مع انطلاق مفاوضات فرقاء المشهد
اليمني تحت رعاية الأمم المتحدة في جنيف، بما تتضمنه من إعادة تأهيل للطرفين المنقلبين على الشرعية في الساحة اليمنية (
الحوثي والرئيس المخلوع علي عبدالله صالح)، استعدت ذاكرة مقال سابق نشر في الأول من نيسان/ إبريل الماضي، تحت عنوان "في قلب العاصفة".
توقفت فيه عند نقطة أنه "وإن أخذت
عاصفة الحزم مداها اليمني باستئصال الوجود الإيراني هناك، وعودة الشرعية اليمنية لا شرعية المبعوث الدولي -آنذاك- جمال بن عمر، يبقى الأهم في كل ما يُطرح هو ألا تنسينا المعارك الراهنة ضد العدو الخارجي معركتنا الحقيقية المتمثلة في أولويات ترتيب بيتنا الداخلي، أي معارك ترسيخ الحريات والوعي والبناء والمصالحات الوطنية، كمعارك حقيقية تطل برأسها فور انجلاء دخان بنادق عاصفة الحزم، وهنا يكمن جوهر الحزم"..
أما إن توقف ذاك الحزم على مجرد تلويح بالعصا وإظهار عين حمراء ثم إعادة انقلابيي اليمن لطاولة حوارات بن عمر والمبادرات الإقليمية والأممية يستتبعها حتما مشروع تدمير اليمن بوصفة عراقية-سورية، فعلى الحزم وعلى عاصفته السلام.. سلاما لا سلام -بأرض جزيرة العرب- بعده". انتهى الاقتباس.
محاذير الطرح السابق تضمنت ثلاثة أخطاء استراتيجية وقعت فيها "عاصفة الحزم" التي تحولت لتأخذ مسمى "إعادة الأمل" فيما بعد، دون تغيير على أرض الواقع بينهما سوى في التسمية.
قد يتفق بعض المراقبين في أن عاصفة الحزم في جوهرها مبررة -إن لم تكن ضرورة- مع تصاعد تحديات الأمن الوطني الإقليمي لوضع جعل مبضع الجراح الخيار الأخير لتصويب خلل ضارب في الإقليم بأسره، لتأتي النتيجة عاصفة.
صحيح أن "الحزم" كاسم اختيار موفق إن انعكس على أداء العاصفة وارتداداتها، غير أن كشف حساب شهرين من العمل العسكري حفل بجملة أخطاء تراوحت -برأينا- بين الحسابي والاستراتيجي والتنفيذي واللوجستي، ما يتطلب تحييدها إن كان المطلوب تفادي الاستنزاف الطويل لدول المنطقة أو عودة الجميع للمربع الأول للأزمة. وتاليا عشرة مما أمكن حصره من أخطاء:
الخطأ الأول: عاصفة تحريك لا عاصفة حسم، تعيد للذاكرة حرب رمضان/أكتوبر 1973. وذلك بدلا من كونها حرب حسم وقطع مع التمدد الإيراني في الجزيرة العربية والخليج، تشهد على ذلك كلمات الملك سلمان بن عبد العزيز خلال القمة العربية بشرم الشيخ حول الهدف منها في الأمل "بعودة مَن تمرد على الشرعية لصوت العقل، والكف عن الاستقواء بالقوى الخارجية والعبث بأمن الشعب اليمني العزيز، والتوقف عن الترويج للطائفية وزرع بذور الإرهاب"، وذلك بالانسجام مع توالي دعوات الحوار بما يُسبغ الشرعية على الحوثيين وحلفائهم المنقلبين برعاية إيرانية ودولية على الشرعية، لينتهي المشهد بالوقوع بفخ الجلوس مع الانقلابيين في مفاوضات جنيف برعاية دولية، أفصحت تصرفات مبعوثيها الدوليين في غير مناسبة عن انحياز واضح للانقلابيين مع تواطؤ صريح ضد مصالح دول تحالف عاصفة الحزم في إعادة الأمل.
