في الوقت الذي خلت فيه مواد النظام الأساسي لحزب
العدالة والتنمية التركي، من أي إشارة تدل على إسلاميته (بالمعنى المتداول في العالم العربي)، تكاثرت مواده المؤكدة لديمقراطيته والمادحة لعلمانية الدولة والنظام.
فقد نصت الفقرة الثامنة من المادة الرابعة من نظام
الحزب الأساسي على "أنه يجب على الدولة عدم اتخاذ موقف إلى جانب أو ضد أي اعتقاد أو فكر قط، وأن مبادئ المساواة أمام القانون والعلمانية الموجودة في الدستور ضمانا لهذا المفهوم ووجهة النظر هذه..".
وجاء في الفقرة الخامسة من المادة الرابعة، أنه "يرفض حزب العدالة والتنمية كل أشكال التمييز التي لا تتوافق مع أسس المجمتع الديمقراطي في علاقات الفرد بالدولة، ويرى في الدولة مؤسسة خدمة فعالة شكلها الأفراد من أجل خدمة الفرد.
حزب ديمقراطي محافظ وليس إسلاميا
ووفقا للكاتب التركي إسماعيل ياشا فإن "حزب العدالة والتنمية لا يصف نفسه "بالحزب الإسلامي"، بل قدم نفسه على أنه "حزب ديمقراطي محافظ"، ولا يستخدم في خطاباته شعارات الجماعات الإسلامية والإخوان المسلمين مثل "الإسلام هو الحل".
وأضاف ياشا: "كذلك فإن الحزب لا يستخدم رموزا تدل على الجهاد وتحكيم الشريعة مثل السيف، وإنما يرفع شعار الحرية والديمقراطية، واحترام المعتقدات وينشط منذ تأسيسه في إطار الدستور والقوانين،
وينادي بعلمانية غير متوحشة وغير متسلطة، ويقول إن النظام هو الذي يكون علمانيا لا الأشخاص".
وجوابا عن سؤال "
عربي 21": هل للحزب توجهات مضمرة لإقامة دولة إسلامية في حال تمكنه، قال ياشا "ليس في أجندة الحزب إقامة دولة إسلامية وتطبيق الشريعة، فهو حزب سياسي ملتزم بدستور النظام العلماني وقوانينه".
وتابع ياشا: "كما يسعى الحزب لخدمة الشعب التركي المسلم المعتدل في عمومه من خلال الإصلاحات الديمقراطية، وتوسيع دائرة الحريات ومكافحة العلمانية المتوحشة التي لا تحترم عادات المجتمع المسلم ومعتقداته، وكذلك من خلال مشاريع التنمية الاقتصادية التي تحسن مستوى معيشة المواطنين".
في السياق ذاته، أكد الكاتب الفلسطيني الباحث في الشأن التركي، سعيد الحاج ما قاله ياشا، مشيرا إلى أن حزب العدالة والتنمية لا ينتمي إلى الإخوان المسلمين لا تنظيميا ولا فكريا، مع تأثره ببعض كتاباتهم ورجالهم كما تأثر بغيرهم كذلك.
ورأى الحاج أن حزب العدالة والتنمية ليس حزبا "إسلاميا" بحسب المفهوم المتداول في العالم العربي،
وأدق توصيف يمكن إطلاقه على الحزب أنه حزب "ديمقراطي محافظ".
علمانية الدولة ومرجعية الحزب
كيف عالج حزب العدالة والتنمية إشكالية العلاقة بين الدين والدولة؟ أجاب الكاتب الصحفي الأردني محمد عقل المقيم في
تركيا بقوله "لقد تمرد مؤسس الحزب أردوغان على المدرستين الإخوانية والصوفية، واقترب عمليا من العلمانيين واللادينيين بالعمل معهم في المتفق عليه، والابتعاد عن المختلف فيه".
وأكد عقل في حديثه لـ
"عربي21" أن الحزب كمؤسسة ليس لديه أي طرح إسلامي، لافتا إلى أن المراقبين بدأوا يلاحظون في الآونة الأخيرة ارتفاع منسوب الدلالات الدينية في خطاب قادة الحزب بشكل فردي.
