مات "أحمد مدحت" الطالب المتفوق بكلية الطب، جامعة عين شمس، قتلته الفئة الباغية، التي أوغلت في دماء المصريين، فلم ترقب فيهم إلا ولا ذمة.
المعلومات عن الطالب الذي كان على وشك الانتهاء من دراسته الجامعية، شحيحة، فقط شقيقه هو الذي أعلن أن قوات الأمن هي التي قتلته، قبل أن يكتب عنه بعض أصدقائه على صفحات التواصل الاجتماعي، رثاء حيث شهدوا بأدبه، وتفوقه، وقد كانت جنازته كاشفة عن مكانة الفتى بين أصدقائه وجيرانه!
اختفى كبار السن، إلا من عدد محدود، وظهر الشباب في مشهد تشييع جنازته؛ من المنزل، إلى المسجد، إلى المقابر. فالشباب هم من حملوا النعش على أعناقهم، والشباب هم من ازدحم بهم المسجد، والشباب هم من وقفوا على جثمانه، انتظاراً لانتهاء عملية حفر المقبرة، التي ستحتضن جثمانه.
ربما كثيرون من كبار السن امتنعوا عن تشييع جنازة الشاب "أحمد مدحت"، بعد علمهم بأن الشرطة هي من قتلته، كبار السن هؤلاء هم الذين مثلوا عقبة في طريق التحرر الوطني، منذ أن كان الاستعمار جاثماً على الصدور، إلى أن ورث عملاؤه الحكم. وعندما شاهدت هؤلاء الشباب، وقد كانوا متقاربين في العمر، أيقنت أن الأمل في انتصار الثورة لا يزال قائماً، لا يضر هؤلاء من ضل وسعى للعيش مضطراً تحت رايات الظلم!
تماما، كما فعلت وزارة الداخلية، مع الشاب "خالد سعيد"، الذي مات مقتولاً على أيدي زبانية الشرطة، وقد أصرت على أنه مات نتيجة ابتلاعه لفافة بانجو. لقد قال بيان للداخلية إن "أحمد مدحت" مات عندما داهمت شرطة الآداب شقة للدعارة، فهرب بالقفز منها، فقد كان يجلس في انتظار دوره عندما جرت المداهمة!
تعثر "خالد سعيد" دراسياً، واجتماعياً ساعد في قبول البعض لرواية الداخلية، لكن "أحمد مدحت" تبين أنه من الأوائل على دفعته في كلية الطب، بجامعة عين شمس، وهي واحدة من كليات القمة في مصر، ليجعل هذا الحزن مضاعفاً، فأهل "أحمد" قاموا بتربيته والاهتمام به وأنفقوا عليه من دماء قلوبهم حتى يحقق هذا التفوق العلمي، ليكون "آخر صبرهم" أن أصبح جثة هامدة وضحية لحكم الفشلة وزبانيته في وزارة الداخلية، الذين يجمعون بين الجهل والإجرام!
لقد تبين أن "أحمد مدحت"، كان قد سبق اعتقاله بتهمة المشاركة في المظاهرات التي خرجت تندد بالانقلاب العسكري، وإذ أخلت النيابة سبيله، فلم يعلم أنها لم تحفظ القضية ولكنها أرسلتها للمحكمة ليصدر الحكم غيابيا بسجن طالب الطب المتفوق، وقد تم القبض عليه تنفيذاً لهذا الحكم!
الشاهد، أن قوات الأمن لم تكتف بعملية القبض على الفتى، لكنها قامت بتعذيبه والتنكيل به، مما أدى إلى كسر ونزيف في الجانب الأيسر من الجمجمة، مع وجود رغاوي في الفم، بحسب تقرير الطب الشرعي.
ولم تكن رواية "شقة الدعارة" هي الرواية الأمنية الوحيدة، فقد سبقتها رواية أخرى تتلخص في أن الطالب قفز من سيارة الشرطة "البوكس" بعد القبض عليه، فجرى ما جرى، لكن بعد تفكير انتهى بهم الأمر إلى ضرورة التشهير به، وتقديمه للرأي العام على أنه كان في شقة لممارسة الأعمال المنافية للآداب وقد داهمتها الشرطة، فقفز هو من النافذة، ليلقى حتفه في الحال!
اللافت، أنه لا يوجد ما يفيد أن "شبكة الآداب" تم إلقاء القبض عليها، ولا يوجد ما يفيد أن جهات التحقيق باشرت عملها معها، تمهيداً لتقديم عناصرها للمحاكمة، فكل ما قيل أن إحدى المتهمات أصيبت، دون ذكر أي تفاصيل، عن أسباب إصابتها، ولم تقل الوزارة مثلا أنها قفزت خلفه من النافذة، وربما أغمى عليها من فرط شعورها بالندم وتأنيب الضمير!
