كتاب عربي 21

التديّن الاستعراضي!

1300x600
لا تعرف ما إذا كانوا قد ذهبوا للعبادة، أم ذهبوا لقضاء إجازة الصيف على شاطئ الغرام؟!

فقد حرصوا على نشر صورهم "سلفي"، على مواقع التواصل الاجتماعي، وهم بملابس الإحرام، على نحو أفرغ الهدف من الحج ومن هذه الملابس من مضمونه، وكشف عن لون من ألوان التدين، هو "التدين الاستعراضي"، بعد أن عرفنا التدين المنقوص، والتدين المغشوش!.

الحج شعيرة الهدف منها أن يشعر من يقومون بها بالتجرد، وأن تختفي الأنا في هذا الزحام، وأن تسمو النفوس بعد أن خلعت ملابس الدنيا، وصار اللباس أقرب إلى هيئة الكفن، ليس فيه من زخرف الدنيا وزينتها شيء، لكن أنصار "التدين الاستعراضي" جعلوا منه ثوب مباهاة، بالتوسع في النشر، فلم تكن مجرد صورة للذكرى، ينظر إليها الحاج العائد بعد سنوات عندما يستبد به الشوق لزيارة المشاعر المقدسة، ولكنها صورا من كل مكان، وفي مواضع مختلفة، على نحو لا يمكن لمثلي أن يستوعب كيف لمن شغلهم تصوير أنفسهم، أن يخشعوا أو يخضعوا!.

"التدين الاستعراضي"، ليس ظاهرة حديثة، وإن كانت أدواته في التعبير والاستعراض هي الجديدة، ومع وجود كاميرا في يد كل إنسان، ومع وجود وسيلة للنشر تتمثل في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، بدا هذا اللون من التدين، يبدو وكأنه ظاهرة جديدة، من أناس صار لديهم هوس بتصوير أنفسهم، ليذكرني هذا بصديق قديم في بلدتنا، تلخصت كل أحلامه في أن تلتقط له صورة وهو نائم، عندما لم يكن في بلدتنا كلها سوى مصور واحد، نذهب إليه للتصوير، للأوراق الرسمية التي تحتاج إلى صور. الآن مع وجود كاميرا المحمول، أظن أن هذا الصديق قد حقق أمنيته القديمة والملحة!.

أكثر فريضة ارتبط بها "التدين الاستعراضي" هي فريضة "الحج"، وما نشاهده الآن هو تطور لهذه الظاهرة، مكنت له وسائل الاتصال الحديثة، وفي المجتمعات التقليدية، كان هناك من يستدين من أجل أن يحج، ليس بدوافع الورع، ولكن من أجل شراء لقب "الحاج"، والذي يغضب حامله، إن جردته منه عند التعامل معه، وقد عاصرت مرحلة كان فيها "الحاج" يخرج بالطبل البلدي، إلى محطة القطار، وهو في طريقه للقاهرة وللمطار، ويستقبل بمهرجان مثله عند العودة، وبطبيعة الحال يجري دهان واجهة منزله، مع كتابة العبارات الدالة على أنه قد حج بيت الله الحرام، وزار قبر النبي عليه الصلاة والسلام، ويكتب اسمه عليه مسبوقا باللقب الجديد "الحاج"، فإن كانت امرأة كانت الإشارة إلى أنها "حرم"، فلان، أو في الأغلب "المرحوم" فلان، إذ كانت "قرعة الحج" الحكومية تجرى بين الأكبر سنا، قبل ظهور أنماط جديدة من الحج، منها الحج السياحي، والحج السريع!.

وكان مما يزعج المرء أن يتقدم للحج فلا يصبه الدور، لأنه كان مستقرا في الأذهان، مأخوذا مما رددته سيدة الغناء العربي، "دعاني لبيته"، فمن كتب له الحج فإن الرسول قد دعاه، ولم يحالفه الحظ بعد أن تقدم له، فمعنى هذا فإنه صلى الله عليه وسلم لا يريده، ولهذا أنشد المتصوفة، على لسان من خلف عن الحج، فأرسل رسالة مع الحجاج للرسول:

قولوا له يا أحمد ومحمد.. عليل من الزوار عوقه ذنب!.

