لم يكن 25 يناير يوم انتصار للثوار
المصريين، الذين مُنوا بهزيمة بعد منتصف ليله، وغادروا ميدان "التحرير"، بعد أن داهمتهم قوات الأمن، لكنه كان يوماً له ما بعده.
لا أخفي أنني كنت في يأس من أن نحرز أي انتصار بعد أن وصلتني الدعوة بالتظاهر، والدافع للمتحمسين لهذه الدعوة هو انتصار الثورة التونسية بالحشد الجماهيري السلمي فقط. لكن علمي ببعض تفاصيل هذه الثورة، مثل حائلاً دون إحساسي بأنها ثورة قابلة للتصدير.
فالتونسيون، وبسبب زيادة أعداد المتعلمين، على درجة من الوعي، نفتقدها من حيث النسبة والتناسب في مصر، فضلاً عن أن هناك مشهدا لا يغيب عن ذهني، وهو أن قراراً بحظر التجول كان قد صدر، وانصاع له المتظاهرون، وفي الوقت الذي كان فيه بن علي يغادر للمملكة العربية السعودية، وقد وقف أحد التونسيين يهتف: "بن على هرب"، كان شارع "الحبيب بورقيبة" يبدو خالياً من البشر، بل ومن الكائنات الحية، غير هذا الهاتف. الأمر الذي كان يوحي لي بأن هناك أيديا خفية في الموضوع غير المظاهرات!.
قبل يوم 25 يناير 2011، كان حركات الرفض لنظام مبارك قد فشلت في الاستمرار في الحشد المقبول عددياً، فالناس قد استولى عليهم اليأس، وكانت المظاهرة يشارك فيها ما لا يتجاوز العشرين فرداً، حتى توقفت تماماً عن المشاركة، وأذكر وأنا مخترق لوقفة من الوقفات على "سلالم نقابة الصحفيين" في طريقي للداخل، أن طلب مني أحد المشاركين أن أقف معهم وقلت له مداعباً: "لقد اتخذت قراراً بأن أول مظاهرة أشارك فيها هي تلك التي ستتحرك في اتجاه القصر الجمهوري".
كان المشاركون في هذه "الوقفات" يتعرضون للسب من بعض المارة، وبعضهم كان يتجاوز إلى الإشارات بالأيدي والأصابع، وقد حدث تماه مع جبروت نظام مبارك، الذي كان يحسب أن لن يقدر عليه أحد، وكان نظامه قد توحش، وقد أجرى انتخابات برلمانية، أسقط فيها كل المعارضين، وعندما بلغه أن المعارضة شكلت ما سمي ببرلمان الظل، قال بتعال قولته الشهيرة: "خليهم يتسلوا".. حدث هذا أثناء إلقاء بيانه في افتتاح هذا البرلمان المزور.
لكن على ما يبدو، فإن نجاح الثورة التونسية في خلع بن علي قد أحيا الأمل في نفوس المصريين.
اتفقت مع زميلي "محمود إبراهيم" الصحفي بـ "الأهرام" على التحرك من أمام دار القضاء العالي، إلى "ميدان التحرير"، حيث كانت الدعوة تقول إن التجمع سيكون هناك، ولم يكن "محمود" قد وصل عندما وصلت!.
كان يقف على مدخل دار القضاء العالي المرتفع، عدد من أصحاب الأسماء المعروفة لي، وكان من بينهم "أبو العلا ماضي" والدكتور "محمد البلتاجي"، وقد رفضت فكرة أن نظل أيامنا كلها نقف على "السلالم".. "سلالم نقابة الصحفيين".. و"سلالم دار القضاء العالي"، بعد أن خسرنا "سلالم محكمة مجلس الدولة"، باتفاق شيطاني بين رئيسها وأجهزة الأمن، فقد كان ضيف غربي في زيارة لمجلس الدولة، واستغلت الزيارة في وضع حواجز حديدية على الجانبين لتوضع فيها الورود احتفاء بالضيف، والمساحة المتروكة في المنتصف لا تسمح إلا بمرور الداخلين والخارجين بصعوبة.. واستمرت الحواجز بعد انصراف الضيف وإلى الآن!.