الخطأ الثاني: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" يعيد قضايا الحريات والتصالح بين الأنظمة والشعوب لمربع التأجيل كونها لم تطرح للنقاش أساساً، رغم أن التعاطف الشعبي مع عاصفة الحزم كان يمكن استثماره -على الأقل- بالإعلان عن التوجه حلحلة أزمات الداخل بما يتصل بقضايا الحريات والمشاركة الشعبية والعقد الاجتماعي. ما حدث كان العكس، إذ المليارات أنفقت لتثبيت ثورات مضادة بمصر وسوريا والعراق وليبيا، -ودعم أخرى بتركيا-، وذلك على حساب مصالح التحالف العربي المشارك في عاصفة الحزم.
الخطأ الثالث: خيانة -كما ذاع في أكثر من منبر إعلام- من قبل دول منضوية ضمن تحالف عاصفة الحزم، سواء من خلال تسريب معلومات حساسة للخصم أو من خلال دعمه بالسلاح، استمرارا لدعم انقلاب الثورة المضادة على الشرعية في اليمن، وحيث لا تعتبر الثورة المضادة إيران -بذراعها الحوثي وحليفه صالح- خطرا، مقارنة بحزب الإصلاح المحسوب على تيار الاسلام السياسي المستهدف الأول من قبل الثورة المضادة.
الخطأ الرابع: تفكير استراتيجي دفاعي لدى دول تحالف الحزم يقابله تفكير استراتيجي هجومي لدى الخصم. يقول علاء الدين برودرجي رئيس لجنة الامن القومي الإيراني: “هذه النار سترتد على
السعودية لأن الحرب لن تنحصر في مكان واحد”. والسؤال هنا: عندما تنقل إيران الحرب للداخل العربي والخليجي -وهو ليس بالأمر الجديد، كيف يتعامى العرب عن نقل المعركة للداخل الإيراني بعمقه العربي الأحوازي والبلوشي وعمقه التركي الأذري والبختياري وعمقه الكردي بنفس الطريقة؟ أليس دعم الداخل الإيراني بما فيه الحرب بالوكالة الخيار الأسهل من باب تخفيف الضغط على الأقل؟
الخطأ الخامس: وهو ما أشرت إليه في نفس المقال محذرا من الأخطاء في اختيار أهداف القصف الجوي لطيران التحالف بما يترتب عليه من حشد المزاج الشعبي العام ضد عاصفة يغلب فيها الجوي على البري رغم أن المفروض هو العكس، وحيث يظل كسب لاعبي الأرض المحليين لصالح العمل البري هو الأصل.
نيران طيران التحالف الصديقة أصابت مسلحي القبائل خلال مواجهاتهم مع الحوثي في غير جبهة وفقا لتقارير الحلفاء. وبعض مخيمات النزوح تم قصفها وفقا لتقارير هيئات الإغاثة، والنيران وصلت المناطق السكنية القريبة من مخازن سلاح وضعها الحوثي وصالح عن قصد بين المدنيين رغم سعي التحالف لتجنبهم مقابل استهداف سلاح الحوثي وصالح الثقيل وقناصتهما المدنيين والاحياء والمرافق ودور العبادة وغيرها دون تمييز.
أما قصف طيران التحالف شيوخ قبيلة بكيل وهي أكبر قبائل اليمن عددا والثانية -بعد حاشد- نفوذا فيبدو خارجا عن السياق. إذ أن بكيل هي الاكثر من حيث الحضور السكاني في مدينة ومحافظة صنعاء ومحافظة الجوف كما تشكل نصف سكان محافظة عمران، ليمشي النجاح في استمالتها حجر الزاوية في نجاعة أي عمل بري.