ما أشار إليه عقل من تمرد أردوغان على المدرسة الإخوانية، واجتراحه مقاربه مغايرة للأطروحة الإسلامية التقليدية، بدا واضحا في دعوته للمصريين حينما زار مصر بعد ثورة 25 يناير، إلى صياغة دستور يقوم على مبادئ العلمانية.
وقال أردوغان في برنامج حواري على إحدى الفضائيات: "في هذه الفترة الانتقالية وما بعدها أنا مؤمن بأن المصريين سيقيمون موضوع الديمقراطية بشكل جيد، وسوف يرون أن الدولة العلمانية (لا تعني اللادينية)، وإنما تعني احترام كل الأديان، وإعطاء كل فرد الحرية في ممارسة دينه".
وتابع: "لذا على المصريين ألا يقلقوا من هذا الأمر، وعلى المناط بهم كتابة الدستور في مصر توضيح أن الدولة تقف على مسافة واحدة من كل الأديان، وتكفل لكل فرد ممارسة دينه، العلمانية لا تعني أن يكون الأشخاص علمانيين، فأنا مثلا لست علمانيا، لكنني رئيس وزراء دولة علمانية".
وأضاف أردوغان شارحا مقاربة الحزب للعلاقة بين الدين والدولة: "99 في المائة من السكان في تركيا مسلمون، وهناك مسيحيون ويهود وأقليات، لكن الدولة في تعاملها معهم تقف عند نفس النقطة، وهذا ما يقره الإسلام ويؤكده التاريخ الإسلامي".
وعلى الفور رفضت جماعة الإخوان المسلمين في مصر، على لسان متحدثها الرسمي محمود غزلان، نصيحة أردوغان بتطبيق الدولة العلمانية، الذي وصفها بأنها "تدخل في الشؤون الداخلية لمصر"، وأضاف:"إن تجارب الدول الأخرى لا تستنسخ، وظروف تركيا تفرض عليها التعامل بمفهوم الدولة العلمانية".
من جانبه لفت الخبير في الحركات الإسلامية، والباحث في الفكر الإسلامي، حسن أبو هنية إلى أن جذور رؤية حزب العدالة والتنمية تعود إلى اطروحة المفكر الباكستاني فضل الرحمن، وأنه خلص إلى ذلك من حواراته مع منظري الحزب ومفكريه.
وأوضح أبو هنية أن إنتاج وكتابات فضل الرحمن ليست معروفة في بلادنا العربية، بينما أنتج الأتراك ما يقارب ألف بحث ودراسة عن فكره ومنهجيته التأويلية كما أخبره الأكاديمي التركي الدكتور برهان أوغلو.
وأشار أبو هنية في حديثه لـ"
عربي21" إلى أن رؤية حزب العدالة والتنمية خاصة في شقها التنموي والحداثي، ذات صلة وثيقة باطروحة فضل الرحمن الداعية إلى تحديث الفكر الديني كي يتوافق مع الحداثة، بالارتكاز إلى محورية القرآن وفق قراءة تأويلية جديدة.
وأرجع أبو هنية تشكل رؤية الحزب في بداياتها إلى ما نهض به مجموعة من الباحثين الأتراك المنتمين إلى "كلية الإلهيات" بأنقرة، المتأثرين بمدرسة المفكر فضل الرحمن، والذين كانوا يهدفون إلى صياغة نموذج يجمع بين الإسلام والحداثة بشقيها السياسي والفكري، تعاد فيه قراءة الإسلام وتأويل نصوصه الدينية، بعقلية نقدية تتوافق مع الحداثة.
وطبقا للكاتب التركي إسماعيل ياشا، فإن الإسلاميين في تركيا بمختلف أطيافهم يدركون أن حزب العدالة والتنمية ليس حزبا إسلاميا، بل هو حزب سياسي ملتزم بالدستور والقوانين، وأنهم حينما يصوتون له لا يفعلون ذلك لأنه سيقيم دولة إسلامية، وإنما يصوتون له لأنه الأقرب من بين جميع الأحزاب لتحقيق مصالح البلاد، والمواطنين، ولتحقيق أجواء الحرية التي تستفيد منها الجماعات الإسلامية.