يتجاوز دور
الصالونات السياسية في الأردن كونها مجالس
نميمة، إلى ما يمكن أن نسميه "حكومات ظل" لها تأثير مباشر في عملية صنع القرار الأردني، ولا أدل على ذلك من اضطرار العاهل الأردني الراحل الحسين بن طلال إلى مهاجمتها بشكل مباشر، وهو ما جدده نجله العاهل الأردني الحالي عبد الله الثاني بن الحسين، في مقابلة صحفية بعد مرور ثلاث سنوات على اعتلائه سدة الحكم في بلاده، حين قال إن "صالونات عمان هذه هي أكبر حاجز لمنع تطوير الأردن، وترى كل واحد فيها يطعن في الثاني، هي صالونات ضد بعضها البعض وليست ضد النظام، ترى كل صاحب صالون يريد أن يصبح رئيساً للوزراء، وكل صاحب صالون آخر يطعن به، ولا يريده أن يصل إلى مبتغاه، هذا لا ينفع البلد، فأنت مثلاً، تأتي لتستثمر في الأردن، فبدلاً من أن يرحب بك جماعة الصالونات تراهم يسألون ولماذا أنت قادم للاستثمار.. هؤلاء "مافيات"، وإذا قمت بالرد عليهم فلن تعمل شيئاً".
ورغم مرور نحو عقد من الزمن على هذا الموقف
الملكي الحاد، إلا أن شيئا لم يتغير في صالونات عمان، وإن بدا أنها تسهم بشكل فاعل في تشكيل الوزارات، وإعادة تشكيل مجلس الأعيان، وهو الغرفة الثانية في البرلمان الأردني، ويعين أعضاءه الملك، وتنشط هذه الصالونات عادة في هاتين المناسبتين الأخيرتين، وإن كانت تبقى في حالة "انعقاد دائم" على مدار العام، كما يقول أحد السياسيين المواظبين على حضور هذه الصالونات، الذي يضيف لصحيفة "عربي 21" أن كثيرا من أصحاب الصالونات يهدفون إلى لفت نظر صاحب القرار لهم، ومحاولة مد جسور مع المتنفذين ليذكروهم عند أرباب السلطة، لعلهم يحوزون شيئا من "كعكة" السلطة، سواء أكان هذا الشيء حقيبة وزارية أم مقعدا في مجلس الأعيان الذي يسمى عادة "مجلس الملك".
ويقول إنه في غياب معايير صارمة لصناعة القيادات، تصبح الصالونات منصات "إطلاق" لها، تماهيا مع مجتمع لم يزل يقيم دورا لافتا للعشيرة ودواوين الأسر الكبيرة، حيث تحرص هذه العائلات على تخصيص أماكن فارهة لديوان عشيرة كذا، أو بلدة كذا، وعادة ما تكون هذه الدواوين مكانا للمناسبات الاجتماعية، وعقد "الصلحات العشائرية" تحديدا، ويضيف هذا السياسي الذي آثر عدم ذكر اسمه: "أنا شخصيا شهدت تشكيل حكومات في بعض هذه الصالونات" لافتا إلى أنها نمت وتكاثرت بسبب كثرة المسؤولين السابقين، خاصة الذين يحملون لقب "وزير سابق" حيث لا يجد هؤلاء مكانا مناسبا لقضاء وقتهم أكثر من هذه الصالونات، التي تتيح إبقائهم "في الصورة" وتذكير المسؤولين بهم!
ويتحاشى مرتادو هذه الصالونات إجراء لقاءات لوسائل الإعلام، للحديث بصراحة عن دورها كحاضنة لإنتاج القيادات وتوزيع المناصب، ودورها أيضا في التشويش على الأداء الحكومي وصناعة الشائعات وتبادل النميمة
السياسية، خاصة وأن هؤلاء يعتبرون أنفسهم الأحق بكل منصب يشغر، وفي هذا الصدد يقول العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في تلك المقابلة الصحفية إن "هذه الصالونات لا تعيق عملي، وكل ما في الأمر هو أن أصحابها لا يعجبهم أن لا يكون لهم دور. أنا مثلاً انتقيت شخصية من القطاع الخاص ليكون سفيراً لنا في واشنطن.. شاب مؤهل، يتحدث الإنكليزية بطلاقة، فجن جنون أصحاب الصالونات وقالوا: "ليش يجيب واحد من بره؟" يعني لماذا لم يقع اختياري على واحد منهم أو من جماعتهم؟" ويضيف "لقد جن جنون أصحاب الصالونات لأن من وقع اختياري عليه ليس منهم، كما قلت أو من جماعتهم، وتساءلوا لماذا؟".
المحامي خالد عرار الذي اعتاد ارتياد هذه الصالونات بين حين وآخر، يرى أن هذه الظاهرة تشكل واحدة من معيقات أي عملية إصلاحية حقيقية، كونها خلايا لتجمعات من يسميهم "قوى الشد العكسي" الذين جعلوا كل همهم الوصول إلى المناصب، بغض النظر عن أي رؤية أو مشروع إصلاحي، بل إنهم كما يضيف، مستعدون لوضع العصي في عجلات أي حكومة فور تشكيلها، لإفشالها وفتح المجال لتعديل وزاري أو حتى تغيير الوزارة بالكامل، لإفساح المجال لإيجاد "فرص عمل" جديدة لجيش من النخب ليسوا مستعدين للمشاركة في أي جهد وطني إلا برقم سيارة أحمر، إشارة للون لوحات السيارات الحكومية، ويقول عرار إنه غالبا ما ينأى بنفسه عن هذه الصالونات إلا إذا كان مضطرا لحضورها خاصة وأنها تعقد أحيانا احتفاء بمناسبة اجتماعية، ويستهجن عرار حجم الإنفاق الذي يهدر في هذه الصالونات، حيث تحفل بألوان فاخرة من الأطعمة تعكس مستوى أصحابها وعدم اهتمامهم بما ينفق، فالمهم هنا هو الوصول إلى المنصب، ومن ثم سيتم تعويض كل ما أنفقوه على نحو أو آخر، على حد تعبير عرار!.
وعلى نقيض ما يراه عرار، يعتقد الكاتب الصحفي أسامة الرنتيسي أن هذه الصالونات ضرورية للحراك السياسي وإنتاج ثقافة وطنية في غياب حياة حزبية جادة وفاعلة في الأردن، حيث تتيح نوعا من العصف الذهني المولد لمشروعات سياسية ومبادرات متنوعة، فهي ليست فقط مكانا للنميمة السياسية وإنتاج الإشاعات والتشويش على صناع القرار كما يقال، بل تنتج أحيانا حالة من الحوار الوطني الجاد، وربما تهيئ الفرص لعقد صفقات تجارية وصُلحات اجتماعية، وفي كل الأحوال، كما يرى الرنتيسي، تظل الصالونات السياسية في الأردن بمضارها ومنافعها منابر سياسية واجتماعية تعكس جانبا من هوية مجتمع محافظ وصغير، يكاد يعرف كل عضو فيه ما يجري على كل الصعد، سواء عبر هذه الصالونات أو غيرها من لقاءات اجتماعية أفراحا كانت أو أتراحا.
وتبقى الصالونات السياسية، مكانا أثيرا لمن يحمل صفة "مسؤول سابق" يرتادها أو يقيمها من يبحث عن "عمل ما" سواء بشكلها التقليدي المعروف في الأردن، أو عبر اللقاءات التي تجمع الناس في بيوت العزاء أو "الجاهات" المختلفة، أو حتى الأعراس، تفعيلا للمثل الأردني السائر: الحركة بركة!