ما يتردد هنا أنه في أعقاب رفض أعيان القبيلة مغادرة مربع حيادها المبدئي لصالح الاشتراك بالهجوم البري على الحوثيين، تم قصف مقرات بعض أعيانها من قبل التحالف، ما وضع بكيل ضد عاصفة الحزم. النيران الصديقة لم توفر مسلحي القبائل في جو من عدم الاطمئنان لنوايا الحليف الأمريكي، إذ لم يعد سراً أن طائراته بلا طيار التي تقلع من قواعد تعلوها يافطات الحوثي "الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل"، هي من يقصف مسلحي القبائل في أكثر من موقعة تكاد تحسم لصالحهم ضد الحوثي في الجنوب، بما يعزز الاعتقاد بتصادم أمريكي-إيراني في اليمن من جهة، وبرغبة الطرف الأمريكي في إطالة الحرب ومشاهد الدمار واستنزاف الجميع أطول زمن ممكن، على غرار العراق وسوريا.
الخطأ السادس: خلل فادح في التخطيط والتوجيه والدعم بحيث تمسي عاصفة الحزم هي من يقدم الدعم اللوجستي للخصم بدلا من حصاره وحرمانه السيطرة على طرق الامداد والمطارات والموانئ ومراكز التحكم والسيطرة كأبسط مفردات علم الحرب.
ومن الغريب هنا أنه وبدلا من تطهير الموانئ كالحديدة وميدي والمخا من سيطرة الحوثي مقدمة لتأمين إغاثة الشعب اليمني بالشمال، يتم تقديم المعونات للحوثي رسميا -بعد تفتيش سفن المعونات في جيبوتي بواسطة الأمم المتحدة- ليتم توزيع المعونات على أنصاره وآلياته العسكرية حصرا، فيما يُباع الباقي -عبر جيبوتي- في السوق السوداء بالقارة الإفريقية وصولا لكينيا على سبيل المثال. والنتيجة إدارة المحروقات الوافدة لآليات ومدرعات الحوثي وصالح،، مقابل تزايد الطوابير أمام محطات بيع الوقود، بالتزامن مع انقطاع الكهرباء المهترئة بنيتها التحتية أصلا، بموازاة معاقبة المدن الثائرة على الحوثي وصالح بالحرمان من المواد الغذائية وقنص من يسعون في مناكبها بحثا عن كسرة خبز.
الخطأ السابع ويتصل بما سبق: ويتمثل بسوء التعامل مع ملف عدن كعاصمة مؤقتة. فالظاهر هنا أن الحوثي وصالح كانا الأكثر إدراكا لأهمية ورمزية عدن كميدان لحسم صراع شرعية هادي الضعيفة أصلا، ليسارعا منذ البداية للضغط على عدن بتحريك قوتهما الضاربة الرئيسية في محاولة لإسقاطها. وعلى ضوء وجود المعسكرات والسلاح الثقيل في عدن بيد قوات صالح مقابل محدودية تسليح المقاومة الشعبية بموازاة عدم انتفاض صنعاء وأغلب مدن الشمال اليمني ضد الحوثي وصالح، كان المنتظر أن ينحى تعامل تحالف عاصفة الحزم مع اجتياح عدن منحى أكثر إيجابية، إن لم نقل مشابها لتعاطي الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا مع برلين -وقت السلم- برفدها بجسر جوي يؤمن كافة احتياجاتها وأسباب صمودها.
ما حصل أن الحالة العدنية عانت من نقص التسليح والذخيرة التي كانت تسقط جوا بكميات تطيل أمد الصراع فلا تصد العدوان. وفي مقابل الإغاثة البحرية الدولية للحوثي وصالح عبر ميناء الحديدة، لم تكن هناك إغاثة بحرية لعدن والجنوب عبر ميناء عدن أو عبر الواجهة البحرية الجنوبية الممتدة لمئات الكيلومترات.
أما براً فكانت الإغاثة الوحيدة تأتي أيضا للحوثي عبر حضرموت من عُمان والتي لم تكن محايدة في الصراع -وهو أمر مستغرب-. والمحصلة إمدادات للغزاة ومجاعة ودمار شامل ونقص تسليح للمدافعين.
وفي مجتمع مدني جنوبي غير قبلي تغيب عنه ثقافة السلاح يغدو اتخاذ المدنيين دروعا بشرية، أو إجهاز مسلحي الحوثي على المرضى والأطباء في المستشفيات، أو قنص الخارجين من صلاة الجمعة أو الباحثين عن لقمة عيش ومفقودين... تجارب تلقي بظلالها القاتمة حول إمكانية التعايش مستقبلا -بين فريقين وثقافتين- كما ترمي محادثات جنيف.
