في مثل هذه الأيام منذ خمس سنوات مرَّتْ
مصر بيوم من أعظم أيامها، هو يوم جمعة الغضب، الثامن والعشرين من يناير عام 2011، وفي هذا اليوم المجيد انتصر الشعب لأول مرة على جهاز
الشرطة القمعي الفاسد، وكان بإمكان المصريين أن يذبحوا رجال الشرطة ذبحا لو أرادوا ... مجانا ... بلا عواقب !
ولكن المصريين لم يفعلوا ذلك، وتصدر شباب
الثورة لحماية هؤلاء الظلمة، وأصبحت مصر على أبواب مرحلة جديدة عنوانها التسامح.
أدعوك عزيزي القارئ إلى قراءة مقالتين كتبتهما في فترة سابقة (في بدايات ثورة يناير)، الأولى بعنوان (أخي ضابط الشرطة لا تصدقهم)، وقد نشرت هذه المقالة في صفحة الرأي بجريدة الأهرام المصرية (كنت أكتب فيها مقالة أسبوعية حينذاك ... صدق أو لا تصدق!!!)،
هذا رابط المقالة.
وهذا نص المقالة : لمن لا يستطيع أن يفتح الرابط:
(برغم عدائي الشديد والمعلن للنظام السابق، إلا أنني كنت أفرق بين النظام من حيث هو نظام وبين الأفراد الذين يعملون داخله، فلم أكن أسمح لمشاعري بالشطط، ولم أكن أحب أن أحمل المسؤولية للجميع بنفس القدر، لذلك لم أكن أتعامل مع رجال الشرطة وكأن مشكلة شخصية بيني وبينهم، بل كنت من دعاة تحييد أجهزة الأمن في معركتنا مع النظام .
صحيح أن الوقت لم يتسع لمسألة التحييد تلك، وقامت ثورة يناير قبل أن ننجح في منع الصدام بين الشرطة والشعب، ولكن هذا ما كنا نخطط له على الأرض، ولا زال في درجي عدة دراسات عن كيفية عزل مبارك وكبار رجال دولته، بحيث يشعر رجال الشرطة أنهم جزء من الشعب، وأن ولاءهم للأمة لا لرئيس أو وزير، وأنه لا مصلحة لهم في الدفاع عن هؤلاء الفسدة .
لي أصدقاء في جهاز الشرطة من أعز وأحب أصدقاء العمر، بعضهم تمتد صداقتي معه لأكثر من ثلاثة عقود، أعرفهم وأعرف آباءهم وأمهاتهم، وإخوانهم وأخواتهم، وزوجاتهم وأبناءهم وبناتهم .
لكل ما سبق، أحب أن أرسل رسالة مخلصة لإخواني المصريين من عساكر وصف ضباط وضباط الشرطة، وأخص بهذه الرسالة ضباط الشرطة من الرتب الصغيرة والمتوسطة .
أخي ضابط الشرطة ... لا تصدق من يقول لك إن مبارك هو الذي جلب لك الكرامة، وأنك الآن بلا كرامة بسبب رحيله، لقد جلب مبارك ونظامه لك الكره، وصدَّرَكَ في المواجهات مع الناس في كل كبيرة وصغيرة بالظلم حتى كرهك الشعب، وتأكد أن كره الناس لا ولن يزول مرة واحدة، بل على مراحل، أدِّ واجبك ليشعر الناس بالأمان، وحينها ستشعر أنت باحترامهم وحبهم لك .
مبارك لم يأت لك بالعزة والكرامة، بل هو من تسبب في كل ذُلٍّ حدث، وكل إهانة وجهت لك ولوزارتك بعد أن قامت الثورة .
أخي ضابط الشرطة ... إن المطلوب منك الآن أن تقول (لا لمخالفة القانون)، لا أن تقول (تمام يا أفندم) .
سيقول لك بعضهم اضرب لأن هيبة الدولة تضيع، لا تصدقهم .
هيبة الدولة تأتي بالتراضي، لا بالإرهاب، لذلك قل: (لا لمخالفة القانون) لكل من يأمرك بمخالفته، وتأكد أنك حين تخالف القانون لن يزيد مرتبك، ولن يرتفع معاشك، ولن يتحسن تأمينك الصحي، ولن يصبح أبناؤك أغنى أو أكرم، بل سيُخَزِّنُ الناسُ حقدَهم عليك وعلى مؤسستك حتى ينفجر هذا الحقد مرة أخرى، وسينفجر بشكل أكبر .
إن هيبة الدولة لا تأتي بالعصا، بل بالاحترام أولا، ثم بالعصا بعد إذا استلزم الأمر، والمثل يقول : (من طالت عصاه، قلـَّتْ هيبته)، لذلك تأكد أن العصا تزرع الخوف، ولا تنبت الهيبة، والخوف لا يظل إلى الأبد، بل ينكسر إن عاجلا أم آجلا، وبعد انكسار الخوف ستدفع أنت الثمن وحدك .
