ حادثة سفينة "مافي مرمرة"، في أيار/ مايو 2010، بدأ فتح الله غولن يوجِّه انتقادات لاذعة للحكومة التركية، ويحملها المسؤولية كونها سمحت للسفينة بالإبحار من دون أخْذ إذنٍ من الحكومة الإسرائيلية. وفي مفارقة غريبة، حمَّل غولن رئيسَ الحكومة
أردوغان مسؤولية الهجوم الإسرائيلي على السفينة التركية الذي أسفر عن مقتل تسعة من المواطنين الأتراك، وهي إشارة بليغة لرفض غولن لسياسات أردوغان المتعلقة بنقد الممارسات الإسرائيلية وانحيازها للقضايا العربية؛ ويعبر بشدة عن رؤية شديدة التماهي مع السياسات الأمريكية.
داخليا ظهر الخلاف بين غولن وأردوغان مبكرا عندما أسّست حكومة "العدالة والتنمية" محاكم خاصة للنظر في قضيَّة الأرغينيكون، وهي القضية التي اتهمت فيها الحكومة عشرات الضباط من المؤسّسة العسكرية بالتدبير لانقلاب عام 2007، إلا أن بطء سير المحاكمات وطول أمدها دون حسم، وانحرافها عبر توجيه اتهامات تمسُّ قيادات عسكرية قريبة من أردوغان أشعره بأنّ جهازي الشرطة والقضاء اللذين أمسيا في قبضة جماعة غولن باتا يشكِّلان تحديا كبيرا له.
الخلاف الثاني ظهر عندما جرى الكشف عن تسجيلات صوتية لمفاوضات سرِّية في أوسلو مع حزب العمال الكردستاني، تحت إشراف رئيس جهاز الاستخبارات، في إطار مسعى الحكومة لحلّ القضية الكردية. غير أنّ جماعة غولن التي لها امتداد ونفوذ في المناطق الكردية كان لها رأي بطرائق الحلّ يختلف في التفاصيل مع رأي أردوغان؛ ما جعل المدّعي العامّ "صدر الدين صاريقايا"، المحسوب على جماعة غولن يقوم في شباط/ فبراير 2012 باستدعاء رئيس جهاز الاستخبارات "هاكان فيدان" للمساءلة القانونية، إذ وجه إليه تهما بالتفاوض مع أعداء الوطن وتجاوز صلاحياته، فترتَّب على ذلك تدخُّل من قبل رئيس الوزراء أردوغان الذي عدَّ المسألة خارجةً عن نطاق الخلاف السياسي وتدخل في سياق الاستهداف الشخصي.
وبلغ الخلاف بين الحكومة والجماعة أوجَه عندما أيَّد غولن - ضمنيّا - الاحتجاجات التي جرت في ساحة تقسيم، في حزيران/ يونيو 2013، على خلفية قضية حديقة غيزي. أمّا القضية التي فجَّرت الخلاف بشكل سافر، فتمثلت بقيام عناصر في الشرطة تدين بالولاء لغولن بحملة اعتقالات طالت أبناء وزراء في حكومة أردوغان بتهم فساد بهدف إحراج الحكومة عبْر رميها بتُهم الفساد المالي والأخلاقي، وذلك قبل ثلاثة أشهر من استحقاق الانتخابات البلدية؛ ما اضطر رئيس الحكومة أردوغان إلى أن يطلب من ثلاثة وزراء - وهم وزراء الداخلية والاقتصاد والبيئة - تقديم استقالاتهم، بعد سجن أبنائهم على ذمة قضايا فساد، حتى يتسنَّى للقضاء التركي التحقيق في التُّهم من دون التأثر بمناصب آبائهم، أو مكانتهم السياسية في الحكومة.
كانت حكومة أردوغان تقابل كلّ خطوة عدائية تقوم بها جماعة غولن بإجراء عقابي مماثل، فتمَّ إغلاق المدارس التحضيرية الخاصة التي كانت جماعة غولن تملك 25% منها في البلاد، ردّا على موقف الجماعة من أحداث ساحة تقسيم، كما قامت بالرد على حملة ملاحقة قضايا الفساد بطرد العشرات من ضباط الشرطة والموظفين العموميين المحسوبين على الجماعة، من بينهم رئيس شرطة إسطنبول.
