بحسن نية أو بسوء طوية، يعلن البعض هنا أو هناك أن ما جرى في عام 2013 قد طوى صفحة
الإخوان المسلمين، وأنه بات عليهم أن يحلوا أنفسهم، لأنهم – كما يرى هذا البعض – فشلوا ولم يعد لهم من دور.
بعض من يردد ذلك ينسب نفسه للإخوان، أو لشباب الإخوان، وبعضهم كان يوماً في مستويات قيادية عليا داخل الإخوان.
لم أكن قد ولدت بعد عندما تعرض الإخوان للمحنة الأولى في عام 1954 وعلق بعض رموزهم على حبال المشانق وسجن المئات وشرد الآلاف. وكنت في العاشرة من عمري عندما تعرضوا للمحنة الثانية عام 1965، وعلق على المشانق نفر آخر من خيرة رجال الجماعة وزج بالمئات منهم تارة أخرى في السجون وشرد الآلاف كما شرد من سبقهم. ولا أذكر الآن أنني كنت أعي حينها تفاصيل ما كان يجري سوى أنني أذكر أن بعض أفراد عائلتنا ممن كانوا يرون في جمال عبد الناصر المخلص للأمة والمحرر لفلسطين شمتوا بالإخوان، بل واحتفلوا بالتنكيل بهذه الجماعة التي لم يترك إعلام عبد الناصر شراً إلا وألصقه بها ولا تهمة إلا ووجهها إليها.
بإمكاني الآن تصور ما قاله البعض حينها بحق الإخوان بعد كل محنة من هذه المحن، وأتصوره لا يختلف كثيراً عما نسمعه اليوم، من لوم، ونقد ومطالبة بالحل والتنحي، كما لو أن الناقد الساخط المحمل للإخوان المسؤولية عما ارتكب من جرائم بحقهم وحق من ثبت معهم لا يرى الطريق سالكة أمامه ليعمل ويجتهد ويجاهد كما فعلوا إلا إذا حلوا أنفسهم وتركوا له الميدان ليطلق إبداعاته الكامنة، ويحقق للأمة من الانتصارات والإنجازات ما عجزت عنه – في تقديره – هذه الجماعة التي تجاوزت الثمانين عاما من عمرها.
لست ضد أن يراجع الناس ويحاسبوا وينقدوا وينتقدوا، ولست أرى الإخوان ولا غيرهم من البشر معصومين أو فوق المساءلة، إلا أنني لم أر في جل ما قيل عن الإخوان منذ الانقلاب الغاشم في
مصر العام الماضي نقداً علمياً، ولا تقييماً مدروساً، ولا حكماً منصفاً.
فالذي يحكم بفشل الإخوان، إنما يقول ذلك لأنه كان يتوقع نتيجة لم تتحقق، ولا نعرف كيف خلص إلى أن الإخوان يتحملون المسؤولية عن عدم تحقق الإنجاز الذي كان يحلم به. والإخوان لم يعدوا الناس جنة في الأرض، وإنما دعوهم لما يعتقدون أن فيه خيرهم في الدنيا والآخرة، وحثوهم على الجهاد والمجاهدة لإصلاح حياتهم رجاء الفوز في معادهم. ولم يقل الإخوان يوماً إن هدفهم هو إرضاء أحد من الخلق، بل رددوا باستمرار: "الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا".
كلما سمعت أحداً يتهم الإخوان بالفشل خطر ببالي ذلك الموقف الذي تصفه لنا سورة البروج حين أمر الملك المتأله زبانيته بأن يلقوا في الأخدود المضرم ناراً كل من يرفض العودة عن التوحيد إلى الشرك. فهل
فشل أولئك الذي آثروا الموت حرقاً على أن تخضع جباههم لغير الله؟ وهل انتصر الطاغوت حين قتلهم شر قتلة؟ وهل فشل الغلام الذي ضحى بنفسه ليتلقى السهم في جبينه رجاء أن يفتح الناس أعينهم فيروا الباطل باطلاً والحق حقاً ويعلموا يقيناً أن الله رب الغلام هو وحده المعبود المطاع لا سواه؟
ربما كان في ذلك اليوم نفر أرهبهم السلطان الظالم وأخافتهم نار أخدوده، فآثروا الحياة في عبودية له على الموت على توحيد الواحد الأحد، ولربما ظن بعضهم أن من ماتوا في ذلك اليوم قد خسروا أو هزموا أو غلبوا. فأي الفريقين كان على الحق أيها القانطون؟
ثم، متى احتكر الإخوان العمل الدعوي أو السياسي، ومتى ادعوا أن الميدان لا يتسع إلا لهم حتى يصر البعض على تنحيهم وحل أنفسهم؟ لو كان هناك من يرى في نفسه الأهلية والأفضلية والقدرة على الإنجاز فهلم إلى الميدان، فالأمة بحاجة إلى كل جهد بناء. أما أن يصر أحد على هدم الآخرين بيوتهم على رؤوسهم حتى يتمكن هو من بناء قصره المزعوم، فإن هذا لعمرك شيء عجاب!