أخي ضابط الشرطة، لا تصدق من يقول لك إن هذا الشعب لا يمكن حكمه إلا بالكرباج، فأنت منذ شهور تعيش الحقيقة المرة التي تقول إن الكرباج يتقطع في يد صاحبه، ولكن ظهر المجلود يبقى مجروحا، فيشعر برغبة في الثأر، فكيف ستدافع عن نفسك ضد آلاف المجلودين وقد تقطع الكرباج من كثرة الجل؟
أخي ضابط الشرطة، تأكد أن إصلاح وزارة الداخلية ممكن، ولكن هناك من يقف ضد هذا الإصلاح، والهدف من ذلك أنه يريد أن يستخدمك مرة أخرى في أهداف فاسدة ضد إرادة الأمة، وضد سيادة القانون .
أخي ضابط الشرطة، سيقول لك البعض إن الحل في مزيد من العنف، وإنك حين تفعل ذلك تفعله من أجل مصر، وإنه دون ذلك (البلد تولع)، لا تصدقهم، فهم من قالوا لك قبل ذلك إن هذا الشعب لن يتحرك مهما فعلنا فيه، وهم من ضمنوا لك أن أحدا لن يحاسبك مهما فعلت، وكانت النتيجة أنك تتحمل مسؤولية معركة لا ناقة لك فيها ولا جمل .
أخي ضابط الشرطة، لقد كنت تخوض المعارك وترتكب الأخطاء من أجل أن تزيد ملياراتهم في أرصدتهم في الخارج، وحين انهارت الدولة وجدت نفسك وحدك محاصرا في قسم أو مديرية، وحولك ألوف من الغاضبين من بني قومك، فكن أبيا ذكيا ولا تسمح لأحد باستغلالك كي لا يتكرر هذا المشهد .
أخي ضابط الشرطة، أنت موظف في الدولة، ولك كل الاحترام، وهذه الدولة ملك للجميع، ومهماتك في هذا الجهاز مصانة بالقانون، فاعتصم بالقانون، ولا تخالفه مهما حدث .
ستعيش شريفا، وسعيدا، وستموت راضيا مرضيا .
سيقول لك البعض وأنت تحرس لجان الانتخابات كلاما قيل لك قبل ذلك، أرجوك، لا تصدق هذا الكلام لأنك اكتشفت كذبه من قبل .
أخي ضابط الشرطة، كل من يأمرونك بمخالفة القانون كاذبون، وكل من يقنعونك بأنك مضطر لتنفيذ الأوامر ضد سيادة القانون كاذبون .
أخي ضابط الشرطة ... لا تصدقهم ...!)
نشرت هذه المقالة في سبتمبر 2011، وأقسم أنني كتبتها بقلب متسامح مفتوح، والحقيقة أن الغالبية العظمى من هذا الشعب العظيم كانت تمني نفسها ببداية جديدة، ولكن ما حدث كان مختلفا تماما، وتم تنويم الشعب من أجل تجهيز الخطة الجهنمية للثورة المضادة، لكي تعود الشرطة إلى
موقعها، سكينا في يد سفاح !
كانت ردود الأفعال على المقالة مذهلة، لقد هاتفني ضباط كثيرون، أغلبهم لا أعرفهم، واستحسنها
ضباط كثيرون التقيت بهم بالصدفة، وبعضهم أشاد بالمقالة حين قابلته بعد نشرها بشهور طويلة.
وكان من أغرب ردود الأفعال هو أنني شاهدت بعيني بعض المواطنين يوزع المقالة في شوارع القاهرة وميادينها، بعد أن طبع منها نسخا .. على المارة ... وعلى رجال الشرطة أنفسهم !!!
هل كانت مؤسسات الدولة تنوي أن تلتزم بالقانون كما تمنينا، وكما نصحناها عبر عشرات المقالات والبرامج؟
الحقيقة المرة أن نية تأديب الشعب كانت مبيتة من الأيام الأولى للثورة، وغالبية أجهزة الأمن أضمرت الرغبة في الانتقام ولم تتنازل عنها.
في 16 يناير 2012 كتبت مقالة أخرى بعنوان (التحريض المباح) ... أرجو من القارئ أن يصبر على قراءتها،
هذا رابط المقالة.
وهذا نص المقالة لمن لا يستطيع أن يفتح الرابط :
تقول المقالة:
(غريب أمر المجلس الأعلى للقوات المسلحة !
يحاول إقناعنا بأنه مع الثورة، ثم نراه يفعل الأفاعيل في الثوار، ويحاول أن يقنعنا أنه حمى الثورة، ثم
نراه يحرض على قتل الثوار.
