دخلت
إسرائيل هذه الحرب، وهي موقنة أنها ستنتصر، كل الظروف مهيئة للانتصار على
الفلسطينيين، وسحقهم، وتحقيق مكاسب سياسية كبيرة من وراء ذلك، أهمها إعادة الثقة للمواطن الإسرائيلي في نظامه، وتعزيز فكرة أن كل ما يحدث على الأرض من مناوشات هنا أو هناك لن يؤثر على حياته واختياراته، وأنه آمن في بلد يحق له أن يعتبرها بلده وأن يجد فيها من الأمان ما يجده في أي مكان في العالم.
مصر تشهد انقلابا عسكريا على
ثورة يناير، يحمل عودة نظام مبارك، على يد أحد رجاله الأوفياء لشبكات مصالحه المحلية وتحالفاته التي تضمن استمرارها إقليميا، يعزز ذلك لدى الجانب الإسرائيلي شعورا بالثقة في الانتصار حيث عاد حلفائه على الجانب الآخر من المعركة، ويمكنهما معا تطويق عدو مشترك اسمه حماس، والإجهاز عليه، وتحقيق مصالح سياسية مشتركة.
الكيان الصهيوني المحتل إذن كان يريد من وراء هذه الحرب نفس ما يريده النظام الانقلابي في مصر، تحقيق الاستقرار واستتباب الامور لصالحه، وإقناع المواطن بأنه الأجدر على القيادة والحكم، والبحث لها عن مشروعية زائفة من وراء انتصار سهل على عدو، وها هما معا قد فشلا ونجحت المقاومة الفلسطينية.
لم يعد في مقدور مواطن إسرائيلي واحد أن يدعي أمنا واستقرارا في وجوده في هذا الجزء المحتل من اراضينا بعد ان اضطرته صواريخ حماس إلى اللجوء غير مرة مذعورا إلى المخابيء، واضطرت قيادته إلى الخضوع لشروط المقاومة والقبول بالتراجع، والإذعان لاتفاق ربما سعى إليه مع حلفائه في مصر بأكثر ما سعى الفلسطينيون أو رغبوا.
لقد نجحت حماس في تحقيق أكبر أهدافها من وراء هذه الحرب وهو إنهاء وهم استقرار المحتل في بلادنا، هو محتل، وعليه أن يدفع ضريبة وجوده بيننا رغما عنا، وهو ما كان، وانتصرت حماس، وكان لها ما أرادت.
ربما نقرأ اليوم أو غدا في الإعلام الإسرائيلي أو في دوائر الإعلام المنحازة للكيان الصهيوني الآن في مصر أو في غيرها كلاما عن انتصار متخيل، وهو ما سبق وادعته العصابات الصهيونية في أكتوبر 73 عبر نوافذها الإعلامية في العالم كله، بل وحققت فيه بعض النجاحات ووصلت إلى الكثير من المواطنين في الغرب برسالة مفادها أن مصر لم تنتصر، وأننا من حقق انتصارا، ومن استطاع تجاوز ما حدث في الأيام الأولى من الاشتباك، وجرى تضخيم شأن الثغرة وإظهارها بوصفها المعركة ذاتها، وصدق من أراد أن يصدق، إلا أن هذا لم يغير من حقائق التاريخ شيئا، لقد خاض المصريون هذه الحرب، لا لإنهاء الوجود الصهيوني في بلادهم دفعة واحدة، ولكن لتحريك الصراع خطوات مؤثرة إلى الأمام لصالحهم، والاستيلاء على أجزاء من سيناء، وإنهاء أسطورة الجيش الذي لا يقهر بعمل كبير مثل تحطيم خط بارليف، ومن هنا تحريك الوضع التفاوضي لصالح مصر، وهذا ما حدث، ونجحت مصر وانتصرت بشكل مبهر (بصرف النظر عما ارتكبه نظام السادات فيما بعد) .. فليقل من شاء من الصهاينة أو حلفائهم أن غزة لم تنتصر، حقائق التاريخ تثبت بدون شك أن غزة حققت من وراء هذه الحرب في 51 يوما ما فشلت فيه كل الجيوش العربية، ودون مساعدة او إمدادات، وبصواريخ محلية الصنع، واستطاعت أن تقضي على أسطورة استقرار المواطن الإسرائيلي، وأن تضع نفسها بقوة على خريطة الصراع، وأن تحسن وضعها التفاوضي، وتجعله من موقع القوة لا موقع الاستجداء.
والآن: هل يمكننا استنساخ هذا الانتصار المرحلي في مصر؟
نحن، هذه الكتلة الحرجة التي أشعلت فتيل الثورة، نريد أن نثبت للناس، لأهلنا، أنه لم يعد بمقدور النظام العسكري أن يدير البلاد أو يحقق نجاحات حقيقية في بلد بحجم مصر وفي عالم جديد ومختلف، ظروف المنافسة فيه أكبر بكثير من إمكانات العسكر، وقيمة العلم فيه أرقى بكثير من جهاز الكفتة الذي يحارب كل الفيروسات ويقضي على كل الأمراض، ويصلح ساعات.