أشرت لهم أن اهبطوا وأشاروا لي بالصعود إليهم، وبقي كل في مكانه، ووقفت أنا منتظراً "محمود إبراهيم"، وكانت تقف سيدة عجوز، وإن كانت قوية البنيان، تحمل علما كبيرا لمصر، وكانت تسب هؤلاء المتظاهرين، بكل الكلمات والإشارات المنحطة.. يهتفون بسقوط مبارك، فتهتف بحياته. يهتفون بسقوط حكم العسكر، فتشير لهم بإصبعها، وأحيانا بيدها!.
نظرت بجانبي فوجدت ضابط شرطة شابا، قلت له: كان عليكم أن تتخيروا لأنفسكم بدلاً من هذه "العاهات"، فهذا ليس "مستوى" يشرفكم أن يكون مؤيداً لمبارك. وتبسم وسألني: ومن أين نأتي بالبديل؟ قلت له: كلم فلاناً (أحد قيادات الحزب الوطني الحاكم) فربما كان عنده البديل الأفضل. فضحك وهو يقول لي: "وتأتي شرطة الآداب بعد ذلك وتلقي القبض عليهن.. هذا ما تريده؟!".
كنت أشاهد هذه السيدة وهي تشارك في مظاهرات ضد مبارك، وهي تنتمي للطفح الذي حدث بعد مظاهرات احتلال العراق!
ففي هذا اليوم خرجت المظاهرات في مواجهة نظام مبارك الذي لديه حساسية شديدة من المظاهرات، منذ أن شاهد الرئيس السادات يكاد يهرب من استراحته في أسوان إلى السودان بسبب مظاهرات الخبز في يناير 1977، قبل أن يصل إليه قائد الجيش "عبد الغني الجمسي"، ليخبره أن الجيش أنهى المظاهرات وانتصر للشرعية!
كان التعامل الأمني مع مظاهرات احتلال العراق عنيفاً لأقصى درجة، وبدافع من الحماس خرجت بعض "البائعات" في المناطق المجاورة لمنطقة وسط البلد، لتشاركن في هذه المظاهرات، ولأن بعضهن أميات، ورقيقات الحال، فعندما ذهبت الحماسة وحل الهدوء، أمكن لجهاز أمن الدولة السيطرة عليهن، ليعملن لصالحه، وقد استقبل بعض النشطاء مشاركتهن بقبول حسن، ربما لأنهم اعتبروا هذا ممهدا لثورة "البرولتاريا".
كانت إحداهن، تحضر الاجتماعات التي تخطط للمظاهرات القادمة في نقابة المحامين، عندما اتصل بها على الهاتف أحد المحامين، وربما كانت تنتظر اتصالاً من الضابط الذي تعمل لحسابه، فلم تنتبه، وانطلقت هي تكلمه بصوت أقرب للوشوشة، بأن الاجتماع سيبدأ الآن وأنها ستترك الهاتف مفتوحاً ليسمع بنفسه. فلم تكن على درجة من الوعي تمكنها من الاستماع إلى ما يجري ونقله له، فكان القرار أن يسمع هو، وظل "الخط" مفتوحاً لكن ليس مع الضابط، بل مع هذا المحامي، الذي أغلقه بعد فترة من الزمن دون أن تدري هي أنه أغلق!
في نقابة المحامين، يوجد مخبر مقيم لجهاز أمن الدولة، معروف للجميع، ولا يجد البعض غضاضة في عمله وهم يمزحون معه ويمازحهم، فهو لا يحضر الاجتماعات، ولا يتجسس على المجتمعين، فكل ما يريد معرفته هو خبر ليس ضاراً، عن موعد انعقاد ندوة، أو حول المكان المقرر لمظاهرة، سيعلنه الداعون إليها بعد قليل!
