بعد سنوات من
الحصار الصارم، هل توجه
إسرائيل المفاجئ نحو تخفيف القيود مجرد كلام أم تعبير عن تغير حقيقي في الموقف؟
كان من المفروض أن يكون الثلاثاء يوماً مهماً بالنسبة لمزارعي قطاع
غزة. فبعد أن منعتهم إسرائيل من تسويق منتجاتهم في إسرائيل أو في الضفة الغربية لسبعة أعوام، سمحت إسرائيل أخيراً لشاحنتين محملتين بالتمر والبطاطس الحلوة بالخروج من غزة والسفر لمسافة 40 كيلومتراً إلى الضفة الغربية. ولكن حتى هذا الإجراء البسيط جداً لم يحالفه النجاح. إذ لم يسمح للشاحنتين بالمرور من خلال معبر كرم أبو سالم لأن مغلفات الأغذية لم تكتب عليها عبارة "صنع في غزة". عادت الشاحنتان إلى حيث جاءتا وخسر المزارعون الفلسطينيون ما يقرب من 45 ألف شيقل (أي ما يعادل 500ر12 ألف دولار تكبدوها للتغليف والشحن.
هذا النموذج الصغير يمثل الحالة الوهنة للحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة. هناك بالتأكيد تغير في الأجواء. فقد نقل عن الجنرال بيني غانتز قبل بضعة أيام قوله إنه ينبغي أن تفتح غزة على العالم الخارجي حتي يتقدم الأمل بوصتين عن اليأس. أما وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعالون فأضاف اليوم بأن إجراءات جديدة تم الاتفاق عليها بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية والأمم المتحدة سوف تمكن أهل غزة من الحياة. كما أنه جرى تطبيق بعض المبادرات الرمزية مثل السماح لما يقرب من 1500 من سكان غزة من السفر إلى القدس والصلاة في المسجد الأقصى أثناء عطلة عيد الأضحى.
ولكن، ما تزال هذه الإجراءات حتى الآن بمثابة القطرة في المحيط. خذ مثلاً التصدر إلى خارج غزة. فحتى عام 2007 توجه ما يقرب من 87 بالمائة من الصادرات من غزة – مثل البضائع الزراعية وكذلك الملابس والأثاث – إما إلى إسرائيل أو إلى الضفة الغربية. وبعد أن سيطرت
حماس على غزة منعت إسرائيل كل الصادرات، معطلة بذلك اقتصاد غزة تماماً. لا فرصة أمام غزة لتتعافى أو حتى لتعيش دون استئناف التصدير. أيا كانت رمزية شاحنة البطاطس الحلوة، فهذه لن تصنع المعجزة.
إيتان دياموند، المدير التنفيذي لـ "جيغا" (والتي تعني العبور)، وهي منظمة إسرائيلية تدعم حرية الحركة للفلسطينيين، زعم أنه من الواضح تماماً أن قرار منع التصدير له علاقة بالسياسة وليس الأمن. وكان قد لاحظ أنه بالرغم من منع التصدير إلى إسرائيل وإلى الضفة الغربية، إلا أن الإسرائيليين سمحوا بتصدير البضائع من غزة إلى العالم الخارجي عبر ميناء أشدود أو مطار بنغوريون، وهما موقعان في غاية الحساسية. وقال: “يصعب القول بأن منع التصدير له مبررات أمنية".
يزعم دياموند بأن إسرائيل من حقها التحكم بما يدخل إلى غزة وما يخرج منها إلا أن الحظر المفروض على حركة البضائع والناس غير متكافئ. وقال: “البضائع والناس بذاتها لا تشكل خطراً.” وبحسب دياموند، لم يكن هناك رد إسرائيلي منطقي على سؤال لماذا هناك حاجة إلى حصار قطاع غزة. أحد التبريرات التي تساق هي التأكيد على الفرق بين غزة التي تسيطر عليها حماس والضفة الغربية التي تسيطر عليها فتح، على أمل أن يؤدي ذلك إلى دفع سكان قطاع غزة إلى الإطاحة بالحكومة الإسلامية. ولكن ذلك لم يحصل، ومع ذلك لم يتغير الكثير.
وقال دياموند إن دان ميريدور (وزير المخابرات الإسرائيلي السابق) سأل بعد حادثة مافي مرمرة لماذا هناك حاجة إلى الحصار، فأجاب إيهود باراك (الذي كان حينها وزير الدفاع الإسرائيلي) إن الحصار فقد قوة الاستمرار. وبين باراك أنه كان هناك فكرة تتعلق بالتمييز بين غزة والضفة الغربية، وقد انساقوا معها.”
إلا أن حادثة مرمرة في عام 2010، والتي قتل خلالها الجنود الإسرائيليون تسعة ركاب أتراك كانوا على متن سفينة تنقل الطعام إلى غزة، جلبت معها بعض تغيير. فتحت تأثير الضغط الدولي وجدت إسرائيل من الصعوبة بمكان تبرير لماذا تحظر عبور الكزبرة أو الألعاب إلى غزة بينما تسمح بمرور القرفة أو المشط من خلال المعابر. فيما عدا مواد البناء، التي تعتبر "مزدوجة الاستعمال"، أي أنها يمكن أن تستخدم لأغراض عسكرية، سمح بدخول معظم البضائع من إسرائيل إلى غزة.”
