المؤمن صانع سلام بطبيعته

لا تبدأ مشكلة العنف من الأفعال المادية الملموسة، بل من عالم الأفكار من تلك البذور المسمومة التي تلقى في النفوس ثم تغذى بالكراهية حتى تكبر وتتحول إلى شجرة خبيثة تؤتي أكلها حرباً وموتاً ودماراً.. 

الصراعات الخارجية ليست إلا تجل لما في النفوس، وأولئك الذين يوقدون نيران الحروب فإنما يفعلون ذلك في محاولة منهم لإطفاء النار المستعرة في داخلهم، وفي بحث يائس عن سلام مفقود عبر التوفيق بين عالمهم الداخلي المضطرم والعالم الخارجي الذي يريدونه مضطرماً أيضاً حتى يشعروا بالتوافق والانسجام.

الذين يمتلئون بالسلام الداخلي هم الذين يفيضون على الناس حباً وسلاماً، أما الذين تضطرم قلوبهم بنيران الكراهية والتنابذ فهم أدعياء زائفون لا يمكنهم منح سلام حقيقي للبشر؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

إذًا، فثمة علاقة وثيقة بين التكوين الروحي الداخلي للإنسان وبين تعزيز السلام الخارجي، فالتكوين الروحي هو النواة التي تؤسس لعلاقات خارجية صحيحة، كما أن إيجاد الفرد السوي الذي يعيش إشباعاً روحياً هو الطريقة الوحيدة لمعالجة جذرية لمشكلة العنف، وكل الطرق الأخرى تتعامل مع الأعراض وتتغافل عن الأساس، فهي تسعى لصناعة واقع خارجي ينبذ العنف، لكنها تغفل عن الصراع المتأجج في داخل الإنسان.

إن الإنسان الذي يعيش خواءً روحياً قد يدعو إلى السلام، وقد يساهم في التوصل إلى اتفاقية سياسية لنبذ العنف، لكنها ستكون مواقف تكتيكيةً خاضعةً لحسابات الربح والخسارة ومبنيةً على قناعات فكرية جافة، وليست نابعةً من شعور قلبي عميق، وربما تجد ذات السياسي الذي يتبنى موقفاً سلمياً يعيش صراعاً نفسياً أو عائلياً أو اجتماعياً مدمراً؛ لأنه لم يراعي تزكية نفسه وإشباعها بالسلام الداخلي، فظل الصراع مشتعلاً في داخله، أما الذي يعيش السلام بقلبه وروحه، فستكون دعوته جزءًا من كينونته، وهو حين يدعو الناس إلى السلام ونبذ العنف فستكون دعوته مثل دعوة الأم العطوفة لولدها..

يذكر القرآن في مواضع متفرقة عدداً من صفات المؤمنين، حين نجمع هذه الأجزاء المتفرقة تتشكل أمامنا صورة بانورامية للشخصية المؤمنة، فالمؤمن يعيش في حالة طمأنينة قلبية: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب"، والمؤمن يفيض قلبه بشعور الحب تجاه الناس حتى أولئك الذين لا يحبونه: "ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم"، والمؤمن يعيش حالة رضاً داخلي: "رضي الله عنهم ورضوا عنه"، والمؤمن تسيطر عليه المشاعر الإيجابية؛ لأنه يشكر الله على نعمه، والمؤمن متحرر من مشاعر الخوف والحزن التي تقود الإنسان إلى اتخاذ مواقف سلبية: "أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُم ْيَحْزَنُونَ"، والمؤمن يعيش في أمن نفسي: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَم ْيَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُم ُالْأَمْن ُوَهُم ْمُهْتَدُونَ"، والمؤمن بطبيعته ذو قلب رحيم: "وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ"، والمؤمن هين في معاملته سلامي بطبيعته: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِين َيَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا."