هذا المخبر كان يشكو للمحامين مر الشكوى من أنه بات يخشى أن يفقد وظيفته، من جراء كثرة المخبرين المتطوعين، فلا يكاد يتصل بقياداته ليخبرهم بمعلومة، حتى يقطعوا عليه الاتصال بأنهم علموا بالأمر على الهواء مباشرة!
وربما تكون السيدة الواقفة بالعلم أمام دار القضاء العالي قد تم اكتشافها من قبل المتظاهرين، وربما وجد من جندها أنها بلا قيمة، فلم يكن هناك ما يمنع من أن تكشف عن نفسها وتهتف بحياة مبارك!
كانت كاميرات الفضائيات والصحف بدأت في التوافد، وبدأ التركيز عليها، وربما أغرى تسليط الكاميرات أحد المارة، وكان ذا لحية طويلة، فقرر أن يقاسمها الشهرة والاهتمام، وبدا لي أنه ينتمي للسلفيين، الذين لا يبيحون الخروج على الحاكم "وإن أكل مالك وجلد ظهرك". وربما كانت عنده مشكلات أمنية قرر حلها في هذا اليوم بالتهجم على المتظاهرين ووصفهم بأنهم يخربون البلد، ويدمرون الوطن، تماماً كما كان يفعل المارة، من شارع عبد الخالق ثروت حيث نقابة الصحفيين، لأنه كان يجلس على الناحية الأخرى ضباط من كل التشكيلات الأمنية. وربما يظن المارة الذين يسبون المتظاهرين أن الضباط الذين يعرفونهم قطعاً باعتبار أن الأمن يعرف "دبة النملة"، سيثمنون هذه المواقف الوطنية في حب مصر!
وجاء إلى دار القضاء العالي المهندس "محمد الأشقر"، الناصري والقيادي بحركة "كفاية"، والذي كان بالنسبة لي يمثل الاستقامة السياسية، قبل أن ينتهي به المطاف مؤيداً لحكم العسكر، الذي طالما هتف ضده، وشاهدته جالساً في حضرة "المرشح" السيسي، عندما تحول "عبد الحليم قنديل" إلى "مقاول أنفار"، مع أن "الأشقر" كان متحمساً لمنافسه "حمدين صباحي" في الانتخابات الرئاسية التي جرت بعد الثورة، وكذلك "قنديل" الذي كتب عن "حمدين" من قبل إنه "غاندي مصر"، قبل أن يتغير رأيه فيه بسبب الحب الجديد الذي استقر في قلبه، ليصف حمدين بأنه "الزعيم الموسمي"!
ربما براءة "الأشقر" دفعته للثقة بلا حدود في "قنديل" وخياراته، فلما انحاز لعبد الفتاح السيسي وانقلابه على ثورة يناير، ظن أن السيسي هو ما أفرزته ثورتنا المجيدة!
كان واضحاً أنه متعب للغاية، وأن قدميه لا تحملانه.. استبشرت عندما قال لي إنه شارك في مسيرة من شبرا، لا تزال تجوب شوارع القاهرة، بينما أنهك هو فجاء ليستريح هنا.
مد إلي يده، وأخذت بيده ليصعد على الرصيف، وجلس على سور أحد الأبواب المؤدية لمحطة مترو الأنفاق، وفهمت منه أن استمرار القوم هنا مقصود، فهناك مسيرات تحركت من أماكن عدة في القاهرة، وسينتهي بها المطاف في "ميدان التحرير"، وأن هناك أكثر من وقفة في أماكن بعينها!
بعد قليل، جاءت مسيرة تضم شبابا من حزب "الوفد"، كان يتقدمها "محمد شردي"، ومن عرفته فيها زميلنا "شريف عارف"، الذي قال لي إنهم أقنعوا رئيس الحزب "السيد البدوي" بالمشاركة في المظاهرات، ووافق، لكني بعد ذلك علمت أنه وأمام ضغط بعض الشباب، كان قوله: من يريد أن يشارك، فليشارك على "مسؤوليته الشخصية"!