ملف التلفيق الذي تقوم به وزارة الداخلية متخماً بكل ما هو مسل ومضحك، باعتبار أن شر البلية ما يضحك، وقد شاهدنا كيف أن أحكاماً صدرت بسجن متهمين بارتكاب عنف في مصر، في فترة معينة، ليتبين أنهم ماتوا قبل هذا التاريخ بسنوات، أو أنهم في السجون الإسرائيلية، كما شاهدنا أطفالا وقد تم توجيه الاتهام لهم بالعمل على قلب نظام الحكم بالقوة، ووقف العمل بالدستور، وقد شاهدنا هذا الشيخ الضرير، وقد تم توجيه الاتهام له بأنه قناص محترف قنص عدداً من ضباط الشرطة، ولم تجد أجهزة الأمن نفسها مضطرة لتقديم كشف بأسماء الضباط الذين قنصهم هذا الشقي، فرمل نساءهم، ويتم أطفالهم، فيكفي أن النيابة تقر هذا الاتهام وتقضي بحبس المتهم احتياطيا، حتى إذا حكمت المحكمة ببراءته، يكون قضى في السجن ثلاث سنوات بدون كلمة اعتذار!
هذه وقائع حدثت مؤخراً ولا تزال في الذاكرة، لكني سأروى واقعة قد تكون قديمة إلى حد ما، وتعود إلى منتصف التسعينيات، لتقفوا من خلالها على العقليات التي تحكم وزارة الداخلية!
كانت الوزارة قد ابتدعت ما سمي بمركز الإعلام الأمني الذي كان يتعامل مع وسائل الإعلام ويرد على ما ينشر فيها ضد الممارسات الأمنية!
لفت انتباهنا في جريدة "الأحرار" أن كل الرسائل المرسلة من القراء وتشكو من تجاوزات رجال الشرطة يتم الرد عليها بأن صاحب الشكوى مسجل خطر، وأنه تم القبض عليه في قضايا مخدرات، وما إلى ذلك، مع وضع أرقام لهذه القضايا. ولا توجد وسيلة للرد على هذا الكلام، الصادر من جهة رسمية، وإن جاءت ردود الوزارة لتشابهها مثيرة للانتباه، فلم يحدث أن جاء رد يفيد أن هذا الشاكي على حق في شكواه، وأنه مواطن صالح خلافاً للآخرين وأنه جرى محاسبة المشكو في حقه!
ولأنه ليس في كل مرة تسلم الجرة، فقد وقع القائمون على مركز الإعلام الأمني في شر أعمالهم، فقد حدث أن كتب الكاتب الصحفي سليمان الحكيم في عموده عن أزمة حدثت معه عند تعامله مع أحد ضباط الشرطة، ولم ينتبه القوم بأنه كاتب صحفي وليس واحداً من عموم القراء، وأنه كاتب مقال وليس صاحب شكوى في باب "هموم الناس"، فكان الرد بأن سليمان الحكيم هذا مسجل خطر، وأنه سبق اتهامه في الاتجار في المخدرات، وأن الضابط كان على رأس قوة للقبض عليه تنفيذاً لحكم قضائي بسجنه فارتكب جريمة مقاومة السلطات، كما أنه هارب من التجنيد!
ما علينا، فعندما توجه وزارة الداخلية هذا الاتهام على سفالته لأحمد مدحت الشاب المتفوق في دارسته، وبعد أن قضى نحبه على أيدي الزبانية، فليس جديداً عليها، إنما اللافت أن القوى المدنية لم تكترث بهذه القضية، لأن "أحمد" لا ينتمي إليها لتصنع منه زعيماً، وفي المقابل فلم ينشغل به الإخوان، ربما لأنهم نظروا إليه على أنه حادث متكرر ويحدث كل يوم منذ وقوع الانقلاب، فضلاً عن أنه لم يُعرف عن "أحمد مدحت" انتماؤه للإخوان أو للتيار الإسلامي.
لم ينعقد الإجماع على تحويل "خالد سعيد" إلى "أيقونة لثورة يناير"، فالراحل في سلوكه العام ما يؤخذ منه ويرد، فضلاً عن أن أداء والدته لم يكن على مستوى هذه المكانة، وقد غدرت بالرئيس مرسي الذي كرمها وذهبت للتقرب إلى عبد الفتاح السيسي بالنوافل، حتى أغلقوا الباب في وجهها بعد أن انتهت مهمتها، لكن "أحمد مدحت" بتفوقه الدراسي، وبأدبه الذي شهد به أقرانه، يصلح أيقونة لثورة جامعة.
لقد قتلت عصابة السيسي "أحمد مدحت" وآن لها أن تعلم أنها ارتفعت به أيقونة لثورة تجمع ولا تفرق، ولثوار يصرون على القصاص، ومحاكمة أصحاب الأيدي الملطخة بالدماء، ولا يتقربون للقتلة بالنوافل.