تعمل العديد من المراكز والمؤسسات البحثية، وبعض من يصنفون أنفسهم باحثين ومتخصصين، هذه الأيام؛ على الترويج لأطروحة "فشل
الإسلام السياسي" أو "ما بعد الإسلام السياسي". ورغم أن الفكرة ليست جديدة، لكن نجاح تيار الثورات المضادة والدولة العميقة بعد
الربيع العربي في الانقلاب على بصيص الأمل في تحول ديمقراطي حقيقي في المنطقة، والتي كان الإسلاميون ضحيته الأولى خاصة في مصر، أعطى زخما للفكرة من جديد.
فأول من بشر بهذه الأطروحة في الحقيقة الباحث الفرنسي أوليفيه روا في كتابه "فشل الإسلام السياسي"، الذي أصدره سنة 1992، ثم أعاد تأكيدها في كتابه "الإسلام المعولم" سنة 2002، كما روج لها في نفس الإطار تقريبا مواطنه جيل كيبل في كتابه "جهاد: انتشار الإسلام السياسي وانحساره"، وكذلك فعل الباحثان راي تاكيا ونيكولاس كي جفوسديف في كتابهما المشترك "الظل المنحسر للنبي: صعود وسقوط الإسلام السياسي"، ليتبناها الآن مركز
الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتجية، وبعض المراكز والمؤسسات البحثية الدائرة في فلكه والمستجدية للمال الإماراتي ولو على حساب المصداقية العلمية والموضوعية البحثية، مثلما فعل رئيس المركز جمال السويدي في كتابه الأخير "السراب"، والذي يعمل على الترويج له في إطار مخطط الإمارات ومشروعها القائم أساسا على الفكرة سالفة الذكر، وقد أهدى كتابه مؤخرا إلى بابا الفاتيكان.
وملخص الفكرة أو الأطروحة لدى كل الجهات التي تتبناها هو أن ظاهرة "الإسلام السياسي" قد فشلت أو في طريقها للفشل المحتوم في كل أقطار
العالم العربي والإسلامي، وأن النموذج السياسي الإسلامي لا يمكن أن يتحقق في الواقع أو ينجح مهما كانت البيئة الحاضنة له.
ومع أن مصطلح "الإسلام السياسي" في حد ذاته غير دقيق بل غير صحيح أصلا، بغض النظر عن دلالاته لدى هؤلاء، ويوحي بعدم الحياد والخلفية غير البريئة والغارقة في الأدلجة، ليكون القصد منه في الحقيقة "الإسلام" كدين شامل يتناول مظاهر الحياة جميعها وقائم على العقيدة والشريعة في نفس الوقت، وليس تجارب الحركات الإسلامية السياسية، كما يريد أن يقنعنا مروجو فكرة "نهاية الإسلام السياسي" وعرّابوها، فلو كان الأمر صحيحا لماذا لم نقرأ لهؤلاء ولم نسمع مثلا عن مصطلحات "المسيحية السياسية" و"اليهودية السياسية" رغم وجود أحزاب مسيحية وأحزاب دينية يهودية، ليتأكد أن الهدف في الحقيقة ما هو إلا الترويج لفكرة "علمنة الإسلام" ونفي بعده السياسي تحديدا، وحصره في الشعائر دون الشرائع...
