وَقَّعَ المغربُ فعلا شراكة إستراتيجية مع جمهورية الصين الشعبية في ختام زيارة العاهل
المغربي لهذا البلد الكبير يومي 10 و11 مايو 2016 ، شملت 16 اتفاقية غطّت القطاعات المفصلية في البلدين، من قبيل الاقتصاد والتجارة، والبيئة، والطاقات المتجددة، والسياحة، والثقافة، والتعاون العسكري والأمني، والاستثمار في القطاع الخاص. والواقع أن العلاقات المغربية الصينية، التي تجاوزت نصف قرن، شهدت توقيعَ أكثر من 250 اتفاقية ثنائية على امتداد هذا التاريخ، كما تميزت بزيارات رسمية متبادلة بين الطرفين، غير أنها ظلت محكومةً بسياقات لم ترق إلى السياق الذي تعرفه اليوم، من حيث النضج والجاهزية للانجاز.
نتذكر فقط أن منذ بداية الألفية الجديدة، شهدت العلاقات المغربية الصينية زيارتين للعاهل المغربي عامي 2002 و2016، وزيارة لوزير الخارجية الصيني، وقد وُجهت دعوةٌ رسمية للرئيس الصيني " شي جين بينغ"، من المنتظر أن ترى طريقها الى التنفيذ في الشهور المقبلة، ناهيك عن عديد الزيارات التي قام بها مسئولون كبار من البلدين. ثم إن السياق الإقليمي والدولي تغيرت الكثير من معطياته، لاسيما بعد الإعلان الرسمي للصين عن علاقاتها الإستراتيجية مع أفريقيا، وسعيها الحثيث إلى مُناظرة منافسيها في هذه القارة، من قبيل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. لكن بالمقابل، ثمة متغيرات جديدة خاصة بالسياق المغربي نفسه، فعلت فعلَها في اتجاه الانتقال إلى مرحلة نوعية في العلاقة بين البلدين.
من هذه المتغيرات وجود نقطة مشتركة بين المغرب والصين، وإن بدرجة مختلفة، مفادُها العمل على ترجيح البُعد الاقتصادي على غيره من الأبعاد. فمصدر قوة نجاح الصين في علاقاتها الدولية المتنامية تحررها من الهاجس الإيديولوجي و "العَقَدي"، وبحثها الدؤوب عن مصادر تنمية الاقتصاد والاستثمار على قاعدة " رابح رابح". لذلك، نجحت في اختراق معظم مناطق العالم بعد تخلصها من إرثها الإيديولوجي. والواقع أن المغرب شرع بدوره في السير على خطى هذا النهج، أي التحرر تدريجياً من هيمنة العلاقات الدولية التقليدية مع أوروبا وفرنسا تحديدا، وإلى حد ما الولايات المتحدة الأمريكية، والتخطيط لعلاقات متنوعة شرقا وغرباً، لعل آخرها الزيارة الملكية لروسيا والزيارة الحالية للصين، بل إن العاهل المغربي لم يتردد في الإعلان صراحة عن هذا التوجه في القمة المغربية الخليجية الملتئمة في المملكة العربية السعودية قبل أيام، حيث شدد بما لا يترك مجالاً للشك على أـن " المغرب ورغم حرصه على الحفاظ على علاقاته الإستراتيجية بحلفائه، فقد توجه في الأشهر الأخيرة نحو تنويع شركائه، وفي هذا الإطار تندرج زيارتنا الناجحة لروسيا، كما نتوجه لإطلاق شراكات إستراتيجية مع الهند وجمهورية الصين الشعبية.."، ليضيف "فالمغرب حر في قراراته واختياراته ، وليس محميةً تابعةً لأحد".
والواقع أن من يتابع بعمق التطورات الحاصلة في المغرب، ويُقيم بموضوعية منحنيات التغييرات المحققة في هذا البلد، لن يتردد في الجزم بأن ثمة من المبررات ما يسمح للمغرب بالدفاع بشجاعة عن رؤيته الجديدة للشراكة الدولية ومتطلباتها، اعتمادا على ما له من مؤهلات متنوعة ومتكاملة. فمن منظور الأمن والاستقرار ـ وهو متغير بالغ الأهمية بالنسبة لبيئة المال والأعمال ـ يمثلُ المغرب وجهةً جاذبة للاستثمار الدولي، وبلداً مشجعا على النجاح. كما أن موقعه الجيو استراتيجي مميز بفُرادة خاصة، من حيث كونُه ملتقى تقاطع أهم التيارات التجارية وهمزة وصل بين أكبر القارات : أوروبا، إفريقيا، العالم العربي، والفضاء الأطلسي. وإذا أضفنا إلى كل ذلك الانطلاقة الاقتصادية الواعدة من خلال البرامج المهيكلة الكبرى التي خُطِّطَت للعقود القادمة، نُدرك بملموس القيمة المُضافة التي ينطوي عليها المغرب بالنسبة لشركائه الكبار من قبيل جمهورية الصين الشعبية.
ما يميز الإعلان المغربي الصيني والتوقيع على الشراكة الإستراتيجية يوم الأربعاء 11 مايو 2016، تحديد المغرب والصين القطاعات الأكثر إستراتيجية وحيوية وربحاً بالنسبة لهما معا. فلو أخذنا بعضاً منها على سبيل المثال، وتساءلنا عن الإسقاطات والنتائج الناجمة عنها، لأدركنا أهمية أن نرتبط مع العملاق الصيني بمصالح متبادلة مبنية على الاحترام والاستفادة المتبادلة.ففي مجال السياحة، وهو من القطاعات الإستراتيجية بالنسبة لبلدنا، عرفت الصين طفرة نوعية كبيرة في إقدام مواطنيها على السفر خارج قارتهم، إذ قارب عددهم عام 2010 الستين مليون، ويُنتظر أن يصل هذا الرقم المائة مليون سنة 2020. لذلك، جدير بالمغرب الذي يروم الوصول إلى جلب عشرين مليون سائح إلى بلده في السنين المقبلة، أن يشتغل على هذه الإمكانية التي تفتحها الشراكة المنتظرة بين البلدين. والواقع، أن تحقيق هذا المشروع بالغ الأهمية يقتضي متطلبات تعززه وتيسر انجازه من قبيل إقامة رحلات جوية منتظمة بين البلدين، وتسهيل إجراءات الدخول إلى أراضي البلدين، علما أن المغرب أعلن من جانب واحد عن إلغائه تأشيرة الولوج إلى ترابه الوطني. إلى جانب ذلك، هناك قطاعات ريادية مثل الطاقات المتجددة، والصناعات الالكترونية، والبنيات التحتية الأساسية (طرق سيارة، وجسور ، ومطارات)، وأيضا مجالات البناء، والمصارف، والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. وفي الإجمال ثمة آفاق كثيرة تخدم البلدين و تجعل علاقاتهما خيارا استراتيجياً. فموقع المغرب بالنسبة للصين أكثر من مهم، لاسيما اذا استحضرنا الحضور الصيني الكثيف في إفريقيا، والمكانة التي يحظى بها المغرب في دول غرب إفريقيا وجوارها. إن الزيارة الملكية للصين أكثر من واعدة، وللمغرب اليوم كل المقومات للدفاع عن رؤيته في تنويع شراكاته بكل إصرار وثقة في النفس.