على رغم وفرة الفرسان والشجعان الذين أطلقتهم الثورة السورية في ساحات التظاهرات السلمية ثم في ساحات الدفاع عن الشعب أمام سطوة القمع الدموية، إلا أن هذه الثورة لم تفرز قائدا من رحم معاناتها رغم دخولها عامها الخامس، وقد ظهرت شخصيات في المعارضة السياسية والعسكرية تمتلك سيرة ذاتية ووطنية محترمة إلا أنها لا تمتلك خبرة قيادية وإدارية كافية. كما أن جل الأعلام بينها هم مثقفون وبعضهم مغتربون أو ضاع شبابهم في السجون، أو يفتقدون ما يسمى "كاريزما القيادة" أو مواصفات الزعامة الوطنية الشاملة.
وقد نجد في هذا الفراغ القيادي دليلا على عفوية الثورة التي انطلقت مظاهرة احتجاجية على اعتقال أطفال في درعا، وقد قلت في غير مرة إن مبررات الثورة السورية جاءت بعد قيامها حين أتى الرد على المظاهرات السلمية عنفا شديدا غير مبرر، وهذه العفوية هي أحد أسرار غياب قيادة للثورة، حيث لم يكن هناك أي تنسيق جاد بين المتظاهرين الذين كانوا يخرجون بعد صلاة الجمعة من المساجد التي بدأ المتظاهرون يجدون فيها مناسبة التجمع، ثم بدؤوا يستخدمون وسائل الاتصال التقنية للتوافق على اسم لكل جمعة.
وبعد ذلك بدأت التنسيقيات بالظهور وكانت استجابة المحافظات بطيئة، لكن إقحام الجيش وحصاره لدرعا وقصة منع دخول حليب الأطفال إليها سارعت في انتشار الثورة، وبعض التظاهرات خرجت عبر تفاهم مع السلطة التي وعدت بعدم إطلاق النار على الناس. وقد حدث في حماه أن خرج نحو أربعمائة ألف متظاهر مع نسائهم وأطفالهم، وحين وصل المتظاهرون إلى أطراف نهر العاصي فوجئوا بسيل من الرصاص الذي خرق الاتفاق وحصد العشرات ثم حاصر الجيش حماه وتم دفع المظاهرات إلى التسلح بعد تصاعدت أعداد القتلى والجرحى. ورغم ملحمية القتال وأسطورية ما حدث في مسار الثورة.
إلا أنها لم تخرج من بين صفوفها قائدا عاما أو مناطقيا كما حدث في الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي التي أظهرت إبراهيم هنانو ويوسف العظمة وسلطان الأطرش وحسن الخراط وفوزي القاوقجي والدندشي وصالح العلي وسواهم كثير. كما أظهرت من القادة السياسيين الكبار هاشم الأتاسي وشكري القوتلي وفارس الخوري وعبدالرحمن الشهبندر والقائمة تطول، وبالطبع لا مجال لأية مقارنة أو مقاربة بين الثورتين، فالأولى رغم كونها ضد عدو خارجي فإنها لم تشهد شيئا يذكر أمام ما تشهده سوريا اليوم من دمار وعنف يفوق التصور.
وقد يقول قائل إن غياب الزعامات الوطنية وغياب القائد العام "الذي قد يجيء مستبدا" هو لصالح الثورة التي وجدت في القيادة الجماعية تعويضا عن هذا الغياب في تشكيلات المجلس الوطني ثم مجلس الائتلاف، ثم في المجالس العسكرية، ولكن التجربة جاءت بنتائج سيئة، بل كارثية، مما دعا الناس إلى الاعتراف بأن الثورة السورية يتيمة، ولاسيما بعد أن تم تدويل القضية السورية، وبعد أن حدث الخذلان الدولي بذريعة محاربة الإرهاب.
وقد تضاءل حضور الثورة بعد إضعاف قياداتها المناطقية وبعثرتها، لإبراز تنظيمات دينية بعضها متطرف وبعضها إرهابي وقد تم تهميش المعتدلين، والمفارقة أن بعض هذه التنظيمات وبخاصة المتطرفة سارعت لإظهار قيادات وزعامات تأمر وتنهى وأتيح لكثير أن يكونوا "أمراء حروب".
وقد يبدو في المشهد السوري اليوم من هم جديرون بمكانة قيادية ولكن الشرخ الحاصل في المجتمع السوري، الذي تمكن أعداؤه من تفكيكه دينيا ومذهبيا وطائفيا وعرقيا وسياسيا، جعل البيئة الراهنة غير قادرة على إنتاج قيادات متينة.
وألحظ هذا الضعف في المؤتمرات التي تعقد للبحث عن حلول ينوب فيها عن الشعب وثورته أشخاص كثير منهم من لا يملكون قدرة على القيادة، وهذا ما يجعل السوريين عامة في حالة غياب عما يرسم لهم الآخرون. ومع أن مباحثات "ديمستورا" شملت أكثر من أربعمائة شخصية سورية ولكنني أعتقد أنه لا يوجد بينهم من يستطيع أن يعتد بأنه قائد ثوري أو سياسي يملك رصيدا شعبيا. لقد أخطأ من شكلوا الائتلاف حين بنوه ضعيفا دون قواعد، وأخطأوا حين أضعفوه وهمشوه، فحرموا أنفسهم من أن يجدوا قيادة يلتف حولها الشعب ويقبل بما ترسم له في مستقبله. وما لم يجد الشعب تمثيلا قويا ومقنعا له فإن القضية لن تجد حلا، مهما رسم الآخرون.