لولا الانقلاب العسكري في 3 يوليو لضاعت ثورة يناير، وماتت بالبطيء، ولظلت الدولة تتلوى عبر مفاصلها المتآكلة وتتفكك ونحن نظنها تعيد البناء، تزداد تعسكرا ونحن نتصور أنها تتمدن، تتحلحل ونحن نتصور أننا نبني قواعد المجد، ثم تتحول إلى دولة شبه مدنية ذات مرجعية عسكرية، وتصير خلقا جديدا من دولة مبارك، بوجوه جديدة.
كيف لا، وقد ظننا أن سقوط رئيس يعني سقوط نظام بأكمله!، وتصرفنا كالمراهق مع أنثاه الأولى، وتصورنا في نشوة الزهو بإسقاط مبارك أن
الثورة انتصرت وصار لها من المنعة ما يحول دون رجوع الظلم والقهر والاستبداد مرة أخرى حتى جاء السيسي ليخبرنا بأن "إكس" لا يموت،وأن الثورة مستمرة .. الثورة المضادة.
لولا الانقلاب لظللنا نتعامل مع حسام عيسى، وكمال أبو عيطة، وعبد الجليل مصطفى، وجورج إسحاق، وكمال الهلباوي، وفريدة الشوباشي، وعبد الحليم قنديل، وحمدين صباحي، وغيرهم بوصفهم ثوار ناضلوا من أجل الخبز والحرية وحق لهم أن يشاركوا في صناعة المستقبل، ولما أدركنا أن دولة يوليو 52 كان لها القدرة الفائقة على صناعة أنظمة بمعارضيها قبل مؤيديها، وأن هؤلاء كانوا جزء من كيانها الأخطبوطي، وأن سقوط النظام الحقيقي لم يكن يعني سوى أن يرحل مبارك وتلحق به معارضته.
لولا الانقلاب، لظللنا على أوهامنا بشأن الأزهر الشريف منارة الوسطية، والتدين السمح، والكنافة، والقطايف، وجوزة الطيب، ولأكلنا الطبخة إلى آخرها، وتسممنا بأطايبها الزائفة، وحده الانقلاب من أوقفنا على حقيقة أن الأزهر ما هو إلا الجناح الديني للدولة العسكرية، قل مثل ذلك على الكنيسة ولا تخف.
لولا
الإنقلاب، ما انفضح كل هؤلاء الفنانين، والمثقفين، الباعة الجائلين في حواري العسكر وأزقتهم، عاهرات الترسو الذين ظننا أن مجرد وجود بعضهم في الميدان دليل ثورية، وهم الذين لم يجدوا ما يفعلوه ليوصلهم، فقرروا ممارسة التثور بدل القعدة على القهوة، ومع أول فرصة عمل (أو استعمال) وقعوا عقد "الإعارة" على بياض.
لولا الانقلاب ما أدرك الناس أن النوايا الطيبة وحدها لا تقيم دولا، ولا تنتصر في معارك ضارية مع دول عميقة، وأن اللحى وحدها لا تصنع شيوخا.
لولا الانقلاب لظل بعض الشك يساور بعض الناس من موقف مؤسسات الدولة، وإمكانية إصلاحها، وتقويمها، بالحب!!، بدلا من إعادة هيكلتها بشكل جذري، ولظل البعض يتخيل أن الشرطة من الممكن أن تكون يوما في خدمة الشعب، وأنهم تابوا وتحولوا من مجرمين وقتلة إلى ضحايا، لا ذنب لهم!
لولا الانقلاب ما اكتشفنا كل هذا النقص في استعدادتنا، الثوار، لبناء دولة، وقدراتنا على التوحد في وجه خطر مشترك، وسذاجتنا السياسية أحيانا فيما يتعلق بالواقع على الأرض، وتعالي نخبتنا، وتصرف الكثيرون منهم خارج حدود المسئولية، وعدم جاهزيتنا بشكل عام، ولظللنا نتصور أن الثورة فشلت لأن الإخوان نجحوا، وأن الإخوان نجحوا لأنهم وزعوا زيت وسكر، وأن الناس جهلة، ونحن أبناء الله، وشعبه المختار.
لقد فضح الانقلاب الجميع، ووضعنا جميعا أمام مرايانا عرايا، وأحرق بسببه الجميع كل المراكب، فمنهم من انحاز إلى دولة مبارك إلى الدرجة التي يستحيل معها الرجوع، ومنهم من سكت خوفا ورعبا إلى درجة يستحيل معها ادعاء الثورية من جديد، ومنهم من ظل على موقفه إلى درجة يستحيل معها تصور التخاذل تحت أي ظرف، وقليل ما هم.
لقد كان الانقلاب بمثابة نهر طالوت الذي كشف عن جنوده غير الأوفياء، خرجوا معه، وساروا إلى جواره، لكنهم لم يكونوا يوما معه ، ولم يسيروا ساعة إلى جواره، "فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ، فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ، فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ، قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
لولا الانقلاب لخضنا معركتنا الحقيقية بجنود ما قبل النهر، وحده الانقلاب العسكري أنقذنا من هزيمة محققة أمام "جالوت" وجنوده !!
وعسى أن تكرهوا شيئا ...