فالتعويق هنا مرده إلى ذنب، وربما إلى ذنوب، فكان لابد من إرسال رسالة مع مخصوص، يبلغ بها النبي بالسبب القاهر الذي منعه من زيارته، وهو يتمشى مع ما ظهر عليه "عمرو خالد"، إذ رأيناه يطلع على جمهوره، في مشهد استعراضي، عبر فيديو منتشر، ويسألهم إن كانوا يريدون شيئا من الرسول لأنه داخل إليه؟.. قبل أن يدلف إلى قبره، فيتبين أن هذا الزحام لا أحد، ليضعنا هذا أمام حج آخر، هو حج علية القوم، وقد شاهدناه في "بالكون" يرمي الجمرات في هدوء، بعد أن فقدت المناسك معناها، عندما يكون الهدف فيها أن يختلط جموع المسلمين من كل بقاع الدنيا دلالة عن الوحدة، وتأكيدا على المساواة، وتذكيرا بيوم الحشر، فصرنا نشاهد تمييزا في موضع التجرد فيه هو الهدف!.

لم يكن "عمرو خالد" ينتظر جوابا من جمهوره وهو يطلب من يريد شيئا من الرسول أن يبلغه إياه، فقد كان يمارس "التدين الاستعراضي"، الذي لم يعد قاصرا على عوام المسلمين!.

في طفولة مرحلة "التدين الاستعراضي"، وفي المرحلة البدائية، كان يتم التنافس للسفر للحج، على نحو أتذكر معه كيف لأحد الناس في بلدتنا ظل سنوات يتقدم بطلب للحج لكن في كل مرة فإن القرعة تستبعده، فلما يئس ذهب للعمرة، وفعل ما يفعله الحجاج من تلوين واجهة المنزل والكتابة عليها بما يفيد أنه حج بيت الله الحرام وزار قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وخروجا على المألوف. ولأنه كان مثار سخرية بما فعل، باعتبار أن العمرة ليست كالحج، فقد ذهب يدافع عن أهمية ما فعل، وكيف أنه أدى كل المناسك بما فيها الوقوف على جبل عرفات، ومن أجل إثبات أنه موضوعي، فإن الشعيرة الوحيدة التي قال إنه يؤديها وتجعل الحجاج متفوقين عليه، هي عملية رجم إبليس، وهون عليه أحد جلسائه الأمر، فليقم برجم فلان بالنيابة عن إبليس لأنه مسرف على نفسه، ولم يشاهد يوما في مسجد!.

ولأن من كان يريد أن يشاغبه يدخل له من زاوية أن العمرة ليست كالحج، فقد سافر للعمرة مرة ثانية ومكث هناك ثلاثة شهور وبالمخالفة للقوانين، وللتعليمات الأمنية السعودية ليتمكن من الحج!.

وهذه المخالفات القانونية صارت أمرا شائعا، فهناك من يدخلون إلى مكة من دروب وعرة، ويتعرضون للمخاطر لعدم استيفائهم للشروط القانونية التي تجعل لهم الحق في تأدية الفريضة، وهذا أمر يمكن لمثلي أن يتقبله، لكن ما لم أستوعبه، هو أن يكون الحج رشوة، من دولة، أو جهة، أو فرد، وقرأنا في قضية الرشوة المتهم فيها وزير الزراعة المصري السابق، كيف أنه طلب من الراشي سبعة عشر رحلة حج له ولأسرته، فسيادته قبل أن يؤدي الفريضة مصحوبا بالطرد من الرحمة الإلهية، فقد لعن الله الراشي والمرتشي!.

وإذا كان هناك من نظر إلى هذا التصرف بدهشة، فلأنه لم يبحث عن جذوره؛ ففي كل عام هناك بعثات للحج، تقوم بها وزارت مختلفة، وجهات حكومية في مصر معروفة، منها وزارة الداخلية والأوقاف، وتحرص كلا الوزارتين على اصطحاب مندوبي الصحف لديها، في كل عام، وفي بعض السنوات يستبدل رؤساء التحرير ونوابهم بالمحررين، مع بدلات سفر مجزية، وهي رشوة مقننة، وهو ما تقوم بمثله شركات السياحة، حتى صار لدينا صحفيون قد حجوا أكثر من عشر مرات على حساب الدولة، مع أن هناك فتوى من دار الإفتاء بأن الحج على نفقة دولة مديونية حرام شرعا، هذا بعيدا عن كونها رشوة!.

