وكأنه "سلق بيض"، فقد ظهر علينا "
نادر بكار" القيادي بحزب "النور السلفي"، وقد هذب لحيته، حتى بدت في مستوى لحية "فادي لبنان"، زوج الفنانة "صباح"، وهو يعلن أنه حصل على درجة "الماجستير" من جامعة "هارفارد"، وذلك في أقل من سنة من التحاقه بها!
أتذكر، عندما أفزع السلفيون الشارع السياسي ببداوتهم، وكأنهم قدموا تواً من جبال "تورا بورا"، كيف كنت أطمئن الخائفين، أنه لا شيء يخيف، وأن ما نشاهده هو البداية، وسوف ينخرط القوم في الحياة السياسية بالتدريج، وأن علينا أن نستوعبهم، ولا ندفعهم لأن يذهبوا بعيداً، ولم أكن أعتقد أنهم سوف يستقيمون أكثر مما ينبغي، ويركنون للذين ظلموا في جبهة الإنقاذ، التي كانوا يتهمون قادتها بأنهم علمانيون، يحاربون الإسلام، ويعادون العقيدة، بل ويقدمون أنفسهم لواشنطن على أنهم "البديل" للإخوان، وأنهم على استعداد لأن يكونوا رجالهم، فتكون البداية، بمنحة من واحدة من أهم الجامعات الأمريكية، للقيادي "بكار"، تمكنه من الحصول على "الماجستير" بهذه السرعة، فيتخلى عن مظهره السلفي التقليدي، فيحف اللحية، ولن يفزعنا والحال كذلك، إن ظهر القوم يعلقون سلاسل في أعناقهم ويمضغون "اللبان الدكر" كمقدمة، لتعاطي لبان "شكلس". ولغير
المصريين فإن "اللبان" هو عامية "العلكة"!
لا أعرف، ما إذا كان حصول "بكار" على درجة الماجستير في "الإدارة الحكومية"، هو وفق منهج الدراسة في هذه الجامعة العريقة، أم أنه تحصل على "الدرجة العلمية" وفق نظام الـ"تيك أوى" المعمول به في شتى مناحي الحياة الأمريكية، وفق قاعدة تخليق "أطفال الأنابيب"، وما يستلزمه هذا من سرعة، ولا نعرف ما إذا حصل على "الدرجة العلمية" على دراسة أعدها، أم أن "الماجستير" وفق الدراسة المنتظمة ونظام الساعات المعتمدة؟.. فما رأيناه هو صورة لـ"بكار"، بمعطف التخرج من الجامعة، وقد زف لنا البشرى عبر صفحته على "تويتر" بأنه حصل على "الماجستير"!
ما أعرفه، أن "بكار"، حصل على المنحة من "هارفارد"، بالتنسيق مع وزارة المالية المصرية، التي رشحت فتى السلفيين الأول لها، وتحملت الدولة المصرية تكاليف الدراسة والسفر، ولم يتم الإعلان عن كيفية وقوع الاختيار على "بكار"، وهو لم يكن أحد الطلبة المتفوقين، ولم يكن "معيداً" بالجامعة يتأهل لـ "الماجستير"، وقد تم الإعلان عن مسابقة للمنحة ففاز بها من بين المتسابقين، وفق شروط معينة.
فالشاهد، أن المطلوب من جهة الجامعة الأمريكية، هو "بكار"، الذي تخرج في كلية التجارة قبل سنوات، بتقدير عام مقبول، ولم تكن له تجارب ناجحة أو فاشلة في الدراسات العليا.
واللافت هنا، أن "بكار" لم يكن وحده، الذي حصل على هذه "المنحة" وإنما حصل عليها "معجزة العسكر" الفتى "محمد بدران"، مؤسس ما يسمى "حزب مستقبل وطن"، الذي أسسته الأجهزة الأمنية، ليكون الحزب الأول في ما سمي بالانتخابات البرلمانية، لقطع الطريق على رجل الأعمال نجيب ساويرس، من أن يكون حزبه "المصريون الأحرار" هو الحزب الأول من حيث عدد المقاعد الحزبية في هذا البرلمان!
