إن حجم الاهتمام بالانتخابات التركية ونتائجها بداية هو دليل على الأهمية التي تحظى بها
تركيا، والموقع الذي تحتله لدى الجميع بمن فيهم خصومها ومنافسيها، وهو من الأمور التي تحسب لحزب
العدالة والتنمية ــ وما أكثرها ــ الذي استطاع أن يجعل تركيا في دائرة الاهتمام المتقدمة بالمعنى الإيجابي، حيث كانت تمر الانتخابات في تركيا قبل مرحلة العدالة والتنمية دون أن يهتم أو ينشغل بها أحد.
ورغم أن نتائج الحزب لم تتراجع بحجم كبير وبقي يتصدر
المشهد السياسي التركي بنسبة 42% بفارق كبير عن ملاحقه حزب الشعب الجمهوري، إلا أن هذا التراجع مع ذلك -خاصة وأنه ارتبط بعدم قدرة الحزب بتشكيل الحكومة بمفرده-، له عدة أسباب ويحمل الكثير من الدلالات منها:
1 ــ المتغير الرئيسي الذي حصل هو قدرة أكراد تركيا على جمع شتاتهم وراء حزب الشعوب الديمقراطي، وانفتاحهم لأول مرة على فئات أخرى من المجتمع التركي لكسر حاجز 10% اللازم لدخول البرلمان، وقد نجحوا في ذلك بحصولهم على 79 مقعدا، ومعظم هذه المقاعد أو الكثير منها كان سيذهب لحزب العدالة والتنمية لو لم ينجح الحزب الكردي في تجاوز عتبة أو حاجز 10%، كما أن دخول الأكراد بهذا الحجم إلى البرلمان ودمجهم في الحياة السياسية سيصب حتما على المستوى الإستراتيجي في صالح تركيا موحدة ومستقرة، ولو لم يكن في صالح حزب العدالة والتنمية على المستوى التكتيكي.
2 ــ حدة الصراع الذي فتحته الحكومة والحزب وأردوغان مع جماعة (فتح الله كولن) أو الكيان الموازي كما يسمونه في قطاعات مختلفة ومهمة في الدولة أثر سلبا دون شك على المشهد التركي ككل، الأمر الذي جعل له بعض التأثير على نتائج الانتخابات خاصة نتائج الحزب الحاكم.
3 ــ ارتفاع جرعة الأدلجة في خطاب وممارسات قادة الحزب خاصة الرئيس أردوغان في الفترة الأخيرة أعطى فرصة لخصومه التقليديين من العلمانيين المتطرفين على مستوى الداخل، وخصوم الإسلام السياسي في الخارج للإثارة ضده من جديد بموضوع الأسلمة والأدلجة وتغيير الطابع العلماني للدولة، خاصة وأن الكثير من مؤيدي الحزب يؤيدونه لأسباب براغماتية متعلقة بنجاحاته الإنجازية التنموية التي تصب في صالحهم وليس لأسباب الأدلجة والهوية، والأسلمة التي يرفضها بعضهم أصلا أو على الأقل لا يهتم بها وبمعاركها.
4 ــ المواقف الحادة في المرحلة الأخيرة تجاه الملفات الخارجية الإقليمية والدولية (سوريا ــ مصر ــ فلسطين ــ العراق ــ اليمن ــ إيران ــ الاتحاد الأوربي ......)، وتجاوز سياسة تصفير المشاكل الخارجية خاصة مع دول الجوار التي يفاخر بها الحزب كثيرا في السنوات الماضية، حيث دفع الحزب والحكومة وأردوغان دفعا في بعض الأحيان مجبرين على التفاعل مع مثل هذه القضايا نظرا لالتهاب جزء مهم من حدود تركيا ذاتها في سوريا والعراق على سبيل المثال.
5 ــ ارتباط الحزب بكاريزما شخص أردوغان إلى حد كبيرــ وهو ما كان يعيبه على أربكان رحمه الله ــ، وعدم قدرة أحمد داوود أوغلو على تعويض هذه الكاريزما وملء الفراغ الذي تركه أردوغان في الحزب بعد انتقاله إلى رئاسة الجمهورية، وهو الذي اضطر هذا الأخير إلى أن ينزل ويشارك في الحملة الانتخابية للحزب بشكل أو بآخر رغم موقعه كرئيس لكل الأتراك، وهو مما سيحسب على الحزب، مع أنه من باب الإنصاف نقول أنه من المبكر جدا الحكم على قدرة أحمد داوود أوغلو، ونجاحه في صناعة كاريزما تعوض وتخلف كاريزما أردوغان.