أما المرسلون الذين هم أصفياء الله من خلقه فيرسم لنا القرآن أيضاً صورةً عنهم تفيض بالرحمة والسلام والشفقة، فحوالي سبع مرات يتكرر في القرآن مقولة الأنبياء في مواجهة أقوامهم: "يا قوم إني أخاف عليكم"، و الذي يخاف على قومه لا يمكن أن يكن تجاههم أي شعور عدواني، وفي مواجهة طغيان الأقوام وإرهابهم الفكري: "لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا"، يصدع الأنبياء برسالتهم السلامية: "ولنصبرن على ما آذيتمونا".

وها هو عيسى عليه السلام يخاطب ربه مستسمحاً إياه تجاه قومه رغم ظلمهم: "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم"، و إبراهيم يقابل عنف أبيه: "لأرجمنك واهجرني ملياً" بالسلام: " قال سلام عليك سأستغفر لك ربي"، أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو رسول الرحمة للعالمين، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم، وقد بلغ من شدة حرصه على نجاة قومه أن كاد يهلك نفسه طمعاً في نجاتهم: "فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً"

في مقابل هذه الصورة البانورامية للشخصية المؤمنة، تعالوا بنا نجمع بعض الخصائص النفسية للذين كفروا في القرآن لنكون صورةً بانوراميةً مضادةً: الكافر في تعريفه المباشر هو الذي جاءته آيات بينات عرَّفته بالحق، لكنه أنكره جحوداً واستكباراً وإيثاراً للهوى، والكافر بهذا التعريف هو شخص يعاني من فجوة بداخله، فبذرة العنف تبدأ من الكفر ذاته، لأن الكفر يعني أن تكون هناك فجوة بين ما يؤمن به الإنسان في أعماقه حقيقةً وبين ادعاءاته الخارجية المعلنة فتحرمه هذه الفجوة من التوافق النفسي.

إن الإنسان بمجرد كفره فهو إنما يبذر بذرة العنف لأن في داخله ما يكتمه من الحق ولا يريد إظهاره والالتزام به، فيصبح مستفزاً تجاه كل ما يذكره بما ينكره ويقيم الحجة عليه، هذا التحليل النفسي لشخصية الكافر يتضح في قول الله تعالى: "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِف ُفِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِين َيَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا"، إن وضوح الآيات يحرج منكرها فيتمعر وجهه ويهم بإسكات من يذكره بها، لأنه بتذكيره يخرجه من حالة التصالح التي يحاول إنشاءها مع نفسه، فالسلوك العدواني تجاه الآخرين هو النتيجة الطبيعية للكفر وإنكار الحقيقة البينة، في المقابل فإن التوافق والسلام الداخلي هو ملازم طبيعي للإيمان، لأن المؤمن لا يكتم ولا ينكر ولا يجحد إنما يعمل بمقتضى إقراره الداخلي..

الكفر في القرآن ملازم لمجموعة من الارتكاسات النفسية، مثل الإعراض: "وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ"، والكراهية: "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَل اللَّهُ"، والسخط: "سخط الله عليهم"، والمقت: "إِنَّ الَّذِين كَفَرُوا يُنَادَوْن لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَان فَتَكْفُرُونَ"، واليأس: "إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون"، والشعور بالتيه في الحياة: "وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ"، والنظرة العدوانية: "وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ"، والكافر هو إنسان يمزقه الشك والارتياب: "وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ "، وينظر إلى الناس باستكبار وعداوة: "بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ"، وينظر إلى الآخرين نظرةً ملؤها السخرية والانتقاص: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَل نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُل يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ"..

تكونت الآن أمامنا باقتان لنمطين من الشخصيات الإنسانية، النمط الأول لمن امتلأ قلبه بالرضا والشكر والطمأنينة والشعور بالأمان والتوازن النفسي والرحمة، أما النمط الثاني فهو لإنسان امتلأ قلبه بالتكذيب والكراهية والمقت واليأس والاستكبار والإعراض والشك والسخرية والتخبط في مسارات الحياة، أي الفريقين سيفيض على البشر رحمةً وسلاماً!