وهذا الاختيار للمنحة كاشف عن أن الأمر ليس هدفاً تعليمياً، فواشنطن تصنع نخبتها للمستقبل، لأن حكم العسكر في مصر، يمثل عناداً مع روح العصر، وإن قبلت به الولايات المتحدة الأمريكية، والأوربيون، فإن هذا جاء على قاعدة "المضطر يركب الصعب"، ولا بد للغرب أن يعمل حساباً للحظة التي يسقط فيه حكم العسكر، وكل الدلائل تشير إلى أن فشل المؤسسة العسكرية في الحكم بعد انقلاب يوليو 2013، أسقط نظرية "الجيش المقدس" في وجدان المصريين، وبالشكل الذي إذا تخلى فيه عن استخدام القوة، فليس مضموناً أن يبقى في الحكم لحظة واحدة!
ولأن واشنطن في عجلة من أمرها، فلا بد من أن تكون مستعدة لصناعة نخبتها بسرعة فيتحصل أحدهم على "الماجستير" في أقل من سنة، وفي مثل هذه الأيام من العام القادم سوف يحتفل بحصوله على "الدكتوراه"، فيكون مستوفياً الشكل، باعتباره تعلم تعليماً راقياً في واحدة من أهم الجامعات في العالم، وليس مهماً بعد ذلك ما إذا كان التعليم جاداً أم لا. فلديهم تجربة سابقة في منح نجل العقيد الليبي معمر القذافي "الدكتوراه" من جامعة "جورج تاون"، والذي جرى تقديمه على أنه الخيار المدني لنظام والده والوجه الصبوح بحكم تعليمه الراقي، وقرأنا كثيراً في سياق "الزفة" التي نصبت له عن ثقافة الفتى التي هي على النقيض من ثقافة والده، ثم قامت الثورة ليتبخر "البديل الأمريكي" في لحظة، ويسقط الغلاف الخارجي، فإذا بمن تعلم في واحدة من كبرىات الجامعات الأمريكية هو "الخالق الناطق" والده، وإذا كان "الوالد" قد دعا لمطاردة الثوار: "دار دار.. بيت بيت.. زنقة زنقة"، فإن الفتى قاد المليشيات التي قامت بمطاردتهم، دفاعاً عن حكم أبيه، فلا وجود لرأي الشعوب المعتمد غربيا.
لم يكن "بكار" و"بدران" هما أول عملية "تخليق" لنخبة موالية في مصر، فقد بدأ هذا منذ بداية ظهور "الإمبراطورية الأمريكية"، التي ورثت الاحتلال الإنجليزي، ورأت وقد أطلق عليها "زعيمة العالم الحر"، أنه لا يليق بها أن تواصل الاستعمار المباشر، لا سيما وأن كلفته باهظة، فكان لا بد من قطع المسار المدني، بنخبة عسكرية صنعتها على عينها من صغار الضباط، الذين قاموا بحركة ضباط الجيش في 1952!
لم يخف أحد أن هناك تنسيقاً تم بين السفارة الأمريكية ومن سموا بالضباط الأحرار، ولهذا فإن كل من كانت لديهم ارتباطات بالإمبراطورية الوليدة، قد أيدوا الانقلاب العسكري مع أن السلطة الجديدة جارت على الحريات العامة، ونكلت بالخصوم السياسيين، وهذا ضد "الثقافة الأمريكية"، وإذا كان السحر قد انقلب على الساحر، فقد مكن الانقلاب وما تبعه من حروب وصراعات، من تحقيق أهداف الاستعمار المباشر وهو إرهاق الجمهورية الناشئة بكلفة الحرب، وتبعاتها، ما زاد من تخلفها، لتسقط "التفاحة" في عهد الرئيس السادات في "الحجر الأمريكي"، كما كان مقرراً منذ مساندة العسكر في الانقلاب على الملك!