إلى الآن يمكننا القول أننا نجحنا في ذلك لدى شرائح اجتماعية كبيرة في مصر، رغم التعتيم الإعلامي، والآلة الجبارة العاكفة آناء الليل وأطراف النهار على آذان المصريين وعقولهم ومحاولاتها البائسة لتصدير صورة الزعيم الملهم الستيناتي في القرن الواحد والعشرين ولكن دون جدوى .. هم يستمرون بفعل القصور الذاتي ونحن ننتصر بقوة الأشياء، بحركة التاريخ، الزمن يلعب معنا، نحن ننتصر أحيانا لأن هذه هي طبائع الأمور ... ولأنهم يشاركون بعجزهم وقلة حيلتهم وفشلهم في صناعة هذا الانتصار.
نجاحنا في هذا يوجد أسبابا مختلفة للصراع داخل أجنحة السلطة، يعمق خلافا موجودا بطبيعة الحال بينهم، ويخلق خلافات جديدة، ويشكل تهديدا مستمرا، وهاجسا قائما، وصداعا في رأس النظام من شأنه تسييب مفاصله الأمنية وإصابته بالارتباك، وأحيانا بالهياج وعدم القدرة على التفكير، وهو ما يحدث الآن بالفعل حين تجدهم يطلقون الرصاص الحي على مظاهرة سلمية تضم العشرات، ولا تفهم لماذا الرصاص الحي لتفريق مظاهرة بهذ الحجم، ثم لماذا يلجأ نظام يدعي تأييد غالبية المصريين له لتفريق مظاهرة تضم عشرات المواطنين أصلا .. ببساطة: إنهم خائفون.
هذا النظام الذي يحاول طوال الوقت الاشتغال على تيئيس الطرف الآخر، وإشعاره بأنه لا فائدة ترتجى من وراء حلمه ونضالاته، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن عليه أن يرضى، وأن الناس ضده ولن تسعفه، هو في حقيقة الحال لا يؤمن بكل ما يروجه من أوهام ربما يقتنع بها بعض الثوار، والمتطلعون لحياة أفضل أكثر كرامة ويسارا في بلادهم التي تستحق، هم يدركون جيدا أهمية ما حدث في 25 يناير 2011 وخطورة استمرار على مصالحهم وكراسيهم، ولا يملون في بذل المال والجهد والتجييش الإعلامي من أجل إنهاء هذه اللحظة من التاريخ والإجهاز عليها وتحطيمها إلى الأبد، والحاصل أن هذه اللحظة حدثت ولا تريد أن تنتهي، دعك من كل تفاصيل الصراع، ومنعرجاته، وإخفاقاته، ويقينياته التي خلقناها بأنفسنا نحن الثوار من اكثر مناطق الصراع ضبابية، كل هذا خلافات داخلية نجحت المقاومة الفسلطينية بكافة طوائفها ان تحسمها لحظة المواجهة وأن تصطف كيانا واحدا لتحقيق انتصار مستحق بإرادة فولاذية، يمكننا بأقل من هذا الجهد، أ نحسم خلافاتنا الداخلية بشكل مؤقت، لمعاودة الاصطفاف، وحسم الصراع على الأرض، وبدء مرحلة جديدة من النضال من أجل دولة حقيقية.
ما نحتاجه لاستثمار نجاح المقاومة وانتصارها على المحتل والانطلاق منه لتحقيق انتصارات مماثلة على حلفاء هذا المحتل هو تحديد اهدافنا المرحلية، والسير نحو الهدف الاستراتيجي الكبير خطوة خطوة، دون تسرع يورث اليأس السريع في حالة عدم تحققه، لقد أردنا دولة ديموقراطية مدنية في 18 يوما، وهذا لا يحدث إلا في منامات الحالمين، إن تحويل بلد متخلف يخضع للحكم العسكري 60 عاما يسبقهم أكثر من 70 عاما من الاحتلال، لا يمكن بحال من الاحوال أن يكون في أسبوعين.
أمامنا ذكرى محمد محمود، وفي الأفق تبدو ذكرى يناير، وفي الطريق لدينا ما يستحق الحسم من خلافات أحقر بكثير مهما بدت كبيرة ومعقدة من أن تكون سببا في توقفنا، نحن نحلم ببلد محترم، وحر، وغني، وعندنا خصم أضعف بكثير من حلفائه، خصوم المقاومة الفلسطينية، وأكثر فشلا، وإخفاقا في إدارة شئون البلاد، وهو يساهم بفشله، وكذب آلته الإعلامية، و"سهوكته" وأدائه المصطنع الرخيص في إختصار المسافة بيننا وبين الناس، حركة التاريخ معنا، والحق معنا، فقط علينا ألا نضيع الفرصة، سننتصر.