فوجئت منذ ما يقرب من أسبوعين بفيديو منتشر على المواقع الاجتماعية لأحد كبار اللواءات، يتحدث علنا أمام الناس، وبلا أدنى حرج، محرضا على قتل الشيخ القرضاوي!
اللواء معروف بالاسم، وهو أحد نواب اللواء الرويني قائد المنطقة المركزية، ويظهر في هذا الفيديو وهو يحرض تحريضا صريحا على قتل الشيخ.
قرابتي لفضيلة الشيخ منعتني من الحديث في الموضوع، ولكني أجد نفسي مضطرا للحديث بعد أن وصلت الأمور إلى درجة لا يمكن السكوت عنها.
إذا كان عقاب المحرضين أن يحقق معهم مثل الشيخ مظهر شاهين أو الدكتور أيمن نور أو الأخ طارق الخولي وغيرهم، فلماذا لا يحقق مع هذا اللواء البطل المغوار؟
الثوار الذين يحقق معهم لم يثبت عليهم أي شيء، بينما هذا اللواء يدينه تسجيل حي بالصوت والصورة، والجميع يعرف اسمه وعمره وموقعه الوظيفي.
من الذى يملك أن يحقق مع أيمن نور وأن يستثني هذا اللواء المحرض على قتل أناس، أحذيتهم خير من كثير ممن يزعمون الوطنية؟
أنا لا أتحدث بصفتي طرفا في الموضوع، ولكن أتحدث لأن الأمر زاد عن حده، وهذه التصرفات الرعناء توشك أن تحرق مصر.
لا يقولن أحد لي إن من قدموا للتحقيق فعلوا وفعلوا، سأسلم بذلك، هم مجرمون «رغم أن ذلك لم يثبت بعد»، ولكن ها هو محرض آخر طليق، وكان تحريضه ذلك في شهر فبراير، أي قبل أن يبدأ
مسلسل القتل أصلا، لأن من في الفيديو يتحدثون عن ضرورة إقالة حكومة شفيق، وبالتالي إذا كان لنا أن نستنتج شيئا من هذا الفيديو، فنحن نستنتج أن القتل أمر موجود في ذهن قادة القوات المسلحة، وأنهم ليسوا بالبراءة التي يدعونها، وإلا ما تحدث قائد رفيع عن الشيخ القرضاوي قائلا بمنتهى الصفاقة «اقتلوه، ما قتلتهوش ليه، هو جاي يعمل إيه»!!!
إن سلامة رموز الأمة في رقبة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأي أذى يمس أي شخصية عامة ستكون في رقبة المجلس العسكري، وإذا كان التحريض على العنف جريمة، فلنحاكم الجميع، ولنر من البادئ، لأن البادئ أظلم.
أتمنى ألا يخرج علينا أحد الجهابذة لكي يقول لنا إن تحريض المدنيين حرام، وتحريض العساكر مباح.
إننا نثبت الجرائم عليهم، وهم طلقاء، بينما أبناؤنا الثوار في السجن بلا دليل.
لنا الله !)
من خلال المقالتين السابقتين ... أستطيع أن أقول إن القادم أسود، وإن الناس قد أعطت فرصة تاريخية عظيمة لمؤسسات الأمن المصري لكي تعدل من سلوكها، ولكي تثبت احترامها للقانون، وأبت هذه المؤسسات إلا أن تتمادى في إجرامها، فعادت أسوأ مما كانت، وأصبحت ترتكب خطايا لم تحدث في تاريخ هذا البلد، ولا توجد قوة في العالم تستطيع أن تسيطر على الغضب الكامن في نفوس الشعب المصري تجاه الشرطة، وتجاه سائر أجهزة الأمن، بل وتجاه سائر المؤسسات التي تورطت في انقلاب الثالث من يوليو، حتى أصبح القتل والتعذيب وانتهاك الأعراض والاستيلاء على الأموال ... أصبحت كل تلك الممارسات حلالا للدولة (أفرادا ومؤسسات).
إن يوم الثامن والعشرين من يناير سنذكره كنزهة لطيفة جدا مقارنة بما سيحدث حين ينتفض الناس، بسبب الإجرام الذي ارتكبته الشرطة بعد انقلاب الثالث من يوليو !
أقولها من الآن : واجب العقلاء وواجب شباب ثورة يناير ألا يسمحوا للرغبة في الانتقام بالسيطرة على المشهد، وأن يبدأوا ببناء دولة القانون مع أول لحظة من لحظات انهيار حكم الاستبداد العسكري، وأن يكون هدفنا العدل لا الانتقام، وأن نطبق القصاص لا الثأر !
حفظ الله مصر والمصريين من شر حكم العسكر ...
عبدالرحمن يوسف
موقع إلكتروني : www.arahman.net
بريد إلكتروني : arahman@arahman.net