في عهد مبارك، كان الاتجاه الأمريكي هو خلق نخبة في الشارع، وعدم الاكتفاء بالموالاة في السلطة، ولأن ثقافة الـ"تيك أوي" لا تميل إلى صناعة العميل على العين، فشراء العبد ولا تربيته، وقع الاختيار على "شباب جاهز"، وتم التقاط أكثر العناصر اليسارية راديكالية، فقد كان الساسة القدامى، الذين هم "خدم" لمن يدفع قد نبت "لحم أكتافهم" من التمويلات الخارجية، ومن بلاد عربية بعينها، تعد "ليبيا والعراق" في القلب منها، فلجأت الدوائر الغربية إلى الأكثر تشدداً، وربما بحكم كونهم من الشباب، فجاءوا بعد الاكتفاء الذاتي لهذه الدول من العملاء، فكان أن التقطتهم واشنطن، والدول الغربية، ومنهم من شارك في تنظيمات شيوعية، وأكثرهم من الذين اتهموا في قضية "التنظيم الناصري المسلح"، وكان الباب الذي جرى تمويلهم منه هو مجال المنظمات الحقوقية، لا تنسى أن الأب الشرعي لدكاكين حقوق الإنسان في مصر هو "الناصري المتقاعد" سعد الدين إبراهيم، وإن كان الآخرون ظلوا إلى الآن وهم يتم تمويلهم من خصوم عبد الناصر، يدعون تمسكهم بناصريتهم!
ونشأت لهذا حركة حقوق الإنسان، ممن لم تكن قضية الحقوق شاغلهم في يوم من الأيام، لكنها "السبوبة" و"أكل العيش"، ولهذا كان سهلاً أن يتخلوا عن هذه القضية وينحازوا للعسكر، ويتصدروا المشهد ليبرروا القتل، والإبادة الجماعة، التي جرت في "رابعة"، بل ويذهبون للمحافل الدولية، ليدافعوا عن انتهاك حكم العسكر لحقوق الإنسان، وقبل هذا غضوا الطرف على جرائم مماثلة قام بها الأمريكيون في بغداد، على نحو فاضح أرق الضمير الإنساني، فلم يتوقف الأمر عند احتلال العراق، وإنما امتد لينتهك "المحتل الأمريكي" أعراض الرجال في سجونه!
بعد مرحلة التأسيس للنخبة الأمريكية في القاهرة، ومع بداية الحراك السياسي في 2004، وجدت السفارة الأمريكية أنها بعيدة عن هذا الحراك، الذي شكل حركة "كفاية"، من غير النخبة الأمريكية، فقد كان أعضاء الحركة من إسلاميين ويساريين، لا يزال خطابهم العام، ضد واشنطن، ويرى أنها هي التي تحمي مبارك. عندئذ، كان السعي الأمريكي للتواجد وسط الحراك، وجاءت نشأة حركة 6 أبريل رمية بغير رام!
كانت مجموعة من الشباب قد دعت للإضراب العام في يوم أعلن فيه عمال المحلة الإضراب، وإذ تم القبض على من قيل إنها تزعمت الحركة، فقد انهارت الفتاة أمام جهات التحقيق، ونفت علاقتها بكل شيء. يقال إن فتاة أخرى جرى اعتقالها وتوجيه نفس الاتهامات لها، لكن لأنها كانت أكثر صموداً، فقد وقع الاختيار الأمني على هذه "المهزوزة"، لأنها الأفضل لهم للتعبير عن الحركة، فلا تكون أداة جذب!
بيد أن السفارة الأمريكية التي كانت تبحث عن أي وجود في الحراك، تلقفت هذه الفتاة، بعد الدعاية الإعلامية التي صاحبت خروجها وحديثها عن حسن معاملة الشرطة لها في برامج تلفزيونية، ودعتها للسفر للولايات المتحدة الأمريكية!
