في إحدى روائع مسرح الرحابنة "بياع الخواتم" التي عُرضَت في بيروت ودمشق عام 1964 يخترع المختار الذي يؤدي دوره الفنان
اللبناني الراحل "نصري شمس الدين" شخصية وهمية اسمها "راجح"، مؤلِّفاً حولها مجموعة من الحكايات يسردها كل مساء على أهل القرية، وتعزّز شيطنة "راجح" الشرير والقاتل والسارق الذي يعادي القرية ويخطط لمهاجمتها باستمرار، لولا تصدي المختار له منفرداً في الجبال وانتصاره الدائم وحماية أبناء القرية وعائلاتها من الأذى الحتمي، الذي سيلحق بهم إذا تخلى المختار عن واجبه الوطني والأخلاقي.
في أحداث المسرحية يضطر المختار إلى الاعتراف لابنة أخته "ريما" التي تؤدي دورها السيدة "فيروز" بأنه اخترع هذه القصة لكي يسلّي أهل الضيعة ويحافظ على نفوذه وتأثيره بهم. إلا أن الممثل "جوزيف ناصيف" بدور "فضلو" والممثل "إيلي شويري" بدور "عيد"، هذان الشابان المجبولَان على الأذى، شكّا بمصداقية القصة وقررا استغلالها لتحقيق مآرب شخصية، فنفذا قائمة من الارتكابات المشينة ونَسَباها إلى "راجح"، وشملت خطتهما إطلاق المواشي من المزارع والعبث بالبساتين والحدائق، وسرقة المقتنيات الخاصة وتخريب الممتلكات العامة، بالإضافة إلى إطلاق المزيد من الشائعات المرعبة عن "راجح" بين أهالي القرية.
في أثناء انشغال الأهالي بالتحضير لـ"عيد العُزّاب"، هذا الحدث السنوي الذي يتيح لشباب وصبايا القرية فرص الزواج، ظهر رجل غريب عن القرية "المطرب جوزيف عازار" ودون مقدمات ادعى أنه "راجح" وطلب مقابلة المختار، وعند اللقاء به تبين أنه ليس إلا بائع الخواتم الذي يجوب القرى، وأنه قصدهم في "عيد العزّاب" ليقدم هدايا من بضاعته للعرسان الجدد، وليطلب يد "ريما" صاحبة الصوت الساحر لأحد أبنائه. ثم انكشفت لعبة "عيد" و"فضلو" وعوقبا من المختار الذي لم يجد من يعاقبه، باعتباره صاحب براءة الاختراع لشخصية "راجح" الوهمية.
قبل يومين وفي اليوبيل الذهبي لقصة "راجح" خرج الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ليعلن أن معركته مع
تنظيم الدولة الإسلامية "
داعش" قد بدأت، وذلك بعد سنتين على إعلان مشاركة حزبه رسمياً في الحرب الأهلية السورية إلى جانب النظام وحلفائه. ما يطرح علامات الاستفهام التالية:
أولاً: ألا يشكل إعلان السيد نصر الله المفاجئ اعترافاً صريحاً بسيل الاتهامات التي طالما وجهها الخصوم لحزب الله، بأنه لم يطلق طلقة واحدة من قبل باتجاه تنظيم الدولة الإسلامية الذي تفرغ طيلة الفترة السابقة لتحطيم القوة العسكرية للجيش السوري الحر، ولي ذراع جبهة النصرة وأخواتها في أكثر من موقعة وناحية. وهو التنظيم الذي تتهمه بعض المعارضة السورية بأنه مع
حزب الله والمليشيات العلوية في الساحل، يشكلون الأدوات التنفيذية على الأرض لمشروع تقسيم
سوريا إلى دويلات طائفية ومذهبية.
ثانياً: إن حضور "داعش" المضطرد في خطابات السيد نصر الله وقيادات حزب الله ووسائل إعلامه على مدى شهور وشهور، كوحشٍ يسعى الحزب لاصطياده في سوريا قبل وصوله إلى لبنان حمايةً للبنانيين ولا سيما الأقليات الدينية منهم، هل كان مجرد إسقاط "راجح" على "داعش"؟
ثالثاً: من هي الجهة التي حقق عليها الحزب "المختار" انتصاراته التاريخية خلف الجبال، طالما أنه لم يبدأ بعد مواجهة "داعش" التي تقدّر وكالات أوروبية بأنها باتت تسيطر على 40% من مساحة العراق و35% من مساحة سوريا و80% من آبار النفط السورية، وباتت احتياطاته من نفط العراق تقدَّر بمئات ملايين البراميل؟
رابعاً: هل هناك "فضلو" وهل هناك "عيد" لا نعرفهما ارتكبا جرائم إضافية ونسباها إلى "داعش/ راجح"؟
خامساً: هل سيظهر "راجح/ داعش" الحقيقي في لبنان، وعلى كم من مساحته سوف يسيطر، وأين ومن المسؤول؟
ختاماً وبعد خمسين سنة على إطلاقها، يعاد اليوم إنتاج رائعة الرحابنة على أرض الواقع، مع تعديل على المصطلحات، "راجح" أصبح "داعش" وتجسد وتمدد، و"بياع الخواتم" صار "بياع الأختام" والأوهام...