فلو تجاوزنا الإشكال القائم في المصطلح في حد ذاته، وسلمنا جدلا به، وأغفلنا تجارب الإسلاميين الناجحة في بعض الأقطار التي يمكنها أن تنسف الفكرة ومنطقها التعميمي، فإن دلالة الأطروحة من خلال العنوان فقط، "فشل الإسلام السياسي"، دون الغوص في التفاصيل؛ هي كأن الإسلاميين قد مارسوا عددا معتبرا من تجارب مكتملة في الحكم في إطار الفرص التي أتيحت لهم، وأنهوا عُهودهم الزمنية كاملة غير منقوصة، ومن ثم أثبتوا فشلهم، مع أن الفرضية لدى المروجين لها القدامى والجدد منذ 1992 وإلى اليوم قائمة في أغلبها على استحضار ثلاث تجارب للإسلاميين: التجربتان الأفغانية والجزائرية لدى القدامى والتجربة المصرية لدى الجدد، والخاص والعام. والموافق والمعارض يعلم أن التجارب الثلاث المذكورة أجهضت كلها مبكرا وانقُلب عليها بطريقة أو بأخرى، دون أن تترك لها الفرصة لتأخذ وقتها كاملا ككل تجارب الدنيا في الحكم وممارسة السلطة، حتى أن التجربة المصرية لم يتركوها تكمل سنة واحدة وانقلبوا عليها، ثم يأتي هؤلاء الباحثون ومراكزهم ليؤسسوا عليها أطروحة بحثية كاملة قوامها "فشل الإسلام السياسي".
ولعل الراصد الموضوعي مهما كان موقفه من التجربة وأصحابها وأفكارهم – رغم كل القصور والأخطاء وحتى الخطايا التي تكون قد صاحبت التجربة القصيرة كتجربة بشرية يعتريها ما يعتري كل تجارب البشر في الدنيا - يكاد يجزم بالعكس؛ وهو يرى حجم التآمر على التجربة وأصحابها وفعل المستحيل وصرف المليارات، بل حتى قُتل الآلاف لشيطنتها ووأدها في مهدها. فلو كانت الثقة كبيرة فعلا في صحة أطروحة "الفشل الذاتي للإسلام السياسي" دون تدخل إرادات ومشاريع وخطط العرقلة والإفشال، ولو لم تكن الخشية جدية من إمكانية نجاحها، لما تم الانقلاب المبكر عليها وإجهاضها قبل حتى أن تكمل سنة من عمرها، ولتُركت تكمل عهدتها على الأقل ثم الحكم عليها بعد ذلك، رغم أنه من الموضوعية حتى عهدة واحدة مكتملة الأركان ودون عراقيل لا يمكن إصدار حكم جازم وواثق وتعميمي ومطلق، سلبا أو إيجابا، من خلالها، فما بالك بسنة واحدة يتيمة؟ وإلا فكل التيارات والأنماط والأيديولوجيات قد جرّبت في الحكم في كل أقطار المنطقة لسنوات طوال منذ الاستقلال وإلى اليوم، وتسبب الكثير منها أو كلها تقريبا في كوارث ومصائب وفساد وتخلف على كل الأصعدة، ولم نسمع ولم نقرأ من هذه المراكز البحثية الموجهة والباحثين الرغائبيين أطروحات مثل "فشل اليسار السياسي" أو "فشل القومية السياسية" أو "فشل الليبرالية السياسية" أو "فشل العسكر السياسي" أو "فشل العائلات السياسية" على غرار أطروحة "فشل الإسلام السياسي".
في المحصلة نقول إنه يمكننا القبول بالتعاطي البحثي لفكرة وأطروحة "فشل الإسلام السياسي" إذا تجاوزنا تهافت المصطلح وقصرناه على تجارب الحركات الإسلامية السياسية؛ لو تم إعطاء الإسلاميين في المنطقة فرصتهم كاملة في الحكم وممارسة السلطة مثلهم مثل بقية التيارات، دون الانقلاب عليهم، أو عرقلتهم، أو الإمعان في إفشالهم وقطع الطريق على تراكم تجربتهم واكتمالها، عندها، وعندها فقط، يمكننا ويمكنكم إصدار الحكم البحثي على التجربة بالفشل أو النجاح. أما دون ذلك فالأمر في الغالب الأعم منه لا يعدو كونه أحكاما مسبقة وتفاسير رغائبية تعوزها المصداقية، وتتحكم فيها في الكثير من الأحيان – إلا ما ندر - الخلفيات وحتى العقد الأيديولوجية والثقافية والسياسية أكثر من كونها دراسات جادة تحكمها المنهجية والروح العلمية والبحثية.