وثارت ثائرة آخرين رأوا أنهم الأحق بالسفر، فليست "إسراء عبد الفتاح" من دعت للإضراب، وكل فرد يدعي أنه هو، وإذ تشكلت حركة 6 أبريل فقد انشقت إلى حركتين، قبل أن تصبح ثلاث حركات، إحداها أعلنت قبل الانقلاب أنها ستشكل حزبا!
هذا الخواء، الذي أثبتته هذه "الخناقة" على "سفرة" لواشنطن، أثبتت للسفارة الأمريكية أنها وجدت بغيتها، فواشنطن مثل العسكر في مصر، يقلقهم أصحاب المرجعيات الفكرية ويطربهم الخواء، فكان القرار بسفرهم جميعاً!
وبدأ استدعاء شباب للسفر والحصول على دورات تدريبية، في عدد من العواصم الأوربية كستار لعملية التقاط "العملاء" ودعمهم، وقامت ثورة يناير وأحيط بالإدارة الأمريكية، وأعلنت الخارجية الأمريكية في اليوم الأول مساندتها لنظام مبارك، وقالت إنه باق ومستمر، لكن الثورة نجحت فادعت واشنطن وصلاً بها، ودعمت "وائل غنيم" الذي كان ظهوره مريباً، في تأليف كتاب عابر للقارات من حيث دور النشر التي مولته، عن الثورة، وكان غريباً أن يؤلف كتاباً ضخماً عن ثورة لم يشارك في المحطات الرئيسة فيها!
كانت دعاية نظام مبارك تقوم على أن ما جرى هو فعل خارجي قام به عملاء، على نحو دفعني لمواجهة هذه الدعاية من أول يوم جرى فيه استدعاء هذا "الخواء" للخارج على أنهم "شباب الثورة المصرية"، وكنت في الميدان، وفي مداخلة تلفزيونية وعلى وقع أخبار عن أن هناك من ذهبوا ليتفقوا باسم الثورة مع رئيس الحكومة و رئيس المخابرات، قد صككت عبارة رددتها كثيرا بعد ذلك: "إن الثورة لم تفرز زعامات ولكنها أنتجت مطالب"!
وأذكر عندما اشتد هجومي على هؤلاء الذين تحتفي بهم دوائر غربية باعتبارهم الشباب صاحب الثورة، اتصلت بي زميلة معاتبة، وهي تقول "دع الشباب يفرح ويسافر"، وقلت لها إنني أخشى أن تستغل علاقة هؤلاء بالخارج فيتم تكريس الدعاية التي يقوم بها العسكر بأن الثورة مؤامرة خارجية، فإذا سلمنا بأن هؤلاء هم من قاموا بالثورة فإنه عندما يتعرف الرأي العام على العلاقات والتمويلات، فسوف يصدق هذه الدعاية السوداء!
لقد بدا لهذه الدوائر الغربية أنهم كانوا ينفخون في "قربة مقطوعة"، فكل رهان انتخابي يحصده الإسلاميون، ولا ذكر لرجالهم، فعادوا من جديد يقفون مع خيارهم القديم "النخبة العسكرية"، وهو الخيار الذي يحمل بداخله الآن جينات الفناء، وإن طال الزمن، فكان لابد من البحث عن بديل مدني، فوقع الخيار على "بكار" و"بدران" ليمثلا "وجه القفص"، بلغة تجار الخضار، وربما يتم انتقاء شخصيات أخرى!
"بكار" و"بدران" صاحبا تجربة انتخابية، لكنهما من أبناء تجربة الولادة القيصرية، فشعبية حزب "النور" أثبتت الانتخابات الأخيرة أنها في القاع، ولولا حماية العسكر في انتخابات غير تنافسية، لما تحصل حزب "مستقبل وطن" على كل هذه المقاعد!
في كل مرة يصوم فيها الأمريكان يفطرون على بصلة!