ومن باب التفاخر والوجاهة الاجتماعية، أعلن أحد رؤساء تحرير الصحف المصرية على صفحته على "الفيس بوك" أنه في طريقه لأداء فريضة الحاج، ضمن وفد رؤساء التحرير، وبدعوة كريمة من السفير السعودي بالقاهرة، فبدا الأمر كما لو كان لأول مرة، وهناك من كتبوا ينددون بذلك، إذ أن قانون الصحافة، وقانون نقابة الصحفيين، وميثاق الشرف الصحفي، يحظر على الصحفي قبول أي امتياز من جهة أجنبية مهما كانت. وقلت لمن اندهشوا من الدعوة، أنه أمر قديم، غاية ما في الأمر أننا أمام رئيس تحرير، محدث مكانه، وينتمي إلى نمط "التدين الاستعراضي"، فجهر بالمسكوت عنه!.

وأتذكر في السنة التي جرى فيها تحرير الكويت، أن تلقى رئيس تحريرنا دعوة للحج، ولأن الرجل لم يعرف عنه الاهتمام بمثل هذه الأمور، فقد كان هناك طلب جريء منه بأن يختار أحد المحررين للمهمة، ويا حبذا لو كان الاختيار بالقرعة، فصاح في الوجوه مذكرا بأنه "مسلم". وقد سافر للأراضي المقدسة وهناك تلقى دعوة بالسفر العاجل لحضور مؤتمر احتفالي في الكويت، فلم يكمل المناسك وتوجه من هناك للكويت!.

ولم تكن في السابق دعوات الحج مقصورة على رؤساء التحرير، فقد كانت تتجاوز بعضهم، وتشمل كبار الكتاب والصحفيين، ومنهم من كان يلبي ليس مدفوعا بتدين، ولكن احتراما للجهة الداعية، ويتندر "الوفد الصحفي" ذات عام، على صحفي شيوعي كبير، كان طوال الرحلة يسأل عن أهمية هذه الطقوس وجدوى ما يقومون به، مبديا عدم إيمانه بكل هذا!.

وهناك من تاجروا بهذه الدعوة، فأحد رؤساء التحرير قبل (20 عاما) وسط أحد قيادات وزارة الإعلام المصرية له لدى وزير الإعلام السعودي في دعوة للحج هو وزوجته، وعندما وصلته عقد اجتماعا حاشدا ليعرض الأمر على الزملاء، إن كان يسافر ويبيع قضية المصريين الذين يتعرضون للمهانة في المملكة؟ .. أم يتنازل عن دعوة يحتاجها لأنه يريد الحج لكن لا يملك نفقته من أجل كرامة المصريين. ولم يكن يريد أن يسمع وجهة نظر من يعملون تحت رئاسته فقد كان يريد الإعلان عن الدعوة ورفضها، والتي وصل بها خبر للأخ العقيد القذافي قائد الثورة الليبية، فأكبر هذا الرفض العروبي، وقام بتثمينه.. مسكين القذافي هذا فقد عاش طيبا ومات ساذجا!.

ما علينا، فظاهرة "التدين الاستعراضي" قديمة، وبدلا من أن كان الحاج يقوم بدهان واجهة منزله ليعلم القاصي والداني أنه حج بيت الله الحرام، فان القوم الآن يتصورون "سلفي"، وينشرون صورهم على "الفيس بوك"، بعد أن فقدت ملابس الإحرام الغاية منها وصارت وسيلة للمباهاة، وأصبحت المشاعر المقدسة كما لو كانت أحد الشواطئ!.

صبيا، كنت أندهش عند نقل الشعائر من البيت الحرام تلفزيونيا فأشاهد حجاجا عندما يشعرون بالكاميرات يلوحون بأيديهم لتحية أقربائهم من داخل المسجد الحرام، فقد كانوا على الفطرة، ولم أكن أعلم أننا سنعيش أياما يتصور فيها الحاج "سلفي"، وينشغل بذلك عن الخشوع والخضوع الواجبين!.

إنه "التدين الاستعراضي" في صورته الحديثة!

azouz1966@gmail.com