الخلافات الأخيرة بين الطرفين تؤشر على أن غولن يعيد ترتيب تحالفاته مع الأحزاب العلمانية المعارضة لحكومة العدالة والتنمية، وهو يقوم بتكرار النهج الذي سار عليه في التعامل مع نجم الدين أربكان إبان رئاسة الحكومة خلال الفترة الممتدّة بين 1996 و1997، عندما جعل من نفسه خصما لأربكان ولحركته ملّي غروش "رأي الأمة"، فالحسابات التي تتحكم بموقف فتح الله غولن البراغماتي تتعلق بقراءته للواقع الخارجي والداخي وتقدير حجم القوة والتأثير والنفوذ لحركته وإمكانياتها، وإحساسه بأنّ نجم أردوغان بدأ بالأفول.
المعركة القادمة بين غولن وأردوغان تتمثل في انتخابات بلدية اسطنبول التي ستجري في آذار/ مارس، وقد كان التنافس حادا دوما على الفوز برئاسة البلدية الأهم بين "حزب العدالة والتنمية" و"حزب الشعب الجمهوري" العلماني اليساري المعارض الذي وجد الآن في مصطفى ساريجول مرشحاً يتسم بالقوة والشعبية، وفي حال عدم مشاركة أتباع "حركة غولن" في التصويت فقد تترجح احتمالية حسم الانتخابات لصالح "حزب الشعب الجمهوري". أما إذا حسم حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان الانتخابات في اسطنبول، فمن المرجح أن يتشجع رئيس الوزراء ويسعى نحو إجراء استفتاء شعبي لدمج صلاحيات الرئاسة ومنصب رئيس الوزراء قبل موعد الانتخابات في الصيف المقبل، ومن ثم يتنافس السيد أردوغان على رئاسة تلك السلطة التنفيذية الجديدة القاهرة، وفي حال فوزه، فسوف يصبح أكثر رمز سياسي مهيمن في تاريخ
تركيا الحديث.
ربما يتحدد مسار الديمقراطية في تركيا من خلال معركة انتخابات بلدية اسطنبول، الأمر الذي سيفرض تحديا جسيما للولايات المتحدة، ووتساؤلات حول مستقبل التحالف مع تركيا. فقد تعاظمت المخاطر التي تهدد العلاقات الثنائية عقب الهجوم المعلن على سياسات الولايات المتحدة من طرف مسؤولين بارزين في "حزب العدالة والتنمية" ووسائل الإعلام الموالية للحكومة، والتي اتهمت أمريكا بالوقوف وراء تحقيقات الفساد، وتنامي الاعتقاد بأن هناك عاملين في سفارة الولايات المتحدة تواطؤوا مع المنظمات غير الحكومية في محاولة للإطاحة بحكومة "حزب العدالة والتنمية"، وقد صعّد أردوغان مؤخرا من تصريحاته بشأن تحقيقات الفساد باعتبارها ليست سوى مؤامرة أجنبية.
وفي هذا السياق يبدو غولن كمتواطئ مع القوى الأجنبية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، ليس لدى أردوغان فحسب، وإنما لدى قطاعات واسعة في تركيا. ومن الواضح تماما بأن أردوغان ليس أربكان، كما أن حجم تركيا واقتصادها وقوتها العسكرية وموقعها الاستراتيجي لم يعد يسمح بعودة الانقلابات العسكرية، فضلا عن ضعف ومحدودية التأثير الأمريكي في السياسات الداخلية التركية، ولذلك فإن الولايات المتحدة سوف تتحرك بحذر شديد وبشكل خفي للمحافظة على توجه تركيا نحو الغرب، مع حرصها على الحفاظ على النهج الديمقراطي سياسيا ونحو التمسك بمتطلبات السوق الحرة اقتصاديا، ومن المرجح أن تقف الولايات المتحدة خارج حدود اللعبة التركية الداخلية، بعدم الانحياز لطرف غولن أو أردوغان وترك القضايا الإشكالية تحل بطريقة ديمقراطية تحافظ على سيادة القانون.