منذ قيام الثورة
المصرية، وكلما شرعت في كتابة مذكراتي عنها، تداعت الأحداث، على نحو يمنعني في كل مرة من مواصلة الكتابة، وقد اعتبرت أن مرور أربع سنوات على قيامها فرصة للكتابة، لكن الأحداث والمواقف الآنية، تجعل من الكتابة عن تفاصيل ما جرى في أيام الثورة، ترف لا نملكه!
كنت قد قررت مواصلة الكتابة هنا، عن أحداث يوم 25 يناير 2011، ثم الكتابة عن أحداث جمعة الغضب في 28 يناير، إلى وصول الجيش للميدان، ومشاركتنا جميعاً في خداع الشعب، عن "الجيش الذي حمى الثورة"، في حين أن التفاصيل كشفت على أنه جاء ليحبطها. وقد منعت نفسي من التطرق للجاري من الأحداث، على الرغم من أنه يستغرقني من فوق "دكة المتفرجين"، بعد أن صرنا من أصحاب الأعذار الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض أو مشاركة الثوار في ثورتهم، وبعضنا قرر تضييع وقت الفراغ في تشكيل الحكومات، باعتبار أن الثورة إذا انتصرت، فسوف تنتظرهم ليحكموا، لخبرتهم العريقة في النضال الفضائي، وعلى أساس أن المرحلة تحتاج للكائنات الفضائية المحلقة بخيالها في الهواء الطلق، والذين يستمدون أهميتهم من الظهور عبر شاشات الفضائيات، وهناك خلط في الأذهان بين "القيمة والنجومية"!
بعد طول مشاهدة من فوق "الدكة" سالفة الذكر، وجدتني في حالة استفزاز، عندما عثرت على "حيزبون"، عبر إحدى الفضائيات، كان قد تم تقديمها فضائياً بعد الثورة على أنه مناضلة، لأنها شاركت في مظاهرة هنا أو هناك، فلما حكم الرئيس
محمد مرسي، كانت من زمرة المثقفين الذين عملوا في خدمة العسكر، وساهموا في عودة دولة مبارك وفي القلب منها اختياره الاستراتيجي "عبد الفتاح
السيسي".
وينبغي الملاحظة، أنه تم التعامل مع النخبة التي صنعها مبارك، على أنها نخبة الثورة، ومنهم من نالوا التكريم، والجوائز، في عهد المخلوع، وقد "ترعرعوا" في "حظيرة وزارة الثقافة"، وقد سبق للوزير فاروق حسني أنه أعلن أنه نجح في إدخال المثقفين حظيرة الوزارة. وهذا ما يفسر لماذا هبوا لمنع تنصيب وزير من خارج "المحفل المباركي" للثقافة، في نهاية عهد الرئيس محمد مرسي، وباسم الثورة؟.. فقد كانوا يدافعون عن أوضاع مستقرة جعلتهم نخبة البلاد، كما كانوا يدافعون عما وصفته في حينه، بـ "الحسنة المخفية" التي تمنحها الوزارة لمن حصلوا على الرضا السامي!
"الحيزبون"، تعنى اصطلاحاً، العجوز الذي تقول كلاماً وتأتي أفعالاً لا تتفق مع الوقار الذي ينبغي أن يتحلى به من هم في سنها، وفي المعجم الوسيط، "الحيزبون" هي العجوز الداهية!