يقول بعض الشباب إنهم سئموا تربع الشيوخ على الكراسي واستئثارهم بالقيادة، ويطالبونهم بالتنحى وإخلاء الميدان لهم، وينسى هؤلاء أنهم بينما يوجهون سهامهم إلى الحركة وهم على أرائكهم جالسون يقبع الشيوخ الذين عنهم يتحدثون في السجون، في صمود وثبات ويقين واحتساب، يعلمون أن محنتهم من سنن الله الحتمية في التدافع بين الحق والباطل، ويدركون أن ما هم عليه سبقهم إليه المصلحون جيلاً بعد جيل إلى أن يأذن الله بالتغيير.
يحلو للبعض قضاء الساعات تلو الساعات وهو يلوك سيرة من هم الآن تحت الثرى أو وراء القضبان أو في المنافي، ويتحدث بما يشبه النشوة عن أخطائهم، وسوء اختياراتهم، ويتحدى لو كان في مكان مرسي أو الشاطر أو فلان أو علان لما فعل كذا وإنما كذا. وهكذا في ممارسة عبثية لا تسمن ولا تغني من جوع، وهو الذي لم يحط بعد بتفاصيل ما مر به هؤلاء من ظروف دفعتهم لأن يجتهدوا ما وسعهم في أوضاع غاية في الصعوبة والتعقيد. وكيف لإنسان أن يقيم أداء جيل بأكمله مغيب في الزنازين لم نسمع منه بعد ولم نسمع عنه ما يؤهلنا للحكم على اجتهاداته، وأيها كان صواباً وأيها كان خطأ؟ وهب أن الإنسان في السياسة اجتهد، أوليس مأجوراً حتى لو أخطأ؟
نصيحتي لمن لا يعجبه أداء الإخوان، وخاصة من كان يوماً منهم ولم يعد منسجماً معهم، أن انطلق، فالميدان واسع شاسع فسيح. انطلق على بركة الله، اجتهد ما تراه صواباً، واسع للنجاح حيث رأيت الآخرين يفشلون، فالإخوان عبر تاريخهم خرج من صفوفهم كثيرون، ذهبوا مذاهب شتى، منهم من أحسن، ومن من أساء، ومن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها. الإخوان ليسوا الإسلام، وليسوا جماعة المسلمين، بل هم جماعة من المسلمين، لديهم فكرة، ويمارسون اجتهاداً، ومن خرج من صفوفهم لا يرتكب إثماً إن لم يصدر عنه ما يعتبر في شرع الله إثماً.
أما الإصرار على أن الإخوان انتهوا، والمطالبة بأن يحلوا أنفسهم، فهو مما لا طائل منه، بل هو عبث ومضيعة للوقت. فالإخوان قبل أن يكونوا تنظيماً هم فكرة، والفكرة لا تموت، وهم أمل، والأمل لا يتبدد، وهم مشروع إصلاح، والإصلاح في اللب من عقيدة المسلمين. أيها المتعجلون والمحبطون واليائسون، طالما أن هناك إخوان، وهناك جماعة للإخوان، ستستمر هذه الجماعة ما أذن الله لها، وستتعافى بإذن الله كما تعافت من قبل طالما أن فيها متوكل على الله ينتظر ولم يبدل تبديلاً. وسيرى من يعيش منا ومنكم أن بعد هذا العسر يسراً، وأنه بعد هذا الكرب سيكون فرج بإذن الله، وأن المحنة سرعان ما تتحول بالصبر والاحتساب إلى منحة، فطوبى للصابرين المحتسبين.