الخطأ الثامن ولأهميته يتطلب مقالا منفصلا: يتمثل في الفشل الذريع بتحريك الشارع الشمالي ضد الحوثي وصالح، وحيث يبدو تأييدهما واصطفاف الولاءات القبلية خلفهما أكبر بكثير من تأييد الشارع للعاصفة باستثناءات قليلة أبرزها مأرب وتعز والجوف. وحتى في تلك الاستثناءات تأخذ الحرب شكل الدفاع لا الهجوم الذي هو من اختصاص الحوثي وصالح. المحصلة أن الهجوم البري كنقطة محورية تكبح التغول الإيراني في اليمن بحاجة للكثير من المراجعة والتعديلات على صعيد التخطيط وشراء الولاءات والتجهيز والدعم والتسليح والتجييش والإمداد، باعتبار حرب البر من اختصاص أهل البلاد.
الخطأ التاسع: عدم تعديل أهداف عاصفة الحزم على ضوء المتغيرات والمستجدات على الأرض. فبعد تفجيرات المنطقة الشرقية من السعودية -في إطار تخادم لا تخطؤه العين بين قوى من بينها إيران وداعش اللتان أدانتها عاصفة الحزم-، ظلت الأهداف المعلنة بإعادة الحوثي -الذراع الإيران الضارب باليمن- كحزب سياسي غير مسلح -يتفاوض حول مستقبل البلاد- أهدافا غير واقعية، كون الأصل استبعادهم -وصالح- كعصابات إجرامية وإرهابية.
وكان من المتوقع إثر ضربات الحوثي بخاصرة السعودية الجنوبية نجران والجوف، تعديل استراتيجية إعادة الأمل لتتوسع -تخفيفا للضغط إقليميا على الأقل- صوب دعم ثوار قبائل السنة في العراق -لا اليمن فحسب- وبما يوازن الوضع على ضوء استهداف الداخل السعودي، وهو ما لم يحصل.
توقع المرء أيضا ممارسة مزيد من الضغط على إيران في سوريا بدعم فصائل الثورة السورية غير جبهة النصرة الموالية لتنظيم القاعدة -على الأقل- وهو ما كان دون المستوى المأمول. كما كان من المتوقع أيضا تحجيم -إن لم نقل إلغاء- الدعم المقدم للجيش اللبناني -بآجندته الطائفية الموالية لحزب الله والموالي بدوره لإيران- وهو ما غاب تماما! وبإضافة ما سبق لإطلاق يد الحوثي في الموانئ والمعونات الدولية، تترك عاصفة الحزم الانطباع بكونها عمل عسكري يعصف بخصمه وبأصحابه في وقت واحد.
الخطأ العاشر: التباطؤ في تفعيل تحالف سني يشارك عمليا في عاصفة الحزم ولا يكتفي بتأييدها فحسب. من مفاتيح ذلك حل جميع المسائل العالقة مع الجانبين التركي والباكستاني، متضمنة المنطقة الحرة الجمركية وتنحية النظام السوري ومعه الانقلاب المصري وتحجيم الدور الإيراني بالعراق بالنسبة للجانب التركي، وتقديم بدائل خليجية للغاز الإيراني المهم لقطاعي الطاقة والصناعة بالنسبة للجانب الباكستاني، وكلاهما لم يتحقق.
خلاصة القول أن الحزم والدلال -تحت شعار إعادة الأمل- لا يجتمعان. وبدون إجراء تغييرات جوهرية تصلح الحال بالنسبة للأخطاء العشرة، قد نشهد -لا قدر الله- يمنا جديدا بنكهة سورية عراقية، إن لم يكن خليجا جديدا بالنكهة نفسها… معادلة تنشدها أطراف دولية تلتزم -كلاميا فقط- بالأمن الإقليمي والخليجي.
* كاتب في شؤون الحريات والاستراتيجيات