يعد "الخُرم"، أحد تجليات مرحلة ما بعد
الحداثة، ويمثل استخدامه تطورا ملحوظا في
الخطاب السياسي بعد الانقلاب العسكري في مصر، ويمكن بالتالي أن يجري تقسيم المرحلة السياسية إلى ما قبل "الخُرم" وما بعده!
في أسبوع واحد جرى استخدام "الخرم" سياسيا مرتين، فلم يكن وزير السياحة المصري، هو أول من ذكره كما يتصور البعض، فقد سبقه إلى ذلك خطاب يساري، طالب بالتمسك بعبد الفتاح السيسي، بعد أن ظن القوم أن العالم الغربي فقد حماسه له، بعد فشله في مواجهة الإرهاب، الذي كان محتملا، فصار بفضل سياساته واقعا، فواجهه على طريقة "شجيع السيما أبو شنبه بريمه"، ولم يكد يعلن أنه تحت السيطرة، حتى سقطت الطائرة الروسية، ليقف الغرب على الحقيقة المؤلمة، وهو أنه أضعف من أن يواجه الإرهاب، ضعف الطالب والمطلوب!.
وإزاء هذا، فقد نادى الخطاب اليساري، لضرورة التمسك بالسيسي، لسد "الخُرم"، وإلى أن "يحلها الحلال"، ويتم البحث عن بديل مناسب، يمكن به "سد الخُرم" في مواجهة التيارات الإسلامية، التي بات من المتفق عليه لدى القوى المدنية أنها الأقدر على حسم الانتخابات رغم الضربات التي تلقتها على يد حكم العسكر في مصر، ورغم التهوين منها والحديث عن أنها انتهت، وأن الشعب المصري أدار لها ظهره!.
وظني أن وزير السياحة، وهو رجل لا علاقة بالسياسة، عندما وجد هذا الخطاب اليساري، الذي استخدم مفردة "الخُرم"، فقد اعتبر أن استخدامها هو عنوان المرحلة، ما دام اليسار المعروف، باستخدامه للكلمات والعبارات الضخمة الفخمة، قد استخدم اصطلاح "الخُرم"، فإن هذا يعني، أنه مفردة "عميقة"، فكان من الطبيعي أن يستخدمها، وأعلن أنه سيسد للبريطانيين "الخُرم"، حتى يضبطهم متلبسين بالكذاب، واستدعي المثل المصري الدارج: "خليك وراء الكذاب لحد باب الدار"، دون أن يذكر هذا "الخُرم" الذي سيسده، لكي يفقد الإنجليز الذريعة التي تجعلهم يوقفون السياحة لمصر.
لا تثريب على وزير السياحة، إن ظن أن "الخرم" عبارة مفهومة ومكتملة، فالرجل بلا خلفية سياسية، ومن المؤكد أنه "عام على عوم" الخطاب السياسي سالف الذكر، وإن كان البأس الشديد، هو هذا الخطاب اليساري، الذي يتمسك بقائد الانقلاب العسكري، وممثل الثورة المضادة، من باب "سد الخُرم"، وهو ما يكشف عن معضلة اليسار المصري، وللدقة يسار المنطقة عموما، الذي صار بضعفه أداة لتقوية مواقف الحكام المستبدين، وضد الديمقراطية، وغطاء للثورة المضادة، فهم يعلمون أن حضورهم الجماهيري لن يمكنهم من شيء، إذن لا هم ولا غيرهم، وعليه فإنهم يتمسكون بالأنظمة المستبدة، راعية الفساد، والتي تقود الدول في طريق التبعية، ويرونها أ الأفضل، لسد "الخُرم"، إلى حين أن يتمكن اليسار من إثبات نفسه، ليحكم هو، أي أن سياسة "سد الخرم"، لن تكون استثنائية، لأن اليسار لن يحكم ولو انتظرنا ليوم القيامة!.
وإذا كان الفريق اليساري الانتهازي، انحاز لمبارك بكل إجرامه وفساده، باعتباره البديل للتيار الإسلامي، فإن اليسار الثوري انحاز للسيسي، على أساس أنه قادم من مؤسسة الوطنية المصرية، فلما تبين أن الرجل جاء لمهمة تدمير مصر خدمة للمصالح الاستعمارية التي جاءت به، تحول إلى شيء مطلوب في حد ذاته وفق قاعدة "سد الخُرم"!
هذا الكلام يقال، بعد أن تضحت معالم المهمة المكلف بها عبد الفتاح السيسي، وتآمره على الأمن القومي المصري، بتواطؤه في موضوع سد النهضة، الذي سيحرم مصر من حصتها التاريخية في نهر النيل، ويجعل من سريان الماء بأي قدر هو من حق من بيده "عقدة النكاح" في تل أبيب. كما أنه يأتي بعد تمهيده الأجواء لمجيء القوات الدولية إلى سيناء، بعد أن ثبت دوره في حماية أمن إسرائيل على حساب أهلنا في سيناء.
ويقال هذا الكلام كذلك، بعد دوره في الانحياز للرأسمالية المتوحشة على حساب حقوق الفقراء، الذين ازدادوا فقرا في عهده.
والمعنى، أن من يسدون به "الخُرم"، ليمنعوا الشعب من اختيار حاكمه بإرادته الحرة، هو يسير في اتجاه كل القيم والأفكار التي يؤمن بها اليسار، فماذا بقي لليسار من قيم بعد تبني خطاب "سد الخُرم"؟!
وفي الواقع، أن معضلة اليسار ليست شأنا مصريا فقط، ففي تونس يتبنى القوم هناك الأجندة الفرنسية، في مواجهة اختيار الشعب، وفرنسا لا تزال تنظر للمغرب العربي على أنه مستعمرات قديمة، لا بد من أن تخضع لها وهذا لا يتحقق عندما يكون من حق المواطن أن يختار حاكمه ومن يمثله في السلطة.
وفي
تركيا، جزء كبير من اليساريين
الأتراك، هم أداة في يد الولي الفقيه في إيران، ليمثلوا الطابور الخامس، الممول من طهران، ليعاند الشعب التركي وخياراته التي تتمثل في من أسقط حكم العسكر، ونهض باقتصاد البلد، ومثل عنوانا لعزها.
لا بأس فاليسار يرى أن "سد الخُرم" مقدم على جلب المنفعة!
azouz1966@gmail.com