مرة أحرى نجد أنفسنا مضطرين للتوقف عند الخطر الأمني الذي يهدد تجربة الانتقال الديمقراطي في
تونس. إن إقدام واحدة من الخلايا النائمة على قتل ثلاثة من أعوان الحرس الوطني إلى جانب أحد المواطنين المدنيين يمثل في حد ذاته ليس فقط ضربة موجعة للأجهزة الأمنية، وإنما هو يعتبر مؤشرا على دخول المجموعات
الإرهابية في مرحلة جديدة من خطتها قد تكون لها تداعيات خطيرة على مستقبل هذه المواجهة الدامية.
شهدت الأشهر الأخيرة سلسة من المداهمات التي قامت بها الوحدات الأمنية في كثير من المواقع ضد مجموعة من الخلايا التي كانت مختبئة في بيوت متفرقة، إما بأحياء العاصمة ومدن رئيسية، أو في قرى بعيدة، وأحيانا بمواقع مهجورة، حيث تم استئجارها والتحصن بها. وقد كشفت الأبحاث عن أن هذه المجموعات الصغيرة العدد، كانت تمتلك أسلحة حديثة ومتطورة، إلى جانب أسلحة أخرى مخزنة. كما تبين أن بعض أعضائها يملكون خبرات متنوعة في مجال صنع المتفجرات، واستعمال الألغام والأحزمة الناسفة. وهو ما يؤكد على أنها كانت تتهيأ للقيام بعمليات واسعة النطاق ومؤلمة. لكن اكتشافها من قبل الأجهزة الأمنية أحبط مخططاتها، وجعلها تخسر العديد من قادتها الميدانيين الذين ينتمون على الصف الأول.
أكد وزير الداخلية في جلسة استماع بالمجلس الوطني التأسيسي، أن الذين تم اعتقالهم في الفترة الأخيرة صرحوا أثناء التحقيق معهم بأن خطة الجماعة التي ينتمون إليها ترمي إلى "الانقلاب على الدولة المدنية وإنشاء إمارات في الجنوب والشمال والوسط".
لم يقدم الوزير تفاصيل عن هذا المخطط ذلك تاركا الأمر إلى القضاء، لكن لا شك في أن الحركات التي تطلق على نفسها "السلفية الجهادية" تعمل على تقويض الدولة الوطنية وإلغائها، وتعويضها بأخرى تتجاوز الإطار القطري يصفونها بـ"الإسلامية" ويرون فيها تجسيدا لما يعتبرونه عودة لنظام "الخلافة". لكنه هدف يبقى بعيد المدى، أما ما يسعون إليه حاليا فهو يتمثل في تشتيت جهود الحكم الانتقالي، واستنزاف جهود النظام القائم الذي يصفونه بالطاغوت، مستحضرين في هذا السياق ما أعاد بناءه سيد قطب انطلاقا من تراث فقهي وعقائدي يقولون بأنه جزء هام مستمد مما فهموه من كتب ابن تيمية.
العملية الأخيرة جاءت مختلفة عن سابقاتها، فالذين قاموا بها خرجوا بحثا عن عناصر الأمن، بعد أن لبسوا أزياء شبه عسكرية، وبفضل هذه المغالطة تمكنوا من قتل ثلاثة أمنيين، وألحقوا بهم مدنيا ليس له من ذنب إلا وجوده في سيارة مع أحد حراس السجون.
جاءت هذه الحادثة على إثر خسائر تكبدتها هذه المجموعات، وهو ما جعلها بمثابة العملية الانتقامية بهدف إرباك المؤسسة الأمنية ومن ورائها الحكومة الجديدة التي انطلق عملها قبل أسابيع قليلة في أجواء متفائلة، مع وعود جدية في تلقي الدعم من مؤسسات التمويل الدولية والحكومات الغربية وغيرها. فهذه الجماعات التي قررت تحويل تونس إلى "أرض جهاد" بعد أن اعتبرتها "أرض دعوة"، ليس من مصلحتها أن تتجه أوضاع البلاد نحو الاستقرار السياسي والاقتصادي، لأنه بذلك يتم تهميشها تماما، وأيضا تجفيف منابع النزوع نحو الراديكالية والعنف.
ومما زاد في إثارة الغضب والخوف هو سيطرة هاجس تكرار السيناريو الجزائري في تونس. طبعا السياقات مختلفة، لكن وجود عناصر قيل بأنها من الجزائر ضمن هذه المجموعة من شأنه أن يدعم هذه التوقعات. غير أن أسلوب التمويه عن طريق ارتداء أزياء شبيهة، ثم وضع حواجز بالطرق بالأماكن المعزولة، وقتل أقصى ما يمكن من الأمنيين والعسكريين حسب الهوية، وتوسيع دائرة المستهدفين في هذه العمليات لتشمل أيضا مدنيين، هو تقليد لما حصل ولا يزال في الجزائر منذ ما يسمى بالسنوات السوداء حتى الآن في بعض الحالات وإن أصبحت نادرة.
لا شك في أن عدد الشهداء من الأمنيين قد زاد، وهم مرشحون لتقديم تضحيات أخرى مؤلمة، لأن المعركة ضد المسلحين ليست بسيطة ولا هي ظرفية، والمؤشرات عديدة ودالة على أن الخلايا النائمة لا تزال نشيطة، وقد تتمكن من إلحاق مزيد من الإصابات في صفوف الشرطة والجيش والنخب والمواطنين. لكنها في كل الاحتمالات، تبقى معزولة عن محيطها الاجتماعي، وهو ما أثبتته جنازات ضحايا الأمن، والتي شارك فيها الآلاف من المدنيين. لقد فشلت هذه الجماعات إلى حد الآن في إشاعة الرعب وقلب الحرب النفسية لصالحها رغم حجم الضحايا وعنصر المباغتة.
إن المزاج الشعبي التونسي مناهض للإرهاب، سواء جاءه بثوب ديني أو "مدني". وما يؤكد ذلك تصفيق المواطنين الذين واكبوا عملية رواد وذلك في أعقاب الانتهاء من قتل المجموعة التي كانت متحصنة بإحدى المنازل. كما تفاعل الكثيرون مع توجه الحكومة نحو منع ارتداء النقاب بعد اعتقال أحد المفتش عنه أمنيا الذي كان متدثرا بنقاب امرأة. أي أن أجواء الحرية التي استفاد منها عموم الإسلاميين بمن في ذلك السلفيون ما بعد الثورة أصبحت اليوم مهددة بسبب هذه الحرب التي يشنها البعض ضد الدولة في مرحلة توفرت فيها فرصة تاريخية للتونسيين لكي يتحولوا إلى بلد ديمقراطي. لقد صدق من رفع يديه إلى السماء ودعا ربه قائلا: "اللهم لا تجعلنا ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا".