لم يكتف أزلام الانقلاب بالنصر الذي حققوه بإغلاق "الجزيرة مباشر
مصر"، فبدا الدكتور يوسف
القرضاوي، هو المطلوب، وأن القوم لن يشعروا بالانتصار، ما دام فضيلته على قيد الحياة، بعد أن أغروا به صبيانهم في فضائيات الثورة المضادة، فتطاولوا، وهم الأقزام، على قامته، فما ضر البحر أمسى زاخراً أن رمي فيه غلام بحجر!
لقد استمعنا لمن يقولون، إن إغلاق "الجزيرة مباشر مصر" لا يكفي، وأنه لابد من تسليم القرضاوي لسلطة الانقلاب العسكري لمحاكمته، ثم قرأنا لمن يكتب أنه سوف يسلم بالفعل، بعد أن وصفه بالإرهابي، مع أن هذا الإرهابي كان يتولى رئاسة مجلس إدارة موقع "إسلام أون لاين"، وكان هو يعمل فيه، محرراً بالقطعة.
والمشّاؤون بنميم يمارسون نشاطهم على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وفق سياسة "كيد النساء"، عندما يكتبون أن الشيخ فتح النار، على أمير
قطر. وتشاهد الفيديو المرفق فلا تجد ناراً أو ماء!
فمنذ الانقلاب العسكري، بدا واضحاً أن الشيخ القرضاوي أعلم أهل زمانه، على رأس المطلوبين للانتقام منه، ومن عجب أن سفهاء الثورة المصرية، الذين مثلوا غطاء ثوريا للثورة المضادة، التي قادها عبد الفتاح
السيسي، ناصبوا الرجل العداء، تقليداً لزعيمهم الجديد، ومنهم من يضمر للإسلام العداء، من يسار "السبوبة"، ولأنهم لا يستطيعون الجهر بهذا العداء، فقد وجدوا في الدكتور القرضاوي ضالتهم، ليصبح رفعت السعيد هو رمز الثورة، وهو من أذيال نظام مبارك، ويصير صاحبنا هو العدو، مع أن دوره في الثورة يُذكر فيشكر، وهذا هو "بيت القصيد".
لا بأس، فإسلامنا الوسطي يمثله القرضاوي، في حين أنهم يريدون لإلهام شاهين أن تمثل وسطية الإسلام، في زمن كلّف فيه زعيمهم الأوحد عبد الفتاح السيسي، "فاطمة ناعوت" بتصحيح الإسلام!
القرضاوي عندي ليس مجرد فقيه وعالم كبير، قرأت له في صباي كتابه "الحلال والحرام في الإسلام"، فوقفت على قدر الفقيه المجتهد، وهو الكتاب الذي ألّفه في شبابه، وفي زمن كان فيه نضوج الناس يكتمل مع بلوغ سن المراهقة، ومن المعلوم أننا في زمان يحسب فيه الناس في عداد الموتى، ومع ذلك فإنهم لم يصلوا إلى مرحلة النضوج بعد.. "عبد الفتاح السيسي أنموذجاً"، مع أنه يقدم نفسه على أنه صاحب فتوحات، وفي أحيان أخرى صاحب كرامات!
والسيسي في تجلياته، يرتقي بيهود "بني قريظة" إلى "سدرة المنتهى" والمراتب العليا، فلا أدري لماذا لم ينتبه أحد، إلى تفسيره العبقري للآية الكريمة "وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم".
فقال في حشد من قومه، وعلى الهواء مباشرة، أنه توقف كثيراً أمام هذه الآية، وخلص منها بعد التوقف بأن هؤلاء "الآخرين"، هم الذين سيخرجون لحماية الدولة المصرية. في حين أن إجماع المفسرين يكاد يكون منعقداً على أنهم "بنو قريظة".
ونحن عموماً في انتظار من سيحمي دولته من السقوط، لنعرف من هم يهود "بني قريظة"، ولنفرق بينهم بتدخلهم وبين يهود "بني قينقاع"، ويهود "بني النضير".. فاليهود تشابهوا علينا!
قيمة القرضاوي عندي، في أنه جمع المجد من أطرافه، فهو ليس فقط فقيها وبحر علم، ورمزا لإسلام الحضارة والتقدم الذي يريدون له أن يختفي من الوجود، ليحل محله الإسلام الرجعي، ليصبح الطريق ممهداً للسيسي، لأن يصبح من أهل الفتوحات، وتصبح فيه "فاطمة ناعوت" هي مجددة العصر، وفقيهة الأمة، حيث لا أمة.
فالقرضاوي إلى جانب كونه هذا العالم والفقيه، فهو زعيم ثائر على الاستبداد، طارده عبد الناصر من قبل، ويطارده عبد الفتاح السيسي من بعد، وكلاهما طلب من قطر تسليمه، ولأنهما جاءا من هامش المجتمع المصري، فليسا على دراية بالقيم العربية الأصيلة، إذ كيف يقبل عربي تسليم من استجار به.