لم يكن هناك نقص في البضائع في أسواق غزة، وإنما المشكلة تمثلت في عدم توفر النقد بأيدي الناس حتى يتمكنوا من شراء هذه البضائع. قبل الانتفاضة الثانية كان عشرات الآلاف من أهل غزة يعملون في إسرائيل. ثم من العام 2000 فصاعداً، تضاءل عدد العمال بشكل متسارع إلى أن توقفوا تماماً بعد عام 2007. وحيث أن أسواق إسرائيل والضفة الغربية أغلقت في وجه البضائع القادمة من غزة، ثم إثر تعطل تجارة الأنفاق التي تمر تحت الحدود المصرية في رفح بعد أن وصل الجنرال السيسي إلى السلطة في مصر في عام 2013، من الممكن تفهم كيف تمكنت حماس من توحيد السكان في غزة على مطلب واضح لا لبس فيه هو رفع الحصار.
خلال عملية الجرف الواقي رفضت إسرائيل هذه الطلبات بل ونفت تماماً أن تكون غزة تحت الحصار علي الإطلاق. ولم تظهر عبارة "إنهاء الحصار" في اتفاقية وقف إطلاق النار التي أنهت صراعاً دموياً استمر خمسين يوماً. ولكن من الواضح أن شيئاً قد تغير في إسرائيل. فالتصريح الذي ورد أعلاه والمنقول عن غانتز يشير إلى أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لا تقر فقط بصعوبة الأحوال في غزة بل تعتبر أيضاً أنه بات في مصلحة إسرائيل تحسينها.
هناك علامات على تغير فعلي: فقد دخلت غزة هذا الأسبوع خمس وسبعون شاحنة محملة بمواد البناء، غالباً بعد أن تم الاتفاق على نظام تفصيلي للرقابة والتحكم بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية والأمم المتحدة ومصر، كما ورد في أحد مواقع الإنترنيت الإسرائيلية هذا الأسبوع. من المفروض أن الشاحنتين اللتين أوقفتا بالأمس في معبر كرم أبو سالم هما بداية استئناف التصدير الزراعي من غزة إلى الضفة الغربية. وهناك ما يشير إلى أن إسرائيل ستسمح لخمسة آلاف عامل من غزة بالبدء في العمل في إسرائيل.
من المبكر جداً القول ما إذا كان الحصار قد انتهى أو حتى خفف إلى درجة كبيرة، ولكن يبدو أن
الحرب الأخيرة في غزة غيرت فعلاً من طريقة التفكير الإسرائيلية، على الأقل داخل الجيش. يقول شاؤول آرييل، وهو عقيد سابق ينتمي الآن إلى اليسار: “لقد كان الجيش باستمرار أقل إصراراً على الحصار الكامل من وزارة الدفاع. والآن، بعد الجرف الواقي، فهم الجيش أن الناس في غزة ألجئوا إلى الحائط، وأنه لم يبق لديهم ما يخسرونه، وأنه إذا لم تحسن أوضاعهم فأن شيئاً لن يتغير.”
ويقول آرييل، إن من المفارقات العجيبة أن يكون يعالون هو الذي تكلم باستمرار عن "حرق ضمير" الفلسطينيين من خلال استخدام القوة المفرطة ضدهم. ويرى أرييل أن حماس، بشكل أو بآخر، هي التي "حرقت" ضمير الإسرائيليين هذه المرة. ويقول آرييل إن قدرات حماس القتالية في الجرف الواقي كانت عالية سواء على مستوى القيادة والتحكم أو على مستوى الوحدات القتالية. غانز نفسه نقل عنه اليوم قوله فيما يتعلق بمقاتلي حماس أنهم فعلوا أشياء "غير الشجعان لا يمكنهم القيام بها".
هذا لا يعني أن الجيش يشعر أنه قد هزم. يقول آرييل: “يعلم الجيش أنه لو لم يقيد لكان قادراً على احتلال غزة.” ولكن في نفس الوقت يفهم الجيش أنه لولا هذه القيود لكان عدد الوفيات بين الفلسطينيين ضخماً جداً، وبذلك سيكون من المستحيل تحقيق أي إنجاز سياسي.
وبذلك يبدو تخفيف الحصار فجأة هو الخيار الأفضل من استمرار الضغط اللاإنساني على 8ر1 مليون فلسطيني. والسؤال هو، إلى أي مدى ستكون إسرائيل مستعدة للمضي في هذا الطريق. الجيش، والمؤسسة العسكرية بشكل عام، تبدو متفهمة لحقيقة أن التغيير مطلوب، أو ربما كانوا يتفهمون أنه من الضروري على الأقل التحدث عن التغيير وذلك لخلق أجواء التغيير دون تغيير جوهر الحصار. يقول دياموند: “التغير في اللهجة مرحب به، إلا أنه غير مسنود بعد بتغيرات على أرض الواقع.”
وكما أن إسرائيل فضلت ألا تعترف على الملأ بحصارها لقطاع غزة على مدى سبعة أعوام، يبدو أنها الآن تفضل عدم الحديث جهاراً عن قرارها تخفيف الحصار. قد يكون لذلك أسبابه السياسية، حيث أن مثل هذه الخطوة قد تفهم على أنها قبول بشروط حماس خلال الحرب، أو، ولعل هذا هو الأكثر احتمالاً، أن إسرائيل غير مقتنعة بعد بأنها تريد الإقلاع عن هذا التكتيك.
ميرون رابوبورت – صحفي وكاتب إسرائيلي، حائز على جائزة نابولي للصحافة عن تحقيق أجراه حول سرقة أشجار الزيتون من ملاكها الفلسطينيين. عمل سابقاً نائباً لرئيس قسم الأخبار في صحيفة هآرتز، وهو الآن صحفي مستقل.
(ميدل إيست آي - 18/10/2014)