"صاحبتنا"، أقصد "صاحبتهم" ليست "داهية"، بالمعنى المتعارف عليه، وإلا ما كان ينبغي أن يكون هذا أداؤها، وكلما شاهدتها في برنامج تلفزيوني مؤخراً، وجدتها تتعامل بالصوت العالي، والردح، و"فرش الملاية"، وتعمد إهانة خصمها السياسي، وعلى طريقة "خذوهم بالصوت"، وهي في مأمن لأخلاق الطرف الآخر، فلن يقول لها مثلاً أن السيدة التي تركت دينها، وهو أعز ما يملك الانسان، واعتنقت ديناً جديداً، ليس عن إيمان ولكن لتتزوج بمن تحب، هي فاقدة للثقة والاعتبار، وعدد من رموز اليسار المصري الذين يتحدثون الآن من على قواعد النضال مثلها، وإن كان الراحل غالي شكري أعلن إسلامه لأمر آخر، عندما بلغه أن القذافي الذي يحتفي بخصوم السادات ويقوم بتمويلهم، يستثنيه من "نعيمه المقيم"، لأنه مسيحي، فأشهر إسلامه في حضرة رجل البر والتقوى الأخ العقيد قائد الثورة الليبية، فلما اغتيل السادات وعاد من المهجر، لمصر "رجع في كلامه"!
نوع الدهاء الذي تتميز به سالفة الوصف، هو الذي جعل كثيرين يظهرون معارضة لمبارك، لأنهم لا يجدون فرصة ليكونوا من الملتحقين ببلاطه، فلما سقط وجاء نظام جديد على يد "العسكري المتمرد" على رئيسه عبد الفتاح السيسي، وجدوها فرصة للترقي الوظيفي، فهو نظام لم يشكل طبقته بعد، فقرروا أن يكونوا هم هذه الطبقة، تطوعاً، ولهذا فقد يدهشك هؤلاء الذين كانوا يهتفون بسقوط حكم العسكر، أيام الثورة، وفي زمن المجلس العسكري، ومنهم من كان يتحدث عن فساد أعضاء هذا المجلس والملايين التي نهبوها، كيف أنهم الآن يتقربون إليه بالنوافل: "عبد الحليم قنديل نموذجاً".
ولا يغيب عن فطنة أي متابع، أن حكم الإخوان، لم يفهم هذه الطبيعة الانسانية، فسد عن جهل الأبواب في وجه هذه الشخصيات التي لديها تطلعات فطرية في الترقي الوظيفي والاجتماعي، وبعض الذين انخرطوا في معارضة الرئيس محمد مرسي، كانت كل طلباتهم منصب في السلطة، ومنهم من كان مطلبه أن يكون "في الصورة" من باب الوجاهة الاجتماعية، فلما وصل لديهم قناعة أن النظام الجديد لن يمكنهم من ذلك، لأن الإخوان في هذه المرحلة ألهاهم التكاثر، وظنوا أنهم لن يهزموا بعد اليوم من قلة، قيل " يا داهية دقي"، فلما جاء السيسي قالوا "هذا ربي هذا أكبر"!
وهذا الموقف الذي دفع الآخرين لليأس، وحرضهم على المشاركة في التآمر على الثورة، ليكونوا كالتي نقضت غزلها بعد قوة أنكاثاً، لا يعبر عن استقامة حكم، فقد سمح لأصحاب القامات المنخفضة بالترقي، حتى وإن كانوا ليسوا من المنحازين بشكل كامل للثورة، وحتى وإن كانوا من مخلفات عهد مبارك، وقد عبرت عن ذلك في مقالي المنشور بجريدة "الأحرار" في عهد الدكتور مرسي وحمل عنوان: "الفلول في بيتك يا سيادة الرئيس"، في تعيينات الشورى، والأعلى للصحافة، وفي الحكومة، ومن بين المحافظين!
"الحيزبون" تدافع الآن عن "فرصتها"، عندما تردح دفاعاً عن الانقلاب العسكري بالباطل وترى أن حرية الإعلام متحققة، وعندما تحاصر بالأدلة، تبحث عن تبرير لمطلبها بتأييد قانون التظاهر، وبرفض المظاهرات، لأن مصر الآن تحتاج للاستقرار، لأن أوضاعها لا تحتاج لمزيد من القلق والتوتر بعد ثورتين. ومثل هذه الذرائع يجري استدعاؤها من قاموس أنصار السلطة، في كل المراحل ما عدا مرحلة الرئيس محمد مرسي بطبيعة الحال، وكأن الاستقرار لا يكون إلا بالقمع والاستبداد!