ولأن عبد الناصر ولعدم إلمامه بالقيم الأصيلة التي تحكم مصر، ظل يطلب من حكام الدوحة تسليم القرضاوي، فلم يجدوا بدّا في مواجهة هذا الإلحاح إلّا منحه الجنسية القطرية. فما دامت القيم لم تحل دون الطلب، فليكف الجاهل بها عن طلبه امتثالاً للقانون، لكن السيسي خارج على القيم والقانون معا، إذ كيف يطلب غلمانه، من قطر ان تسلم مواطناً من مواطنيها؟!
لقد كان دور الشيخ في الثورة المصرية، مؤثراً في اللحظة التي كادت فيها الثورة يقضي عليها، فهذا هو القرضاوي إن كنت جاهله.
كان مبارك، قد ألقى خطابه العاطفي، مما أحدث فتنة في صفوف الثوار، وقضينا ليلة نعيش المشاعر المتضاربة، وفي الصباح لم يكن في الميدان كثيرون، وكان الجدل محتدماً بين قلة تريد أن تبقى، وأغلبية تريد أن تغادر، وحدثت غزوة الجمل، والذي كان يتم الاستعداد لها من الليلة السابقة على النحو الذي أوردته في مقالات عدة، وكان أن تم حصار الميدان، وفي هذا اليوم كان البيان التاريخي للشيخ القرضاوي، الذي كان على فراش المرض، ومع هذا تحامل على نفسه حتى بلغ استوديو قناة "الجزيرة"، وأفتى بأن الذهاب لميدان التحرير في يوم الكرب هذا لنصرة من فيه "فرض عين" على كل قادر عليه.
وظلّت "الجزيرة" تعيد إذاعة البيان، والحشود تأتي من كل فج، وقد غادرته في الساعة الثانية فجراً إلى منزلي لأستريح بعد يوم عاصف، وإذ كان علي أن أقطع مسافة كبيرة سيرا على الأقدام في ظل قرار حظر التجول، حيث لا وجود لسيارات إلا نادراً، فقد تمكنت من رؤية الأفواج، القادمة سيراً أيضاً في مشهد مهيب، استجابة لفتوى القرضاوي، وهي أفواج عندما رأيتها نمت مطمئنا على الثورة.
وكان طبيعياً بعد ذلك أن يأتي الشيخ الجليل، إلى ميدان التحرير في جمعة النصر، التالية لجمعة الرحيل، ليكون خطيبها، وهو رمز الثورة، الذي حافظ عليها من السقوط، ببيان دخل التاريخ في وقت خرج فيه مبارك منه.
وعداء الانقلاب العسكري للشيخ القرضاوي يأتي في هذا السياق، وقد كان عبد الفتاح السيسي هو المشرف وبشهادة الدكتور محمد البلتاجي، على دخول البغال ميدان التحرير، وكانت لفتوى القرضاوي الدور المهم في دحر العدوان، واستكمال الثورة، وانتصار الثوار.
ليس فيما قلت الآن جديد، بسبب المتغيرات الأخيرة، فقد كتبته في وقته، وثمنت دور الشيخ في الثورة مبكراً.
والحكاية وما فيها، أن الثورة المضادة التي تحكم مصر الآن في عداء مع كل مكونات
ثورة يناير، وإن كانت تعتمد في أجندتها على أولويات وضعتها. وقد نقل مبكراً على لسان أحد أعضاء المجلس العسكري أن كل من هتف ضد حكم العسكر سيدفع الثمن، وما لم يقله أنه وكل من شارك في ثورة يناير سينتقم منه، فحتى أولئك الذين ناصروا عبد الفتاح السيسي، ومثلوا غطاء ثورياً لثورته المضادة وضع فريق منهم في السجون، ولما يبق في خدمة الحكم الجديد من ثوار يناير سوى "شرذمة قليلين"!
وكان من الطبيعي أن تكون "الجزيرة" و"القرضاوي" و"الإخوان" على رأس قائمة الانتقام، لأن الانقضاض الآن هو على ثورة يناير، دعكم من "عبيد إحسان الأنظمة" الذين يتطاولون على الرجل، فهؤلاء لا يمثلون شيئا في الموضوع!
في ظل الثورة المضادة، يصبح من الطبيعي أن يحصل مبارك على البراءة، وأن يطلب رأس القرضاوي.
وفي ظل حكم العسكر، من الطبيعي أن يكون القرضاوي هو العدو، وأن يكون عضو لجنة السياسات أحمد الطيب هو شيخ الأزهر!
وفي ظل سلطة البلهاء يظن أتباعهم أن القرضاوي يمكن أن يسلّم لعبد الفتاح السيسي!
قديما قيل "قطرياً" إن الدكتور يوسف القرضاوي هو مؤسسة عالمية تعمل في قطر!
فهل يسمع الصمّ الدعاء؟!