إن أسوأ ما يمكن أن تراه.. كائن واحد يُشخّص لكل عصر وكل زمان وعلى كل لون ومختلف الموائد!!..
لا أعلم كيف يستطيعون أن يعيدوا تدوير أنفسهم واستنساخ مشاهد قديمة في حلة جديدة، أو حتى مواقف جديدة متناقضة مع ما كانوا يدعون إليه من قبل.
شخصيات قاربت على التسعين عاماً تتقعر وتتفلسف وتُنظّر لثورة لا علم ولا صلة لهم بها.. ثورة صنعها ومازال يبذل فيها الشباب الدماء والتضحيات الغالية كل يوم، شباب بينهم وبين هؤلاء "المتفلسفين" أكثر من ستين عقداً من الزمان، فعن أي ثورة يتحدثون؟! أليس من الأفضل أن يتحدثوا عن أخطاء حقبة من تاريخ الوطن أدت حماقاتها إلى أن نصل إلى ما وصلنا إليه من فقر وجهل وفساد وتذيّل ترتيب كل القوائم الدولية باستثناء قوائم الاقتصادات الهشة أو معدلات الفساد والأمراض.
إن هؤلاء بالأساس منفصلون عن هذا الشعب، قبل أن يكونوا مجهولي النسب للثورة المصرية، فهم لا يجالسون أبناءه على المقاهي ولم يعرفوا شبابه عن قرب ولا يجتمعون سوى بالنخب المتكلسة من أصحاب السيادة والبيادة في صالونات "شيك" أو في تجمعات لا تعبر سوى عن شريحة تعيش على هامش المجتمع المصري الحقيقي.. هؤلاء لا يستطيعون أن يسيروا في طرقات مصر وشوارعها أو حواريها، أو يستقلوا مواصلة عامة يوماً من الأيام أو يأكلوا على عربة الفول المصري الشهيرة، أو يتزاوروا مع أهاليهم وأقاربهم في ريف مصر حيث عبق المودة والتراحم والكرم. هذه الأشياء بالنسبة لهم "ريحتها وحشة" والـ "هايچين" فيها منعدم.
هؤلاء النخب لم يروا هذه الثورة سوى من شاشات التلفاز في منازلهم بلندن، فإن نجحت عادوا وركبوا، وإن فشلت لعنوا، ومن يستضيفونهم من إعلاميين كانوا ولايزالون يرون أنها مؤامرة.. تناقض وتلون يثيران الغثيان.
يقيني أن لله حكمة في أن يعيش هؤلاء ويعمّروا في كنف الاستبداد والفساد إلى الثمانين والتسعين ليُنَظّروا إلى ثورة شباب في ربيع أعمارهم، وأدعو الله أن يُريني حكمته أو أن يكف وجوهاً عنا، أو كليهما، إنه سميع عليم.. فلا نسأله رد القضاء ولكن اللطف فيه.
منذ 70 عاماً، تمخّض الأستاذ
محمد حسنين هيكل فولد مقالا في مجلة روزاليوسف، وفي العدد رقم 830 الصادر في القاهرة يوم الخميس 11 من مايو 1944م، الموافق 18 من جمادى الأولى سنة 1363 هـ، وبمناسبة العيد الثامن لجلوس الملك فاروق على العرش، وتحت عنوان "في يوم عيدك يا مولاي"، كتب هيكل يخاطب الملك فاروق قائلاً:
("في يوم عيدك يا مولاي"
هذه هي الذكرى الثامنة لجلوسك يا مولاي على عرش مصر.. ثمان سنوات وأنت تحمل مسؤولية هذا الوطن وهذا الشعب، كنت فيها نعم الملك الدستوري في ظروف لعلها أدق ما مر بها في تاريخ حياتها، أوليس الفاروق هو الذي قال ذات مرة:
إنني أحب قيادة السفينة أثناء العاصفة..
ثمان سنوات وأنت تعمل لهذا الشعب وتخلص له وهو يعمل معك ويخلص لك وستظلان معا إلى الأبد.
وهذه مصر كلها تحتفل بعيد ملكك.. مصر من أقصاها إلى أقصاها، أفرادا وجماعات، أحزابا وهيئات، ولم تجد مصر ما تحيي به هذا العيد سوى الهتاف باسمك والدعاء لك).
كيف لـ "هتّيف" للملك في عام 1944 أن يتحول بقدرة قادر إلى مُنَظّر لثورة شباب في العام 2011؟!
انقلب هيكل على الملك ليصبح عراب انقلاب "البكباشي" جمال عبدالناصر في نوفمبر 1954 على الرئيس الجنرال النظيف محمد نجيب قائد حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952.. عجباً من سرعة التقلب من دور "هتيف" الملك إلى دور المُنَظّر لحركة الضباط الأحرار، وبالأخص بعد نجاحها والتفاف الشعب حولها بفضل شخصية القائد والزعيم الوطني النظيف للضباط الأحرار، ليأتي هيكل داعماً ومُنَظّراً للانقلاب عليه.
ويبدو أن هذا الدور مازال يتلبس الأستاذ وهو المقرب من قائد الانقلاب العسكري في يوليو 2013، وعرابه في التنظير السياسي الرخيص لـ "ثورة 30 يونيو" المؤهلة لانقلاب الثالث من يوليو.
من أدوات التنظير السياسي الرخيص للانقلابات العسكرية -بخلاف كتاب 54 الذي يسير عليه السيسي بحذافيره حتى الآن- أن قدم الأستاذ براءة اختراع سياسي جديدة عنوانها "مرشح الضرورة" وبهذه الفكرة الجبارة التي تنتمي تماماً لحقبة "هتيف الملك" سوّق أكبر عملية "غسيل سياسي" لأعتى المجرمين ضد الإنسانية في العصر الحديث ليتبوأ كرسي الحكم على أشلاء المصريين ودمائهم.. ليعود الأستاذ ويهتف من جديد.
أخيراً يطل علينا الأستاذ بتنظير جديد لا يخرج إلا من رأس تعاني "زهايمر" سياسياً مزمناً.. التنظير الجديد القديم للأستاذ، ومازال الرجل يعاني وقوف ذاكرته عند حقب مضت وأكل عليها الدهر وشرب.. إن قائد الانقلاب يحتاج إلى ثورة جديدة على نظامه في 25 يناير 2015 المقبل، في استنساخ مفضوح جديد لـ 15 مايو 1977 وما عرف بثورة التصحيح.
أيها الأستاذ "الهتيف".. ليس لك علاقة من قريب أو بعيد بثورة 25 يناير وأرجو أن تبتعد عن هذا التاريخ وكفاك تضليل الماضي والحاضر.. "25 يناير" لن تعرفها أو تفهمها الآن بحكم التاريخ والفكر.. 25 يناير 2011 هي الثورة التي قامت ليمتلك الشعب المصري إرادته الحرة في مسيرة معركة تحرر وطني طويلة، لم تنته بانتهاء عهد الملكية التابعة للمحتل الأجنبي والذي كنت "هتيفاً" له بامتياز، بل مستمرة لتحيا مصر دولة مدنية ديموقراطية حديثة بعيدة عن جهل وفساد واستبداد
حكم العسكر الذي كنت تُنظّر له منذ ستين عاماً ومازلت.
ربما تفهم
ثورة 25 يناير عندما فقط يسقط إلهك الجديد، وإلى أن يتم هذا قريباً بإذن الله.. رجاءً أغرب عنا وعن شباب مصر ومستقبلها.