منذ أن قتل ثلاثة جنود أتراك وجرح آخرون بتاريخ 24 تشرين أول/ نوفمبر الماضي والتحليلات السياسية تتوالى لمعرفة الأسباب والجهة التي قامت بهذا الهجوم، مع عدم وجود اعتراف رسمي من أحد، باستثناء تنظيم داعش الذي يدعي أنه أسر جنديين تركيين بعد الحادث الأول أيضًا.
ورغم احتمالية قيام داعش بقتل الجنود الأتراك بحكم الصراع الواقع بينهما منذ حملة درع الفرات قبل أشهر على أقل تقدير، وقد حرر الجيش السوري منها بعض المدن السورية الشمالية بدعم تركي، بدءا من جرابلس ودابق وغيرها، والمعركة بينهما لا تزال مستمرة في أرياف مدينة الباب، وبالتالي فإن الأمر يمكن أن يعتبر جزءا طبيعيا في معركة تدعم
تركيا طرفا فيها ضد طرف آخر.
ولكن الأمر لم تتم قراءته على هذا النحو في البداية، لأن الحكومة التركية سارعت بالإشارة إلى احتمالية أن تكون قوات تابعة للأسد هي التي هاجمت الموقع، وتحدثت تكهنات أخرى عن احتمالية تعاون
روسيا مع قوات الأسد أو انفرادهم بالحادث، ما أثار تكهنات أخرى أكثر قلقا مع روسيا أيضا.
ولكن الحكومة الروسية وبقيادة بوتين شخصيًا لم تترك مجالا للتكهنات التي تتهم روسيا بالحادث أن تتوسع، وصدر نفي رسمي أكثر من مرة من روسيا ومن بوتين شخصيًا، وحيث إن حكومة الأسد لم تصدر بيانًا يثبت أو ينفي تورطها بالحادث إلا أن الرئيس بوتين استبعد أن تكون طائرات الأسد هاجمت موقع الجنود الأتراك، ثم عاود ونفى أن يكون جيش الأسد قد قام الهجوم، وبعدها ذهبت الأنظار إلى المستفيد الآخر من قتل جنود أتراك في
سوريا.
وبدت التساؤلات عن مصلحة قوات التحالف الدولي الذي تقوده أمريكا بهدف توجيه رسالة إلى القوات التركية بعدم تجاوز الحدود التي تسمح بها أمريكا والقوات التي تدعمها من قوات سوريا الديمقراطية وأشباهها من مليشيات حزب العمال الكردستاني، والتي تنازع الجيش السوري الحر في الاستيلاء على شمال سوريا، والتي تعتبر أن عملية درع الفرات تستهدفها أكثر من غيرها.
كل هذه الاحتمالات تناولتها تحليلات الأسبوع الماضي، وكاد أن يصل الرأي الراجح منها على أن المستفيد الأول من استهداف الجنود الأتراك شمال سوريا هي
إيران، فالمذكورون سابقا لهم مصالح باستهداف تركيا في سوريا، ولكن المستفيد الأول من وجهة نظر الكثيرين هي إيران، لأنها تجد في المشروع التركي مشروعا مضادا لمشروعها شمال سوريا وفي كل سوريا أيضًا، بل وفي شمال العراق واليمن والخليج والمنطقة أيضًا.
وبالتالي فإن توجيه إيران هذه الرسالة إلى تركيا أمر محتمل ومقبول، وبالأخص أن هناك دلائل على تواجد طائرة إيرانية من دون طيار قرب الموقع ليلة الحادثة، ولكن ذهاب وزير الخارجية التركي إلى طهران بعد الحادثة بأيام قليلة دليل على أن احتمال تورط الحكومة الإيرانية لحسن روحاني بالحادثة مستبعد، وبالتالي فإن المحتمل أنه يحمل رسالة إلى طهران وإلى الحكومة السياسية الرسمية بأن التحركات العسكرية أو الأخطاء العسكرية التي قد تقوم بها المليشيات الإيرانية في سوريا ضد الجنود الأتراك أمر غير محتمل، وينبغي ألا يتكرر إطلاقًا، وينبغي للحكومة السياسية أن توجه رسالة إلى الحرس الثوري الإيراني في سوريا برفض التعرض للجنود الأتراك في شمال سوريا، لأن تواجدهم في سوريا لا يستهدف المليشيات الإيرانية، وإنما يستهدف المليشيات التابعة لداعش أولًا، والتابعة لحزب العمال الكردستاني ثانيا، والتي هاجمت الأراضي التركية من قبل، سواء كانت من مليشيات حزب العمال الكردستاني أو من توابعه من حزب الاتحاد الديمقراطي الذي تعمل إيران لزيادة التعاون معه في سوريا والعراق، أو لغيرها من المليشيات التي تستهدف الأمن القومي التركي.
فإيران لا مصلحة لها بتقديم خدمات للأحزاب الكردية المعادية لتركيا لا في سوريا ولا في العراق، وإلا فإنها سوف تدخل دائرة العداء التركي أيضًا، بينما عملت تركيا خلال السنوات الماضية ولا تزال على اعتماد سياسة دفاعية ضد الأعمال العدائية التي ترتكبها العناصر الإيرانية المعادية لتركيا، والمأمول أن تتحكم الحكومة الإيرانية الرسمية ومعها حكومة الحرس الثوري الإيراني أيضا، أن تتحكم بعناصرها ومليشياتها داخل سوريا والعراق وغيرها بعدم التعرض للأمن القومي التركي، والانسحاب إلى بلادها وترك الشعب العربي يقرر مصيره بنفسه.
(نشرت في "بوابة الشرق" القطرية)