هذا الكلام لم نسمعه في عهد الرئيس محمد مرسي، عندما كانت دوائر عدة، تدفع بالشبيحة لإحداث قلاقل، وتقديم مصر على أنها دولة فاشلة، ويتم قطع الطرق، والاعتداء علي الفنادق، وحصار المساجد، والاعتداء على مقار جماعة الإخوان وبيوت قياداتها، وفي منع المحافظين والوزراء من دخول مكاتبهم!
المعنى أن القوم نجحوا بالتخريب في ترتيب أوضاعا يريدون لها أن تستمر، وكأننا نلعب "استغماية"، عندما يكون من حق المنتصر أن يعلن وقف اللعب بمجرد قوله "هَبوش"، كما كنا نفعل صغاراً.
وعندما تم الحديث في عهد الرئيس الشرعي محمد مرسي عن ضرورة أن يكون هناك قانون لتنظيم التظاهر، من أجل الاستقرار وبناء الدولة، كان الهجوم ضارياً من قبل مؤيدي هذا القانون الآن، ومن بينهم "الحيزبون"، وباعتبار أن التظاهر حق كالماء والهواء، وعليه تم التراجع عن إقراره.
مما يقال الآن، إنه في كل دول العالم المتقدم يوجد قانون لتنظيم التظاهر، وبغض النظر عن التفاصيل التي تجعل من القانون الذي أقره الرئيس المنتدب عدلي منصور قانون منع للتظاهر، وليس لتنظيم هذا الحق، فإن المقارنة هنا ليست في محلها، لأن السيسي بنى شرعيته بالتظاهر المفتعل بالانقلاب على الرئيس المنتخب، وبقتل الناس من خلال طلب تفويضه في هذه المهمة، ولا يجوز له الآن أن يعلن "هبوش" بمجرد وصوله للحكم بهذه الأداة!
كما أن المقارنة بالدول المتقدمة عبث ابتداء، فليس عبد الفتاح السيسي في حكم الرئيس الفرنسي أو الأمريكي، فمن في حكمها هو الرئيس المنتخب محمد مرسي، أما السيسي فالذي أفرزه انقلاب، وأوباما لم يصل لموقعه بخطف الرئيس المنتخب وسجنه، وبتعطيله العمل بالدستور الذي وافقت عليه أغلبية المصريين، ولم ينتزع تأييداً بزفة بلدي في ميدان التحرير، أو بفرح العمدة عندما تهتز البطون المحشية بخيرات الله، باعتبار أن اهتزازها هو الدليل الحضاري على شرعية الحكم!
"الحيزبون" وهي في "وصلة ردح جبارة" بررت لتدخل الجيش في العملية السياسية، بأنه منع من "التفتيت"، ولا نعرف ملامح هذا "التفتيت" الذي كان يمكن أن يحدث اذا استمر الرئيس مرسي في الحكم، في حين أن الجميع على علم بأن ممارسات عبد الفتاح السيسي في سيناء، وباعترافه هو نفسه، سوف تكون سبباً في هذا "التفتيت"، كما أن الأغنية المعتمدة لدى سلطة الانقلاب منذ اليوم الأول، هي "احنا شعب وهما شعب".
لا بأس، فقد كانت "الحيزبون" بحاجة لمن يسألها عن الإنجازات العبقرية التي يمكن يقدمها عبد الفتاح السيسي إذا حدث الاستقرار، وتوقفت المظاهرات، وسكوت معارضيه؟.. هل حالت هذه المظاهرات دون نجاحه في القضاء على مشكلة الطاقة بنجاح مشروعه القومي المتمثل في "اللمبات الموفرة، وحل مشكلة البطالة بألف سيارة لبيع الخضار، ومواجهة الفيروسات بصباع الكفتة!
ماذا لدى السيسي ليقدمه؟!.. إلهي تنامي ما تصحي.