فزع "شردي" للخلف، ووقفت على أنه للهروب من "كماشة الشرطة"، إذ إنه كان واضحاً أنها تريد أن تحاصر المسيرة، لتدفعها لعدم التحرك، لكنه أفلت من الحصار وتحرك في شارع "26 يوليو" في اتجاه "العتبة"، وتحركت معهم. وبعد خطوات لم أشاهد "شردي" أو "عارف" لكني شاهدت شخصاً ينتمي للاشتراكيين الثوريين، لا أعرف اسمه، ولم نكد نخرج من هذا الشارع حتى وجدتني في كتلة بشرية لا أعرف أحداً فيها، وهو ما دفعني لكتابة مقال: "هذا خلق جديد"، والمؤكد أنه لم يكن من بينهم أحد من الغلمان الذين ادعوا بعد ذلك أنهم "أصحاب الثورة المصرية"!
كان الهتاف هو "الشعب يريد إسقاط النظام"، والبعض يؤكد أن هذا الشعار لم يتبلور إلا يوم "28 يناير"، وهذا ليس صحيحاً، فقد جاءنا الشعار وهو "متبلور جاهز" من الثورة التونسية، فلم يكن من اختراعنا ليتبلور، والدليل على ذلك أن مقالي المنشور بجريدة "القدس العربي" في يوم السبت "29 يناير" كان عنوانه "عندما هتف المصريون: الشعب يريد إسقاط النظام"، وقد كتبته في يوم الخميس "27 يناير" وصفاً لليوم الأول للثورة، ولا يمكن أن أكون قد كتبته يوم الجمعة، لأن الاتصالات قد قطعت في مصر، وأنا أرسل مقالاتي بالبريد الإلكتروني!
عندما وصلنا لمنطقة "الموسكي" كان التجار يعلقون التهاني لضباط الشرطة بمناسبة عيدهم في"25 يناير"، ولوزير داخليتهم "حبيب العادلي". وكان أصحاب المحال يتنافسون في وضع اللافتات على أبواب محالهم. وقد شفى الشباب غليلي في هذا اليوم إذ بدؤوا في إسقاط هذه اللافتات وتمزيقها ودهس صور "العادلي" بأحذيتهم. وفي أجواء عادية كان يمكن أن يشتبك معهم التجار، لكن من الواضح أنهم آثروا السلامة حرصاً على مصالحهم إذا اشتبكوا مع هذه الجماهير الغاضبة، وربما لم يكونوا متحمسين بداخلهم لهذا النظام أو وزير داخليته!
أحد المحال، كان يعلق لافتة مرتفعة، لكن الشباب حرصوا على إسقاطها، كان أحدهم يقفز لأعلى فيفشل في مهمته فيعاود الكرة، وهنا جاء صاحب المتجر أو أحد العاملين فيه، بعصا تنتهي بسنارة حديدية مكنته من إسقاطها وتمزيقها.
انطلقنا حتى وصلنا بالقرب من مديرية أمن القاهرة، ولم تكن أمامها حراسة، وتغري لذلك باقتحامها، لكن كانت الأغلبية مع الانطلاق إلى التحرير وهي تهتف: "الشعب يريد إسقاط النظام".
عندما دلفنا إلى منطقة "عابدين" كان السكان يقومون بتحية المتظاهرين من النوافذ، ويلقون علينا بزجاجات الماء، والعصير، وبقطع الحلوى، وكان هذا تطور لا تخطئ العين دلالته!
أمام قصر "عابدين" كانت توجد حشود أمنية ضخمة، فتحركنا في طريقنا للتحرير، ومررنا بمنطقة "باب اللوق" وقبل أن نصل للميدان حدث ما ظننا أنه النهاية، وهو ما قد نوضحه في مقالنا القادم.
azouz1966@gmail.com