إن السلام ليس سوى نتيجة لمشاعر إيجابية تمتلئ بها النفوس، والعنف كذلك ليس سوى حصاد مرير لسيطرة مشاعر الكراهية واليأس والإحباط. 

سيقول قائل إن هذه الصورة الجميلة تصطدم بحقيقة أن هناك عشرات الآيات التي تحث المؤمنين على القتال، فماذا يتبقى من التنظير للسلام، وأمامنا أوامر واضحة تحرض على القتال؟

الأوامر والنواهي القرآنية تمثل الجانب القانوني من الدين، بينما المنهجية المتبعة أعلاه تعتمد على تحليل المكونات النفسية الطبيعية لشخصية المؤمن التي تسبق تلقيه للأوامر والنواهي الإلهية، والحياة أوسع من دائرة القوانين، لذلك فإن الاستشهاد بالطبيعة العفوية للإنسان أبلغ من الاستشهاد بأوامر ونواه شرعت لمعالجة سياقات محددة، لأن الإنسان في أغلب مواقف الحياة يتخذ قراره وفقاً لطبيعته العفوية بعيداً عن أوامر القانون أو محاذيره الحدية.

ولتوضيح المعنى لك أن تتصور الفرق بين شخصين أحدهما معبأ بالعنف والكراهية، والآخر معبأ بالسلام والمحبة، وصدر لكل منهما أمر بالقتال.

أما الأول فسيلامس هذا الأمر هوىً في داخله، و سيطلق العنان لإشباع رغباته العدوانية وسيتوسع في القتل وسفك الدماء. أما الثاني فلن يتعامل مع أمر القتال إلا بأنه واجب اضطراري لن يلجأ إليه إلا حين تنعدم الخيارات الأخرى ولن يمارسه إلا في أضيق الحدود دون أن يجد لذةً فيه، وسيبحث عن أول فرصة لإحلال السلام ووقف العنف ليعود إلى حالته الطبيعية، وهذا ما كان عليه الجيل المؤمن الأول حين فرضت عليه آيات القتال، فهي لم تلامس رغبةً عدوانيةً وحباً لسفك الدماء، بل وقعت في نفوس محبة للسلام بطبيعتها فلم تتعامل مع هذه الآيات إلا في نطاق الواجب الاضطراري: "كتب عليكم القتال وهو كره لكم"، وحين كانت تلوح أي فرصة للعودة إلى حالة السلام كان المؤمنون يفرحون بوقف القتال ويعدونه نعمةً امتن بها الله عليهم حتى لو كانوا هم المنتصرين: " وهوالذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم".

بقي سؤال: إذا كان المؤمن مشروع سلام بطبيعته، فكيف نفسر أن كثيراً من الحروب يوقدها ويغذيها المتدينون!  

الجواب أني لا أطرح ثنائية: متدين- غير متدين، بل أتحدث عن مؤمن عرف الله بحق واطمأن قلبه بذكره، وإنسان آخر ابتعد عن الله ومزقته صراعات الدنيا، فأصبح أسيراً للكراهية والحسد والطمع، بعبارة أخرى لا أتحدث عن الدين كأيديولوجيا تستعمل في تغذية الكراهية وإشعال الحروب، بل أتحدث عن الدين كروح تلامس القلوب فتضفي أمناً وسكينةً وسلاماً داخلياً.

إن من امتلأ قلبه بمعرفة الله حق المعرفة وغمره الشعور بالأمن والسلام لا يمكنه في هذه الحالة أن يقدم على قتل نملة، بل إنه سيجد حرجاً أخلاقياً في قطع ورقة شجرة أو في الإسراف في صيد الحيوانات والأسماك، إن استحضاره لمعية الله في قلبه ستجعله ينظر إلى الطبيعة نظرة صداقة فيفيض على الوجود كله حباً وسلاماً كما في قصص النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع جذع الشجرة ومع الجمل ومع الطير..   

إن دعاة الكراهية يستحيل أن يكونوا قد ذاقوا حلاوة الإيمان والقرب من الله حتى وإن زعموا أنهم يقاتلون تحت راية الله وانتصاراً لدينه..