6 ــ طول مدة تواجد الحزب في الحكم وتصدر المشهد السياسي والمؤسساتي التركي بمفرده والتي تجاوزت 12 سنة رغم نجاحه التنموي والإنجازي، لكنه يبقى في غير صالح التداول الديمقراطي الإيجابي، وسيصيب البعض مهما قلت نسبتهم إلى الشعور بالملل والرغبة في التغيير حتى وإن كان الموجود والمتصدر ناجحا، مما يدفعهم إلى تغيير موقعهم واتجاه تصويتهم، في ظل ديمقراطية حقيقية وشفافية الصندوق التي يستشعرها الجميع، وليس أدل على ذلك من ارتفاع نسبة إقبال الأتراك على صناديق الاقتراع ومشاركتهم التي قاربت 90% .
7 ــ الحرب الشرسة التي تعرض لها الحزب والحكومة وأردوغان ومشروعهم وتجربتهم محليا وإقليميا ودوليا، جراء النجاح التنموي من ناحية في الصعود بتركيا من المراتب المتدنية إلى مصاف الكبار على المستوى الإقليمي والدولي اقتصاديا وسياسيا، ومن ناحية ثانية جراء مواقف أردوغان من بعض الملفات والقضايا الإقليمية خاصة قضايا سوريا ومصر وفلسطين، حيث تنادي الكثير من الأطراف بشكل صريح وبخطوات عملية وحتى بدفع أموال طائلة لإفشاله وتقليص نفوذه وحضوره والتشويش على مشروعه وخطته، كما تحدثت الكثير من التقارير الإعلامية في الآونة الأخيرة.
8 ــ يبدو أن الناخب التركي رغم ثقته الكبيرة في أردوغان ورفاقه وحزبه، ورضاه بشكل عام عن حجم إنجازهم التنموي، لكنه أراد أن يوجه لهم رسالة من توجسه من النظام الرئاسي الذي يسعى أردوغان ومعه الحزب إلى تكريسه لو فاز بالأغلبية المطلقة، وتفضيله النظام البرلماني الأكثر ملائمة لاستمرار أجواء الحرية والديمقراطية التي يتمتع بها الشعب التركي حاليا، ومنع عودة أجواء الانقلابات التي عانى منها ومن كوارثها كثيرا.
9 ــ كشفت ردود الأفعال العربية خاصة على نتائج هذه الانتخابات، الطبع العربي الذي يغلب التطبع الغالب لدى الإنسان العربي سواء لدى الأنظمة والنخب السياسية والإعلامية الموالية لها، أو لدى الإسلاميين أيضا، في موقفي الفرحة والشماتة لدى الفريق الأول، أو الصدمة والولولة بالنسبة للفريق الثاني، من تراجع نتائج حزب العدالة والتنمية بنسبة قليلة رغم بقائه في الصدارة وبنسبة تفوق 40% وبفارق كبير عن صاحب المرتبة الثانية، وكأن العقل العربي في المعسكرين مجبول ومتعود على نسب السحق وإقصاء الآخر، النسب المرتفعة والمطلقة، رغم أن أصحاب الشأن أنفسهم لم يكن موقفهم كذلك في المعسكرين كذلك، وعبروا جميعهم على ضرورة احترام إرادة الناخب التركي مهما كانت النتائج.
10 ــ في قضية
التحالفات المتوقعة رغم أن الأرجح والأقرب للواقع هو تحالف حزب العدالة والتنمية المتصدر مع صاحب المرتبة الثالثة حزب الحركة القومية (258 + 91 مقعد)، فإن الأصلح للأكراد أن يتجاوزوا أفق الخلفيات التاريخية، ويفكروا بحكمة أكبر، هو تحالفهم مع حزب العدالة والتنمية (258+ 79) ليحققوا إنجازا تاريخيا بمعنى الكلمة لهم من خلال تواجدهم الرسمي في الحكومة بعد ضمان تواجدهم الرسمي في البرلمان، وهو الأصلح لتركيا ككل من باب تغليب وتجسيد منطق السلم المجتمعي وتجاوز الحرب الأهلية للأبد، كما أنه لو حدث يعطي لحزب العدالة والتنمية بدوره إضافة إلى رصيده صناعة تجربة جديدة من خلال تحالفه مع طرف كان يرفع السلاح ضد تركيا الرسمية لمدة طويلة، فإذا به يتم النجاح في إدماجه بشكل سلس في زخم الحياة السياسية والمؤسساتية.